خبر الرد على العدوان ببناء الإنسان.. علي عقلة عرسان

الساعة 02:03 م|09 ديسمبر 2014

 

العدوان الإسرائيلي الأخير على سورية يوم الأحد ٧/١٢/٢٠١٤، الذي استهدف مستودعات في مطار دمشق الدولي وفي منطقة الديماس، لم يكن الأول ولن يكون الأخير، فالعدو يمارس طبيعته العدوانية العنصرية،  ويتدخل مباشرة لتدمير القوة السورية ومساندة من يعمل على تدميرها، ويستبيح الأجواء السورية عندما يريد مستفيداً من الحماية الأميركية المطلقة له ولمارساته العدوانية والإرهابية، ومستغلاً الأوضاع المأساوية الحالية في سورية حيث الحرب المجنونة ودوامتها ونتائجها اليومية.. وهو يعمل على تحقيق أهداف وتوجيه رسائل لجهات عدة وباسم تحالفاته لا سيما مع بعض المعارضات السورية العاملة بالتنسيق معه، ويقوم بعمليات استفزاز واستطلاع وجسّ نبض وسبرٍ قتاليّ لمعرفة القدرات العسكرية للجيش العربي السوري.. ويقوم الصهيوني المحتل بمثل هذه الغارات على أهداف في الأراضي السورية لأغراض سياسية داخلية في فلسطين المحتلة أيضاً، فكلما تأزم الوضع السياسي في كيان الإرهاب، قام مسؤولون مأزومون بعدوان على فلسطينيين وعرب لكسب الرأي العام الصهيوني، ولشد الانتباه إلى مواقع ومواقف يجب التركيز عليها، ولمحاصرة مناوئين لهم في الداخل.. وفي الوقت الراهن يمر الكيان الصهيوني بعاصفة سياسية داخلية، بعد المواجهات التي تمت مع الشبان الفلسطينيين نتيجة استهداف الصهاينة للمسجد الأقصى، وبعد تصويت عدد من البرلمانات الأوربية لصالح الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتوجه العربي إلى مجلس الأمن للاعتراف بفلسطين دولة مستقلة.. ويحاول الإرهابي نتنياهو أن يخفف من تأثير ذلك عليه وعلى حزبه، وكسب الرأي العام الصهيوني إلى جانبه، بعد أن حل الكنيست نفسه لإجراء انتخابات مبكرة.. وفي هذا الصدد قال عضو الكنيست يفعات كريف، بعد الإعلان السوري عن الغارات: «إن نتنياهو لم ينجح في تشكيل ائتلاف، فقرر أن يشعل الشرق الأوسط».

