خبر ملاحظات تأسيسية حول الانضمام لمحكمة الجنايات الدولية (2-2)... بقلم عصام يونس

الساعة 05:23 م|20 يناير 2015

بقلم

على الرغم من أن دولة فلسطين قد حددت الولاية الزمنية للمحكمة لتمتد بأثر رجعي إلى 13 يونيو 2014، إلا أنها، وفقا لنص الاعلان المرفق مع طلب الانضمام، قد أبقت الباب مفتوحا لإمكانية التوقيع على إعلان جديد في أي وقت تعلن بموجبه قبول ولاية المحكمة بأثر رجعي على الجرائم التي ارتكبت قبل ذلك اليوم وحتى تاريخ  دخول الإتفاقية حيز التنفيذ في يوليو 2002. إن تحديد الولاية الزمنية في يونيو 2014 وإن كان يعني ان تحقيقات المحكمة لا تشمل أي جرائم ارتكبتها دولة الاحتلال قبل ذلك التاريخ  إلا انه يجب النظر إليه كنقطة بدء وليس تحديدا نهائيا للولاية الزمنية للمحكمة، حيث إن كثيرا من الجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال قبل ذلك التاريخ لا تزال تخضع لولاية المحكمة بالنظر إلى أنها جرائم مستمرة ، ومن بينها الإستيطان وجدار الفصل العنصري وتهويد القدس والحصار المفروض على القطاع. فالمستوطنة التي أنشأتها دولة الاحتلال في سنوات السبعينات، على سبيل المثال، لا تزال قائمة حتى اليوم، فهي كانت جريمة ولاتزال كذلك ، ذلك يعني أن هذه الجرائم بصفتها مستمرة تدخل حكما في اختصاص المحكمة موضوعيا وزمانيا وفقا لاعلان دولة فلسطين بخصوص الولاية الزمنية.

إن تحديد الولاية الزمنية للمحكمة في يونيو من العام الماضي له دلالة هامة أيضا، حيث أنها نفس الفترة الزمنية تقريبا التي يغطيها التحقيق الذي تتولى القيام به لجنة التحقيق الأممية التي شكلها مجلس حقوق الانسان في جلسته الخاصة التي انعقدت في جنيف في يوليو من العام الماضي أثناء العدوان على غزة وأنيط بها التحقيق في الجرائم التي ارتكبها الاحتلال ومستوطنيه في الضفة الغربية والقدس والتي سبقت العدوان الأخير على غزة. هذا يعني أن تقرير اللجنة، المتوقع تسليمه لمجلس حقوق الانسان في مارس القادم، سوف يكون مادة هامة إضافية في متناول المدعي العام لتحريك الدعوى الجنائية، لاسيما وأنها سوف تكون حصيلة التحقيقات التي يُجريها فريق مستقل ومهني ويحظي بشرعية دولية.

أما اختصاص المحكمة من حيث المكان فقد حدده نظامها بالدولة الطرف التي تقبل اختصاص المحكمة في الجرائم المشار إليها، ومن المهم الإشارة إلى أن النظام الأساسي للمحكمة قد أجاز للدولة التي ليست طرفا في الاتفاقية، أن تقبل اختصاص المحكمة مؤقتا « ad hoc » وحصريا في الجريمة قيد التحقيق وذلك بإيداع تلك الدولة إعلانا تقبل بموجبه ذلك الاختصاص لدى مسجل المحكمة.

وهذا بدوره يقود إلى السؤال الذي يتردد حول امكانية ان تقوم دولة الاحتلال بالطلب من المحكمة أن تمارس اختصاصها في مزاعم ارتكاب فلسطينين لجرائم منصوص عليها في نظام المحكمة الأساسي، ذلك يعني أن دولة الاحتلال سوف تقبل باختصاص المحكمة للنظر فيما ارتكبت من جرائم، وهو ما ترفضه دولة الاحتلال شكلا ومضمونا بل لعله يفتح عليها بابا لا يمكنها اغلاقه. والخيار الآخر هو أنها ربما تلجأ إلى الإيعاز لطرف ثالث، أي أحد الأطراف على الاتفاقية، بالطلب من المحكمة ممارسة اختصاصها « نيابة عنها »، ولكن ذلك وأن كان ممكنا فإنه يبدو صعب التحقيق، حيث يعني قبول دولة الاحتلال لاختصاص المحكمة في وقت تصر فيه على رفض كل الآليات الدولية او التعاون معها حيث أنها لم تسمح ولن تسمح بإخضاع ضباطها وجنودها ومسئوليها وسياساتها لأي مستوى من الفحص الدولي أو التحقيق معها او فيها، حيث أنها سبق وأن رفضت التعاون مع لجنة غولدستون التي شكلت بعد عدوان 2008-2009، وترفض التعاون الآن مع لجنة التحقيق « تشاباس » وهي الأجسام التي لا ترقى إلى مستوى المحكمة فهي لا تحظى بأي اختصاص قضائي فكيف سوف تتعاون عندها مع محكمة ترفضها فكرة وموضوعا منذ نشأتها وقبل أن تقوم بالتحقيق في حالة الأراضي الفلسطينية.

