إلى متى يستمر هذا الوضع المأساوي في سورية، وإلى أين تمضي بنا الأحداث والأيام، ويمضي بنا اللاعبون والعابثون والمغامرون، ومن يصنعون الأحداث، ويرسمون مساراتنا ومصائرنا على مدى الأيام، ومن يغرقوننا في الهم والوهم والبؤس، ويضعوننا على مشارف اليأس.؟! أسئلة عقيمة، ويزداد الاقتناع بأنها توغل في العقم، عندما نقرأ ونتلمس معانيها وأبعادها، في ضوء ما يجري وما تنذر به النذر.. ذلك لأن المتابعات والمشاهدات والمناورات والاتصالات والاجتماعات، الأممية وغير الأممية، والتصريحات الرسمية، ولا سيما الوقائع والمواجهات الساخنة على الأرض، والاقتتال الوحشي في مناطق متعددة من الجغرافية السورية.. كل ذلك يجعلنا نقف على أننا، لحمٌ على وَضَم، نُقحَم في جحيم بعد جحيم، ولا نتردد في أن نقتحم الحجحيم ذاته، حين تسخن رؤوسنا أكثر من قلوبنا، « فيطوش حجرنا »، كما يُقال، ونقدم على أفعال لا تقبلها العقول ولا تقرها أصول.. وأننا في المزاد، أو في سوق الأكباد، تباع أجزاء منا أو ترتهن، بعد أن أصبحت إرادتنا مرتهنة بشكل من الأشكال. نحن نذهب إلى المهالك تحملنا حماسة لكل ما ينبغي أن يرفضه التعقل وتأباه الكياسة.. نذهب على غير علم، ولا هدى، ولا حتى استبشار ببوارق أمل، تخرجنا من المآزق التي نحن فيها، وتوصلنا إلى ما نحلم به وما نتطلع إليه من أحوال، تحفظ بعض الوطن وبعض الشعب، وما تبقى من ثمالات علاقات السوريين بعضهم ببعض، تلك التي وصلت إلى الحضيض، على الرغم من أقنعة تغطي الوجوه وترسم الابتسامات، في مواقع ومناطق وحالات.؟! نحن نمضي إلى الهيجا، بغير رجا، ونقتتل لنقتل الوطن والمستقبل، وننصر العدو والمعتدي والمحتل، والطامع والشامت، ونغري بالشام من كانت تردعهم الشام.. نمضي من دون أن يسأل المسؤولون، في كل المواقع والجبهات، أنفسهم ومرجعياتهم، ولا نقول ضمائرهم، فتلك غابت في ظلمات الظلم والاحتراب: إلى متى يبقى شعب ووطن، وتبقى أجيال من السوريين، رهن من يبيعون ويشترون، ويقامرون ويغامرون، ويتاجرون بالإنسان والوطنية والوطن.. ومن لا يعنيهم إلا أن يخوضوا في الدماء وهم ينفشون ريشهم، ويقبضون ثمن أرواح الناس، ويشبعون أمراضاً قل أن عرفتها البشرية من متاجرين بالدين والوطنية والقومية والحرية؟! إنها، وإنهم.. حالة أكثر من غريبة في التاريخ، فلا الحلول السياسية التي يقولون: إنها المداخل التي لا مداخل سواها لحل: الأزمة/الحرب/الكارثة/ الجنون.. مجدية، أو باعثة للأمل في الأنفس، لأنها غدت بعض بضائع ساسة وسياسة لا علاقة لها بالأخلاق والإنسان والسلم والأمن والاستقرار، بل هي أكثر ما يتعرض للإفشال المنهجي المدروس لتحقيق أغراض ترمي إلى استمرار القتل واستنزاف الدم، وإغراق العرب والمسلمين وليس السوريين وحدهم، في الفتنة، الإبادة.. ولا الحلول العسكرية ممكنة، كما قالوا ويقولون.. ومعظمهم قال ويقول: إنها ليست الحلول لحرب مركبة، أو معقدة: « داخلية، أهلية، مذهبية، إقليمية، دولية.. سياسية ودينية وعرقية، واستراتيجية بين قوى وتحالفات اتخذت جميعاً من سورية أرضاً لحرب الإرادات والاستراتيجيات والعقائديات.. وتركت البلاد والعباد، أشبه بأطلال بلاد وبقايا عباد، يقعون بين نيران مشتعلة، منها نيران الإرهاب ومقاومة الإهاب؟!