لقد توجهت الدولة السورية بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي وطالبته بأن يعاقب "إسرائيل" على عدوانها المتكرر.. وهي لا تملك إلا أن تفعل ذلك، على الرغم من معرفتها التامة بأنه حتى لو أيدت أربعة عشر دولة في المجلس إصدار قرار أو بيان ما ضد كيان الإرهاب الصهيوني، فإن الفيتو الأميركي سيبطل القرار.. وتدرك أيضاً أن أي قرار أو إعلان أو بيان يصدر عن المجلس العتيد ولا ترضى عنه "إسرائيل" سيعطله الأميركيون وحلفاؤهم، حتى لو كانت الولايات المتحدة الأميركية من الموافقين عليه.. فالأميركي محكوم بالقرار الصهيوني إلى ما شاء الله، والسياسة الأميركية لم تفلح يوماً في القيام بخطوة لا توافق عليها الصهيونية.. وهي اليوم في خضم المآسي الناتجة عن " ربيع الشجون العربية" وغيره، لا سيما ما يجري من ذلك في سورية والعراق وفلسطين، تعمل على خدمة المشروع الصهيوني بأكثر مما يتخيل المرء.. وها هو وزير الخارجية الأميركية جون كيري يعلن عن جديد، في ضوء ما تشهده المنطقة من أحداث وخراب وتخريب، وهو مما ينبغي أن يؤخَذ بجدية بالغة، وأن يلفت إليه نظر الشعب العربي والمنظمات والتنظيمات العربية، لاسيما تلك المعنية منها بقضية فلسطين ومستقبل الشعب الفلسطيني، وبوطن عربي مستقل، وبمواجهة مجدية لحملة استعمارية غربية - صهيونية جديدة، واسعة وكاسحة ومؤسَّسة على القوة الشاملة الراسخة، وعلى القواعد العسكرية الأميركية الضخمة في دول عربية عدة، وعلى تعاون بعض دول لمنطقة وبعض أبنائها معها.. فقد قال الوزير كيري مؤخراً، في كلمة له أمام منتدى سابان التابع لمعهد بروكينغز في واشنطن، قال: " إن العنف الحالي في الشرق الأوسط أظهر وجود فرصة لتشكيل تحالف إقليمي جديد يضم إسرائيل ودولاً عربية.. ونرى احتمال نشوء اصطفاف توافقي إقليمي جديد بين دول يجمعها القليل لكنها تتشارك في رفضها للتطرف.. وأشار إلى أن هذه الدول أكدت له أنها جاهزة لصنع سلام مع إسرائيل، ولديها القدرة على إيجاد تحالف إقليمي ضد حماس وتنظيم الدولة وحركة أحرار الشام (أحد فصائل المعارضة السورية) وجماعة بوكو حرام الإسلامية - النيجيرية.".. والمدقق في كلام السيد كيري، وفي تصريحات وتحركات سابقة له تصب في التجاه ذاته، وكذلك في تحركات الكيان الصهيوني الاستفزازية والعدوانية الأخيرة، وفي غاراته على مواقع سورية منها مطار دمشق الدولي والديماس قبل أيام، وهي غارات لا يمكن أن تتم إلا بتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية التي يسيطر طيرانها الحربي على مساحات من الأجواء السورية.. من يفعل ذلك يدرك جيداً أن العمل العدواني الصهيوني -  الأميركي مشترك ومنسق بطبيعة الحال من حيث التنفيذ والتوقيت، ويرمي إلى تحقيق رزمة متكاملة من الأهداف التي يُراد لها أن تؤدي إلى نتائج متفق على تحقيقها أبعد من الضربات المحدودة.. وفي هذا الإطار لا يمكن أن ننظر إلى الغارتين الصهيونيتين الأخيرتين على أنهما تستهدفان سلاحاً سورياً في مستودعاته فقط، وهو فعل إجرامي وعدوان سافر على دولة عضو في الأمم المتحدة.. بل على أنه استكشاف/استطلائع عملياتي، من شمال شرق دمشق " المطار" إلى جنوب غربها " الديماس"، وهو استطلاع لما قد يأتي بعده من عدوان أميركي - صهيوني أو صهيوني بقرار وغطاء أميركي، لضرب أهداف أخرى داخل مدينة دمشق عسكرية - سياسية.

في الرد على العدوان لا مجال للرد عسكرياً لأسباب يدركها كل من يتابع ما يجري وما نتج عن الحرب / الكارثة المستمرة منذ آربع{ وأربعين شهراً في سورية وعليها، مما يدور على أرضها ويدفع ثمنه شعبها دماً ودماراً ومعاناة.. فانجرار سورية أو جرها إلى حرب مع الكيان الصهيوني في التوقيت الذي يحدده، وفي الوقت الذي يخوض فيه جيشها حرباً في كل ساحاتها ومساحتها الجغرافية، ويخوض فيه من يدعي من أبنائها الحرص عليها ويزعم أنه "يرفض كل عدوان عليها".. يخوض حرباً معها وعليها وفيها.. في مثل هذه الظروف والأوقات والتواقيت لا يمكن الحديث عن رد محدود على عدوان مقصود، لأن ذلك حتى لو قدرنا عليه قد يؤدي إلى حرب بين "كيان هو معسكر إرهاب دولي متماسك ومحمي ومجهز بكل الأسلحة من النووي إلى العادي"، بينما نحن لا نملك من القدرات والأسلحة والأوضاع والإمكانيات الأخرى المساعدة استراتيجياً واجتماعياً و.. و.. إلخ مما يستدعيه خوض حرب مع العدو الصهيوني المحتل وما يرقى إلى مثل هذا النوع من المواجهات الاستراتيجية التي تترتب عليها قضايا وأوضاع ونتائج مصيرية أو شبه مصيرية. إن العدو الصهويني وحلفاءه يدركون ذلك جيداً، والدولة السورية وحلفاءها يدركون ذلك أيضاً.. وفي حين يسعى العدو الصهيوني وحلفاؤه إلى استدراج من هذا النوع في توقيت من هذا النوع، يدرك الطرف الآخر " السوري وحلفاؤه" أهداف العدو ويتجنبون السقوط في ما ينصبه من كمائن.