أما الاختصاص الشخصي للمحكمة فهو ينحصر في محاكمة الأشخاص الطبيعيين فقط أي الأفراد، ولايشمل الأشخاص ذوي الصفة الاعتبارية أو المعنوية كالدول والحكومات والمنظمات والهيئات ومن في حكمها. والاختصاص الفردي هو ما يمثل جوهر فكرة المحكمة الجنائية، حيث أن الفرد هنا هو  موضوع القانون الدولي وأحد شخوصه، فإذا كانت محكمة العدل الدولية مختصة بالنزاعات بين الدول، فإن محكمة الجنايات تختص حصرا في محاكمة الأفراد. والمحكمة في تحديد اختصاصها على الاشخاص الطبيعيين فقط تؤكد على المسئولية الفردية للاشخاص بغض النظر عن درجة مساهمتهم في الجريمة، سواء بالأمر او التنفيذ او التخطيط او المشاركة، حيث انه لايمكن الاعتداد بالصفة الرسمية للجاني سواء كان رئيس دولة او حكومة او عضوا فيها أوفي برلمانها أو قائدا عسكريا او رئيسا لأركان جيشها، وبأن حصانة أي من هؤلاء (المتهمين) التي قد يوفرها القانون الوطني للدولة لاتحول دون قيام المحكمة بممارسة اختصاصها عليه.

والسؤال الذي يثار دائما والمتعلق بإحالة القضايا إلى المحكمة، من هي الجهات التي يمكنها الطلب من المحكمة الشروع بالتحقيق في الجرائم المشار اليها؟ يحدد نظام المحكمة الأساسي اختصاصها في الحالات الثلاثة التالية:

أولا، إذا أحالت دولة طرف إلى المدعي العام حالة يبدو فيها أن جريمة او أكثر قد ارتكبت وثانيا، إذا أحال مجلس الأمن وفقا للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة إلى المدعي العام يبدو فيها أن جريمة أو أكثر من هذه الجرائم قد ارتكبت وثالثا، إذا كان المدعي العام قد بدأ بمباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من هذ الجرائم.

وإذا لم يبادر مجلس الأمن أو الدول الأطراف بإحالة حالة معينة تشكل جريمة وتدخل في اختصاص المحكمة، فإنه يحق للمدعي العام أن يباشر التحقيق من تلقاء نفسه إذا ما توافرت لديه المعلومات اللازمة للقيام بذلك. وله الحرية الكاملة في اختيار مصادر معلوماته والتي قد تكون دولا أو هيئات للأمم المتحدة أو منظمات غير حكومية، كما ويمكنه تلقي شهادات شفوية أو مكتوبة بمقر المحكمة أو في أية جهة اخرى. وسعيا لاثبات الحقيقة، فإن المدعي العام، وفقا لنظام المحكمة الأساسي،  يجب عليه توسيع نطاق التحقيق ليشمل جمع الأدلة والوقائع المتصلة بتقدير إذا ما كانت هناك مسئولية جنائية.

ويجيز النظام الأساسي للمحكمة لمجلس الأمن تأجيل النظر في قضية معينة لمدة عام بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وهو ما قد يثير المخاوف من إمكانية أن يمارس مجلس الأمن ذلك الحق بتأجيل النظر في قضية متعلقة بدولة الاحتلال، وإذا كان النظام يعطي لمجلس الأمن ذلك الحق، إلا أنه وإن كان ذلك ممكنا من الناحية النظرية، فإنه يبدو صعبا إن لم يكن مستحيلا، من الناحية العملية، بأن يطلب تأجيل القضية عندما يتعلق المر بالأراضي الفلسطينية بالنظر إلى صعوبة استصدار قرار من هذا النوع في مجلس الأمن في ظل خلاف جوهري وقائم بين الدول الأعضاء ولاسيما تلك الدائمة العضوية.

