خبر التقرير الدولي" تنقصه النزاهة لكنه يمنحنا فرصة جديدة

الساعة 02:07 م|24 يونيو 2015

فلسطين اليوم

التقرير الدولي« تنقصه النزاهة لكنه يمنحنا فرصة جديدة

أطلس للدراسات

بالأمس نشرت اللجنة الأممية الخاصة بالتحقيق في جرائم حرب صيف 2014 على غزة تقريرها، الذي انتظرته الضحية بأمل ورجاء وانتظره القاتل بقلق وخوف، لكنه جاء أقل قلقًا للجلاد وأقل رجاءً، وربما حمل خيبة أمل، لضحايا الجريمة التي استمرت أكثر من خمسين يومًا.

إسرائيل التي تنتهج سياسة معادية لكل لجان التحقيق الدولية، بغض النظر عن طبيعة مهمتها وحجم التفويض والصلاحيات الخاصة باللجنة أو عن أعضائها ورئيسها لإدراكها المسبق ان أي لجنة تحقيق أو تقصي حقائق، مهما كانت ديبلوماسية، فإنها لابدّ ستضطر حتى وفقًا لأقل المعايير الخاصة بجرائم الحرب وحقوق الانسان أن تدين الانتهاكات الإسرائيلية أيضًا لتبني إسرائيل نهجًا يقوم على الهجوم الفظ على المنظومة الدولية لحقوق الانسان من باب ان الهجوم سيعفيها من مواجهة الحقائق، ولأنها أيضًا لا زالت تشعر انها فوق القانون ومحمية بما يكفي.

قبل نشر تقرير اللجنة؛ قامت إسرائيل بنشر تقرير مضاد عن الحرب دعمته بشهادات بعض أصدقائها من عتاة القتل والاجرام من جنرالات ملطخة أيديهم بدماء الأفغان والعراقيين، كان ملخصه ان الجيش الإسرائيلي هو من بين الجيوش الأكثر أخلاقية في العالم، وانه - أي الجيش الإسرائيلي - ألزم نفسه بمعايير أخلاقية وإنسانية أكثر تشددًا من المعايير الدولية في كل ما يتعلق بتحذير المدنيين والامتناع عن إلحاق الضرر بهم، وحتى لو كان ذلك على حساب أمن جنوده.

وبعد نشر التقرير مباشرة؛ شن نتنياهو هجومًا كبيرًا على التقرير وعلى من يقف خلف تشكيل اللجنة، ووصفه بالتقرير المنحاز والمباع سلفًا لصالح الفلسطينيين، وأن قراءته مضيعة للوقت، لكن وزارة الخارجية التي يرأسها هو شخصيًا أصدرت بيانًا جاء فيه أنها ستدرس التقرير وتفحص توصياته.

الإعلام الإسرائيلي ومعظم كتاب أعمدة الرأي وصفوا التقرير بغير المنحاز واعتبروه مخفف عن غولدستون، وطالبوا المستوى الرسمي بالتعاطي الجدي مع توصيات التقرير الخاصة بوجود شبهات بانتهاك القانون الدولي في بعض العمليات الحربية لكي تستطيع إسرائيل ان تقنع المجتمع الدولي باحترامها وجديتها وجدية منظومة العدالة فيها، وذلك لقطع الطريق أمام الجهات التي تتآمر للنيل من إسرائيل وجرها لمحكمة الجنايات الدولية.

وقد انطوى الموقف الإسرائيلي عامة على الاستياء الشديد من مساواة إسرائيل بالمنظمات الفلسطينية، وبالأحرى من حركة حماس، ومن تناول الأنفاق باعتبارها وسائل لتنفيذ هجمات ضد أهداف عسكرية وليست إرهابية، ومن عدم تناول التقرير لتسلسل الأحداث (بدءًا من خطف وقتل المستوطنين وإطلاق الرشقات الصاروخية).

الموقف الفلسطيني، الذي بدا انه لم يكن مطلعًا على التقرير، لم يبنِ موقفًا قويًا متماسكًا يعتمد على الوقائع، فجاء متلعثمًا، تارة مرحبًا، وتارة منتقدًا المساواة بين الضحية والجلاد.