مما لا شك فيه أن السكوت على العدوان الصهيوني المتكرر، وحتى القول "بالاحتفاظ بحق الرد" من دون رد، كل ذلك وغيره من السلبيات وأشباهها يسبب الخذلان، ويؤثر سلبياً في الشعب وينال من روحه المعنوية، ويترسخ ضعفاً في العمق النفسي للمؤسسة الاجتماعية الكبرى، ويمس الكرمة والحس الوطني.. وتتأثر بذلك نظرة الشعب لنفسه ونظرة الشعوب والدول الأخرى له، وقد تترتب على ذلك أنواع أخرى من الاستباحة حيث " يطمع الناس بالحائط الواطي" كما يُقال.. ولكن ما باليد حيلة والحال هو الحال، بصرف النظر الآن عن وعما أوصلنا إليه وكيف وصلنا.. فأحكام الحسابات المنطقية الدقيقة في مثل هذه الأوضاع والأحوال والظروف يستدعي ضبط النفس والتصرف بعقلانية وفق الإمكانيات، وبحكمة ذات رؤية تنطوي على عدم التسرع في الإقدام على ما يؤدي إلى التهلكة.. على أن هذا ينبغي إلا يتم في إجراءات وحسابات من نوع سلبي منوط بالخوف والحذر فقط، لأن ذلك النوع من الحسابات القاصرة ستؤدي إلى الإحباط وحتى إلى الذل المقيم.. إنما ينبغي أن يواكب ذلك الموقف المستند إلى حسابات واقعية ومنطقية مسؤولة.. عمل منهجي ضخم يشحذ الهمم والذاكرة الجمعية/الشعبية حتى لا يتم نسيان، والإعداد للأمر الجلل كل ما يستحقه ويستعدعيه ويقتضيه عدة وإعداد ناجح.. ومن الطبيعي ألا يقتصر ذلك على التجهزات والماديات والمعدات بل يركز أيضاً على وعي فردي وجمعي، وعلى حركة توعوية " ثقافية" تشرح ذلك وتعزز الروح الوطنية والجوانب المعنوية، وتركز في الوقت ذاته على بناء الذات والشعب والذاكرة والوجدان والكرامة والشجاعة والمهارة استعداداً ليوم حساب قادم يسترد فيه الشعب والبلد ما خسره في المجالين المادي والمعنوي، ويسترد كل فرد كرامته بانتصار مبين، ويستعيد الإنسان كل ما فقده من خسائر، بتحقق نصر مؤزر بالمقاييس الموضوعية والحقيقية للنصر وليس بكلام حماسي عن النصر يكون مفخخاً بالفجيعة المنطوية على هزيمة.. وفي مقدمة النصر المبين دحر العدوان، وتحرير الأرض، ورفع راية الوطن ورأس المواطن في كل شبر من أرض الوطن "سورية العزيزة".. أما مدخل المداخل إلى ذلك فوقف للحرب، وصلح مع الذات والآخر في وطن هو للذات وللآخر الشريك في الوطن والمواطنة والعروبة والإسلام، حيث سورية هي البلد الذي يملك أن يكون كذلك والمؤهل تاريخياً وقومياً وإنسانياً لذلك. وما لم نُقِم الوطن المتجدد على أسس من العدالة والمساواة والاحترام والحرية المسؤولة والمعيارية القيمية السليمة.. نعم .. نعم ..نعم.. الحرية المسؤولة والمعيارية القيمية السليمة، وليس على الغوغائية والتكتل المريض والتعصب الأعمى، وعلى الفوضى تحت راية "الحرية والعدمية والشعارات الفتاكة أكثر من الأمراض المستعصية"..  ما لم نفعل ذلك فإننا لن ننجح في شيء، وسوف نداد ضعفاً على ضعف وخذلاناً على خذلان. 