إنهم جميعاً: ساسة ومقاتلون، سلطة ومعارضون، دينيون وعلمانيون، سنيون وشيعيون، قوميون وإسلاميون، تجار وإعلاميون.. إلخ، يلغون في الدم والاثم، بإرادة أو من دون إرادة، ولا يستمعون للإنسان الذي يصرخ في أعماق كل أنسان منا، بكل الألم والرعب والصدق: أن آن الأوان للرؤية والمسؤولية والعقل والفهم.. وآن الأوان لطرح سؤال الأسئلة: من أعطاكم الحق في قتل الناس باسم الناس، وقتل أنفسكم في معمعان القتل، وأنتم ومن يوجهونكم أداة الموت، وتجار الموت، وصناع الموت، وأعداء الحياة؟! تجسّدون ذلك من خلال الأفعال ومآل الأقوال؟! ونحن من يدفع الثمن، وأنتم من يقبض أو يطمع بأن يقبض، ومن يطمح بما لا سبيل إلى بلوغه إلا بالسلم والعقل والإيمان؟!.. وها نحن نصرخ بكم، ونصرخ، ونصرخ.. ألا فاسمعوا: البيت، والوطن، والشعب، والقيم، والدين، والقومية، والوطنية، والهوية، والمرجعية، والسياسات الغبية.. إلخ، كل ذلك إلى خراب.. فقفوا عند حد، وكفوا عن تحويلنا وما نملك إلى يباب.؟!
فلنتذكر بعض ما كان من مؤتمرات، واجتماعات، وبيانات، ولقاءات، وقرارات، ومعارك مهلكات، منذ السابع عشر من آذار/ مارس ٢٠١١ وحتى يومن هذا.. ولننظر إلى ما يحدث اليوم، وما يُنادى به للغد، في ضوء ذلك الذي كان وما وصلنا إليه حتى الآن.. ولنحكّم المنطق، والمصالح العليا للإنسان، وما يمليه الخُلق القويم، والدين السمح، والانتماء لحضارة وشعب وأرض، ثم نحكم بهدوء ونزاهة، ونرى رأياً يمليه العقل و تمليه مصلحة الناس وقيم الإنسان.
نحن في خضم متناقضات، من حيث التحركات العسكرية والمواقف السياسية..
وإلى جانب ما أشرنا إليه من تناقضات، في السياسات والمواقف والنوايا، على صعد سورية وإقليمية ودولية.. هناك تناقضات أخرى فرعية، ليس هنا مجال ذكرها، لكنها تبقى فاعلة في الحرب، ومؤثرة سلبياً في التوافق على توجهات جامعة، ومناقضة للتوجه بإخلاص وصدق نحو الحلول السياسية السلمية. وهذا كله يدخلنا في دوامة بعد دوامة، ويبقينا في خضم صراع دموي مجنون، وبعيدين عن توجه مسؤول لوضع حد لمعاناتنا، ويتركنا أدوات وبضائع بيد تجار السياسات والحروب والأزمات، ووقود نار فتنة يستفيد منها أعداء الأمة والدين، ولا تدمر الأمة والكثير من القيم التي تبنى عليها علاقات سليمة، ومصائر مشتركة.
يا لبؤسنا، ويا لفداحة الكارثة التي تصيبنا وتستهدفنا في الصميم، تحصد الأرواح، وتوغر الصدور، وتستنفر الهمجية والوحشية، وتبعث جنون الفتنة والحقد والغرور.. وتفرض الضنك والفتك، حتى تحيلنا إلى رميم.. تجعلنا بنظر البلدان والشعوب والأمم، مشوهين وعاجزين، وقد لا نستحق حتى الشفقة؟!