لأن حرب 2014 فاقت كثيرا في عدوانيتها وبشاعتها حرب 2008؛ فكان من الطبيعي ان ننتظر تقريرًا أكثر إدانة وأكثر وضوحًا في توصيفه للكثير من الجرائم بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لكن التقرير جاء ضعيفًا وأقل حزمًا، وانطوي على الكثير من مفردة »القلق« ووجود احتمالية وقوع انتهاكات ترتقي لجرائم الحرب، أي ان اللجنة ابتعدت عن الحسم والحزم وتهربت من تقديم توصيف موضوعي ونزيه لأعمال القتل والبطش، واكتفت بسياسة التلميح، ويبدو ان اللجنة منذ البداية - وعلى الرغم من تفويضها القوي من مقبل مجلس الامم المتحدة لحقوق الانسان، الذي فوضها بالتحقيق في شبهة ارتكاب جرائم حرب - على الرغم من ذلك، فمن الواضح ان اللجنة خضعت لتأثيرات وضغوط خارجية جعلتها أكثر ديبلوماسية على حساب معايير النزاهة والحزم.

فمنذ البداية؛ كان موقف اللجنة ضعيفًا من منع إسرائيل لها من القدوم الى مسرح الجريمة والالتقاء بالضحايا أو من بقى منهم وللاطلاع على حجم الدمار، لا ان تخضع للمعتدي الذي حاول طمس معالم جريمته بموافقتها على الاستماع لهم عبر الهاتف أو السكايب دون ان تسمح وسائل الاتصال هذه بالتأثير الإنساني، بينما إسرائيل التي قاطعت اللجنة رسميًا ورفضت استقبالها في إسرائيل، اهتمت ان تنظم وتمول رحلات للمستوطنين الى جنيف للالتقاء باللجنة والتأثير فيهم؛ حتى ان بعض جمل أطفال المستوطنين وجدت طريقها حرفيًا لتظهر في تقرير اللجنة، حيث كتبت »عاني الأطفال الفلسطينيين والإسرائيليين من الخوف والفزع والتبول اللاإرادي« ، في مساواة مجحفة بحق هول الجريمة والمعاناة التي عاشها أطفال القطاع.

ربما كان على منظمات حقوق الانسان الفلسطينية حينذاك ان تتخذ موقفًا من منع اللجنة من الالتقاء بالضحايا، ولم يكن الأمر مستحيلًا، لكن يبدو انه لا أحد أراد ان يغضب السيسي أو يضغط عليه لتمكين اللجنة من الوصول للقطاع عبر معبر رفح.

التقرير الذي جاء في 183 صفحة، وسرد تقريبًا كل أعمال القتل وعدّد أسماء العائلات التي أبيدت كاملة أو بشكل جزئي، وعدّد المدارس والمستشفيات والأبراج والأحياء التي تعرضت للإبادة والعدوان؛ تهرب لأسباب غريبة وغير مفهومة من تسمية الفظائع بمسمياتها القانونية المعروفة، وهو من جهة أخرى تجاهل تهرب إسرائيل من تنفيذ توصيات غولدستون، وعلى الرغم من إعرابه عن القلق بشأن إغلاق التحقيق الخاص بقتل أطفال عائلة بكر من قبل الادعاء العسكري؛ إلا انه يعرب عن ثقته بمنظومة العدالة الإسرائيلية، ويطالبها بالتحقيق في الأعمال التي فيها شبهة خرق للقانون الدولي.

كان من الأجدر باللجنة ان تدين إجراء هنيبعل، وتصف جريمة قتل أكثر من 180 مدني في رفح، بناءً على إجراء هنيبعل، بأنها جريمة ضد الإنسانية وأن تطالب بمحاكمة منفذيها وقادتهم؛ لكن رئيسة اللجنة السيدة ميري ديفيس اكتفت بالقول »عندما تكون حياة جندي إسرائيلي على المحك، فإنهم يتجاهلون كل القوانين"، صحيح ان في ذلك تلميح بالإدانة، لكنها لا تتناسب وحجم الجريمة ووضوح أركانها، حتى بمعايير بعض الإسرائيليين.