إننا نشكو من الفساد والإفساد، وهما آفتان اجتماعيتان - سياسيتان - أخلاقيتان فتاكتان، تصيبان الفرد والمجتمع والدولة في مقاتل.. ولكن من قال إنه حينما يتحكم الجاهل بالعالِم وبالعالَم "الوطن"، وحين يسود السفيه ويعلو بجهل وسلاطة لسان وقلة عقل وقوة ذراع وانعدام فضل وقيم وفضيلة.. فإنه لن يخرب الوطن ولن تموت المواطَنة، رغم وجود قوانين وسلطات ودين ومؤسسات؟! لقد أصبنا بعاهات من هذا النوع قتلت في وطننا وبين أفراد شعبنا المعايير الصحيحة والمواطنيين والطاقات والإبداع، فارتفع اللصوص والفجَرة والأدعياء و.. فوق غيرهم، وهَزُلَ الحق والإبداع والوطن.. وما زالت نماذج من هذا النوع تزور وتعبث وتشوه وترتفع على خواء يؤهلها له استعداد لقبول الولاء والانتهازية والقاصر والفاجرين ومن لا يبني إلا على هدم بناء غيره.. ومن هؤلاء هذه صفاتهم ومؤهلاتهم ومناهجهم ومعاييرهم فإنه لا يُبني بهم وطن ولا يُحمي شعبٌ ولا تقوم دولة.. وذلك داء يضاف إلى ما أشرت إليه وما لم أشر إليه من أدواء، مما يجب أن نعالجه ونحاربه ونحصِّن الأنفس والشخصيات المسؤولة ضد جراثيمه، لا سيما إذا كان أولئك ممن يتحملون مسؤولية بناء ونهوض وعدل وثقافة وكلام يبني ولا يدمر البناء.. يبني الإنسان على أسس الإيمان والعلم والخُلُق والمعرفة والتواضع والولاء للوطن والاعتراف بالآخر الشريك في الحق الإنساني والمصير الإنساني.

إن الوطن العزيز المحمي من الأعداء ومن أشكال التدمير والانهيار والظلم والطغيان، ومن الفساد والإفساد والدعاء والغوغاء هو وطن المواطنين الأحرار الكرماء القادرين على معرفة الحق ونصرته، وإقامة العدل والاسظلال بظلاله، ووضع الأشخاص في المواقع التي تؤهلهم لها أخلاقهم ومعارفهم وإخلاصهم للحقيقة والناس والأوطان، بتواضع ومحبة وتضحية.. وما لم يرفع بناةُ سورية المستقبل، سورية الجديدة المتجددة القوية العزيزة المتعافية من أمراض الحاضر ومما في الأنفس والعقول من رواسب سلبية تؤسس لأمراض المستقبل من كل نوع.. راية العدل والحق والحرية وكل القيم المنشودة من خلال تطبيق يحترم الإنسان ويخدمه ويقيمه قيمة فوق المصالح والمكاسب والمناصب والنتماءات الضيقة والقاصرة.. فإنهم لن يستطيعوا بناء وطن ودولة وإنسان وقوة وقدرات ترد للمعتدي الصاع صاعين، وتحر الوطن من الاحتلال الصهيوني، وتحميه براً وبحراً وفضاء وترد الطامعين به، وتحمي المواطن أينما كان، وتسلك طريق النهضة بالعلم والمعرفة والأخلاق، وترفع الإنسان ذا القيمة فوق الجاهل الشرير ذي الشكيمة والمال والقوة القادر على الثغاء والادعاء وتحريك لسان الببغاء.. فالرد على العدوان والنهوض بالأوطان لا يكون إلا ببناء الإنسان.

والله من وراء القصد.

 

دمشق في الثلاثاء، ٩ كانون الأول، ٢٠١٤

 

علي عقلة عرسان