خبر مقاربة أهل النقائض والتناقض ..علي عقلة عرسان

الساعة 05:56 م|07 أكتوبر 2014

لا أُقارب هنا واليوم نقائض العرب, ومنها نقائض جرير والفرزدق والأخطل في الشعر العربي، وهي سجل منافحة ومفاضلة ومهاجاة ومفاخرة خطه الإبداع شعراً، ويتصل بما يراه الناس في الناس، مما يدخل في باب الهجاء والفخر، ومما يُعتدُّ به أو يُزدرى ويزري بأهله فيُتبرأُ منه, ويدفَعه المرء عن نفسه وعن قومه من ذلك الذي يحمله التاريخ الشفهي والمكتوب في الذاكرات والصفحات من مواقف وأفعال وأقوال ومراعاة أو خرقٍ للعادات والتقاليد، ويدخل في باب المحامد أو المذام، مما يُسجَّل لأشخاص أوقبائل عربية أو أقوام أو يسجل عليها، في مجتمع ذي قيم ومعايير وأعراف وتقاليد مشتركة، أو في ما يشترك فيه البشر مما يتفقون على تقييمه ومعاييره، ويتصل بالمعالي والمكارم والأخلاق وما يفتخر به المرء ويرتفع به شأنه، أو مما يتصل بالدنايا والمخزيات وما يُعاب على المرء ويحطّ من قدره وقدر أهله وقبيلته وقومه بين الناس. وقد لا يكون للشخص الذي يُعاب عليه فعلٌ أو يُمدَح به.. قد لا يكون له يدٌ فيه ولا سيطرة عليه ولا هو مما فعله أو أمر بفعله، وإنما هو مما يُحمَل عليه وعلى أجيال من بعده بالنسب والنتساب والوراثة "القبيلية - الاجتماعية" وحتى القومية.. إذ هو مما يتركه الأجداد للآباء والآباء للأبناء على مدى زمن قد يطول، وقد يكون زاخراً بالكثير من الأفعال والتفاصيل التي تتصل بالأخلاق والشيم والقيم والكرم والشجاعة والبطولات والانتصارات والمروءات، أو بالنذالة والخسة والشح والجبن والهزائم والخيبات، وبغير ذلك مما يرفع صاحبه أو يهبط به، ومما ينعكس على القوم، "القبيلة"، فيرفعهم أو يزري بهم.. ومن ذلك ما يتَّسع مداه فينعكس على الأقوام والأمم: مدحاً أو قدحاً، رفعاً أو خفضاً، خيراً أو شراً.. ويصبح موضوع فخرٍ أو هجاء، كما هي الحال في ما كان من فخر العرب على العجم وفخر العجم على العرب، في غاشيات قادت إلى ضغائن ومكاره وكوارث، وفي مواقف وآفعال وأقوال سماها العرب في زمن قديم  " شعوبية".. وهي ضغائن وعداوات وأحقاد ترفع رآسها بين حين وآخر، ومنها بعض ما نشهده اليوم من هجوم شرس على العرب والعربية والعروبة، يفضي بالواقع والضرورة إلى تعزيز العنصرية الصهيونية الطاغية والصليبية الجديدة الغاشية، الأمر الذي يسعّر حرباً شاملة على العروبة والإسلام، ويمارس تشويهاً لهما ويؤدي إلى إضعافهما وإلى غرسٍ لمزيد من الأحقاد وإشعالٍ لنار فتن دامية بين مكوناتهما.. وكل ذلك بأنواعه، وبتنوع مجالاته وتدرجها من الخاص إلى العام، يحمل سلبيات أكثر مما يحمل من إيجابيات، ويتصل "بأيام" تفتح الأبواب على "أيام"، فيها تجدد وتمدد لأحقاد وضغائن، تفضي كما أفضت سابقاتها، إلى حروب ومكاره وكوارث وإراقة دماء.. وكل ذلك ينمو مع الأيام حيث تكتنزه الذواكر وتنميه الروايات لتصُبَّه على رؤوس الناس صباً مقيتاً مميتاً في أيام مرة قاسية وشديدة الوطأة على الأمم التي يجمعها الإسلام..