كما أن اللجنة لمحت الى ان الاستخدام الكبير والمتكرر لتدمير البيوت الذي كان يؤدي دائمًا الى قتل العديد من المدنيين، والاستمرار في هذا الاجراء رغم النتائج الكارثية، ينطوي على احتمال ان القيادة السياسية اعتمدته كتكتيك حربي، وهنا أيضًا تلمح لمسؤولية المستوى السياسي عن جرائم قتل المدنيين الأمنيين في بيوتهم أثناء إفطار رمضان أو في الليل، لكنه تهرب مرة أخرى من تحميل المسؤولية للمستوى السياسي عن جريمة حرب، وهي قصف البيوت المسكونة بالعائلات المدنية لبث الرعب والإرهاب وللضغط على القيادة السياسية، وهو أمر كتب عنه الكثير باعتباره سياسة أقرها المستوى السياسي.

وقد جاءت توصيات اللجنة للجانب الإسرائيلي لتعكس روح التقرير، حيث أعربت اللجنة عن خيبة أملها من عدم تطبيق توصيات اللجان السابقة الخاصة بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وهي لن تعود على ذكرها ثانية، وتطالب الأطراف باحترام القانون الدولي والتعاون مع محكمة الجنايات الدولية، وتطالب اللجنة إسرائيل بإجراء فحص أساسي شفاف وموضوعي ونزيه في كل ما يتعلق بسياسات أعمالها العسكرية حتى تتأكد من انها تتلاءم والقانون الدولي، وتركز على ان على إسرائيل ان تفحص أعمالها في الجوانب التالية: استخدام المواد التفجيرية ذات القدرة التدميرية العالية في المناطق المكتظة بالسكان، تحديد الأهداف العسكرية الخاصة بالتكتيك المتعلق بقصف المباني المسكونة، ونجاعة إجراءات التحذير التي تتخذها قبل القصف، وحماية المدنيين أثناء تنفيذ إجراء هنيبعل، وتطالب اللجنة إسرائيل برفع الحصار عن غزة، والتوقف عن البناء داخل المستوطنات، والتوقف عن نقل مجموعات سكانية الى الأراضي المحتلة، وتطبيق توصيات محكمة الجنايات الدولية من سنة 2004 المتعلقة بالآثار القانونية لبناء جدار الفصل.

على الرغم مما جاء في التقرير، سواء كان مخففًا عن غولدستون أو شبيها به، فإننا لا نملك غيره، وهو يمنحنا فرصة مجددة لمحاكمة مجرمي الحرب إذا ما أحسنا استخلاص العبر ودرسنا خطواتنا بشكل دقيق ومتروٍ ومسؤول، ويمكننا الاستفادة منه باعتباره وثيقة هامة توثق الجرائم الإسرائيلية وتفتح بابًا لمساءلة إسرائيل عن جرائمها ومنبرًا لتعرية زيف ادعاءات أخلاقيات الجيش الإسرائيلي، كما تشكل مستندًا مهمًا سيجري أولا التصويت عليه بعد أسبوع داخل مجلس الأمم المتحدة لحقوق الانسان، وقد يطرح للنقاش داخل أروقة الأمم المتحدة، وربما يصار للتصويت على رفعه لمحكمة الجنايات الدولية، وهو أيضًا يشكل وثيقة هامة بيد بنسودا المدعية الرئيسية في محكمة الجنايات الدولية، التي بدأت منذ وقت قصير فتح تحقيق أولي حول الادعاءات الفلسطينية المرفوعة للمحكمة ضد الجرائم الإسرائيلية، ويمكن ان نقول ان التقرير جاء مناسبًا من حيث التوقيت، حيث سيدعم بلا شك التوجه بفتح تحقيق رسمي.

التقرير وحجم الكارثة، التي حلت بنا جراء العدوان، تحتم على كل مسؤول فلسطيني ذي ضمير حي أن يتعالى فوق أي اعتبار لتكون الأولوية لاستثمار التقرير على الوجه الأمثل، وفاءً حقيقيًا منا لشهدائنا ولمعاناتنا ولكرامتنا ولأنفسنا، ولكي لا يتملص المجرم بفعل عبثيتنا لا قدر الله.