ومن جهة ثانية، يجيز النظام الأساسي للمحكمة أيضا، للدولة الطرف الطلب بتأجيل إختصاص المحكمة في النظر في جرائم الحرب، على وجه الحصر، وليس الجرائم الأخرى كجريمة العدوان والجرائم ضد الانسانية وجرائم الإبادة، لمدة سبع سنوات من تاريخ بدء سريان النظام الأساسي عليها وذلك متى حصل ادعاء بأن الجريمة قد وقعت في إقليمها أو أن مواطنين من تلك الدولة قد ارتكبوا مثل تلك الجرائم. هذه الامكانية، ربما تثير تساؤلات مشروعة حول احتمال أن تقوم دولة فلسطين في مرحلة ما بممارسة ذلك الحق الذي يكفله لها النظام الأساسي بتأجيل النظر في جرائم حرب ارتكبتها دولة الاحتلال استجابة لضغوط قد تمارس مرة أخرى عليها، وهو ما يبدو ممكنا نظريا ولكنه صعب التحقق من الناحية العملية بالنظر إلى أن دولة فلسطين  لو أرادت الإنضمام دون تفعيل اختصاص  المحكمة لما توجهت إليها من حيث المبدأ وهي التي رفضت الضغوط التي مورست عليها ومضت في اجراءات الانضمام وتدرك جيدا ماقد يمارس بحقها من ضغوط لاحقة واجراءات عقابية. ذلك يبقى احتمالا قائما ربما كثمن لتسوية تقضي بانطلاق عملية تفاوضية جديدة بين السلطة الفلسطينية ودولة الاحتلال، وهو يعيدنا مرة أخرى إلى ما دأب عليه وسيط العملية التفاوضية بالتأكيد على أن العدالة والسلام خطان متوازيان لا يلتقيان وهو ما يظهر جليا في توصيف قرار الفلسطينيين بالتوجه إلى المحكمة بأنه يقوض عملية السلام ويتعارض معها! كما ويمكن توقع أن تمارس دولة فلسطين ذلك الحق في حالة الشروع في تحقيق جنائي قد يطال أي من الفلسطينيين الذي قد يتهم بارتكاب جرائم حرب، وهو ما يتطلب تحصين قرار الانضمام للمحكمة وتصليبه  من خلال مظلة سياسية يجب أن يوفرها الكل الوطني تشكل داعما للقرار ورقيبا عليه في نفس الوقت.

إن إنضمام فلسطين على النظام الأساسي للمحكمة هو شرط أساسي ولكنه غير كاف لتحريك الدعوى الجنائية، فالمحكمة سوف تكون امام اختبار حقيقي لمصداقيتها، فهي لم تنظر منذ نشأتها الا في تسع قضايا كلها تخص دولا أفريقية وهي أوغندا وأفريقيا الوسطى والكونغو الديمقراطية والسودان « دارفور »، ليبيا، ساحل العاج، مالي، كينيا، أفريقيا الوسطي حتى ليبدو، كما يسخر منها الأفارقة، بأنها قد أنشئت لمحاكمتهم فقط. فهي قد رفضت سابقا التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها القوات الأمريكية في العراق وافغانستان على الرغم من الطلبات الكثيرة التي قدمتها دول و منظمات غير حكومية كما ورفضت سابقا التحقيق في الجرائم التي رتكبتها دولة الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.

على الرغم من إعلان مكتب الادعاء العام للمحكمة أول أمس انه شرع في فتح تحقيق أولي في جرائم حرب محتملة وقعت على الأراضي الفلسطينية وهو ما يعتبر تطورا هاما وايجابيا وربما يشكل نقطة بدء ضرورية في طريق لازال طويلا فإن مصداقية المحكمة والنظام الكوني للعدالة، سوف يكونا تحت اختبار حقيقي قريبا مع دخول الاتفاقية حيز النفاذ في مارس القادم. إن الشروع في التحقيق الجنائي الجدي في الجرائم التي ارتكبتها دولة الاحتلال سوف يشكل علامة فارقة في ظل الضغوط السياسية التي بدأت تمارسها دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية على المحكمة والأطراف المتعاقدة عليها، وهما الدولتان غير الموقعتين على ميثاق روما.

إن الإرادة السياسية التي توفرت وجرت ترجمتها  بتوقيع القيادة الفلسطينية على طلب الانضمام للمحكمة يجب أن تؤكد على أن الفلسطينيين قد اتخذوا قرارهم بالمضي قدما في طريق العدالة ذو الإتجاه الواحد والذي لا رجعة فيه مهما كانت التكلفة السياسية المنتظرة. إن تظافر كل الجهود ووالشروع في عمل منظم ومهني أصبح مطلوبا الآن أكثر من أي وقت مضى للدخول في المعركة القانونية والسياسية والدبلوماسية في قمة الجهوزية والاستعداد والتي يجب أن تكلل بنهاية واحدة ألا وهي النصر، فالقضايا الوطنية الكبرى بحاجة إلى عمل وطني كبير تسخر له كل الامكانيات والدعم الفني والاسناد السياسي وعلى خلاف ما يقوله المحامون، فإن المطلوب ليس بذل عناية وإنما تحقيق نتيجة مؤكدة.