غرباء نحن في وطننا وغرباء عن وطننا، غرباء في أمتنا وغرباء عن أمتنا، غرباء عن ديننا حين لا نفهمه الفهم الصحيح السليم السمح، وحين نسلك سلوكاً يتنافى مع تعاليمه والأخلاق التي جاء بها ودعا إليها، ومع قيمه.. قيم الإنسان في كل مكان وزمان، إذ هو دعوة ورسالة ورحمة للناس كافة.. وغرباء نحن في أسلوب تعاطينا مع قضايانا ومع آثارها المفجعة، وفي تعاملنا وتفاعلنا مع بعضنا بعضاً، وغرباء إذ نعتمد اعتماداً شبه كلي على الغرباء.. في الكثير الكثير من شؤننا الآن، في السلاح الذي نقاتل به، والمال الذي ننفقه على شؤون الحرب المجنونة والفتنة المأفونة.. وفيما نحتاج إليه من مصادر الطاقة التي كان لنا منها ما يكفينا وما يعود علينا بدخل وطني، وما نفتقده ونحتاج إليه من المحاصيل الاستراتيجية و حتى الغذاء، بعد ما كنا فيه من توازن وشبه اكتفاء ذاتي، جنبنا التبعية المطلقة، وصان بلدنا من أن تكون قراراتها وسيادتها ومصير المحتل من أرضها، وكل ثوابتها الوطنية والقومية، بيد الآخرين، وبيد أعداء أمتنا التاريخيين.؟! ومن بؤس الحال اليوم أننا نبيع أو نرهن بعض الأرض والممتلكات والـ، ونفتقدها في الحاضر والآت، ونبيع بعض ما لا يُباع مطلقاً، ولا بأي ثمن، في سبيل أن نتابع حرق بلدنا، وقتل أنفسنا، وإفناء شعبنا، وتدمير وطننا، وتحقيق »الانتصار؟" على ذواتنا، ودفع العدوان علينا.. فندفع عنا الموت والإبادة بالموت والإبادة.؟! فأية كارثة تصيب العقل والقلب والوعي والشخصية، وأية مصيبة هذه التي حلت بسورية التاريخ والحضارة، الحاضر والمستقبل، الإنسان والمكان.؟! الكارثة التي نحن بعض عناصرها، وكل وقودها وضحاياها، وبعض تأثيرها على سوانا.. وهي كارثة تأبى أن ترحل عنا أو نأبى أن نخرج منها، إلا بعد أن تتركنا، وتترك بلدنا الحبيب، أثراً بعد عين، لا سمح الله.؟! ومَن للخروج منها غير المكتوي بنارها، أيها السوريون.؟! ألا اعلموا أنه لن يفعل أحد من أجلكم مما لا تفعلونه أنتم من أجلها، ولن ييقدم لكم أحد حلاً إيجابياً لا تبادرون إليه بإخلاص، ولن يخرجكم من مأساتكم إلا وعيكم، ومبادراتكم الخلاقة، وتنازلكم لبعضكم بعضاً، ودفن الفتنة بكل أنواعها وتفاصيلها وعقابيلها، ولجم القائمين عليها بالفعل ووضع اليد على من يخرق سفينتكم ليغرقكم، وتسفيه القائلين بها ونبذهم ظَهرياً، ورمي المحرضين على استمرار اشتعال نارها بما يرمونكم جميعاً به، والفتنة أشد من القتل.
ألا فاتقوا الله في أنفسكم، وبلدكم، وأطفالكم، ونسائكم، ومستقبل أجيالكم.. وارحموا من في الأرض يرحمكم من السماء.
ولا حول ولا قوة إلا بالله.
دمشق في الجمعة، ١ أيار، ٢٠١٥
علي عقلة عرسان