 ليس مجال النقائض مجالي الذي أقتحمه أو أقحمه على الأحداث وأقحم نفسي فيه، بل هو ما أرى  أهمية دراسته اجتماعياً وتقصي توارث "جيناته" الثقافية وقيمه ومقوماته ومفاعيله وتأثيره، والوقوف على ما فيه من سلبي وإيجابي يقدمه التاريخ وتركزه التربية في التكوين الفردي والجمعي، لا سيما في عصر فيه كثير من الإعلام دِمَنٌ وتحريضٌ وحربٌ على الحق والسلام وموتٌ زؤام.. إلخ". وتقصي ذلك يكون في التكوين الفردي والجمعي والمجتمعي العربيين، وفي بيئة التأريخ وصفحات التاريخ وفي المواقف والسياسات ومنها التربوية والثقافية.. بغية الوقوف على الحالة من الجذور إلى الزهور، ومعرفة آسباب وعوامل تجدد فوراناتها وثورة بركينها من آن لآخر، لا سيما في هذه الأيام التي تندلق علينا فيها عدوانية صليبية - صهيونية تستثمر في جاهلية دموية، وممارسات وحشية وإرهاب.. وكل ذلك لا ينذرنا بأيام للعرب على العرب، أي بتلك الحروب والمواقع بين قبائلهم مما سمي "بأيام العرب"، بل وبفتنٍ مذهبيةٍ وطائفية ودينية وعرقيةٍ دمويةٍ، تحتضنها وتحرض عليها وتمولها دول، وهي في النتيجة تكرس تبعية كثيرين منا نحن العرب للغرب الصليبي وللعنصرية الصهيونية.. تماماً كما كان شأن كثيرين من العرب في الجاهلية الجهلاء حيث كانت تعيث وتعبث بهم تبعية للفرس أو للروم " البيزنطيين على الخصوص" أو لغيرهما من الأمم، وتزجهم في حروب بالوكالة عنهما.. إلى أن جاء الإسلام فعزّ العرب به وارتفعوا بفضله في سلم القيم بين الشعوب. مادياً وروحياً وثقافياً وحضارياً، وأزاح من واجهتهم النفسية والاجتماعية عصبيات كانت تغلق العقول وتحكم القلوب إلى حدٍ كبير..

لا آقتحم نقائض العرب ومنها نقائض الفرزدق وجرير والأخطل، لا سيما فنياً، بل أحاول أن أقارب وأقترب من ذلك التناقض الداخلي الخفي، الذي هو بنظري نقائض النفس، نقائض الذات من خلال الذات أو بالهجوم المنطقي عليها من خصوم لها مما يتسبب في نقض معمارها النفسي والعقلي وحتى الوجداني إن هي صحَت.. حيث أراه نقضاً يكمن في زوايا خفيَّة كثيرة في عمق أعماق الذات، ويترسب هناك فيها خلال التصرفات والسلوك وإشباع الغرائز والرغبات واتباع الشهوات فيفعل فعله عند اتخاذ المواقف وبناء الآراء التي يتخذها الإنسان أو يبديها أو يستند إليها.. من خلال الأفكار التي يأخذ بها أو تحكم أفعاله واندفاعه ونهجه، ومن خلال المعتقدات التي يؤمن بها، وبتأثير ما يراه مقدساً أو ما يرفعه إلى مرتبة التقديس ثم تتزلزل قداسته لديه أو تميد أركانها شيئاً فشيئاً، وقد تهوي فجأة وتصبح ردماً يثقُل عليه أو يردم روحه.. وأعني بذلك هنا التناقض الذي يعتمِل في داخل الشخص بين متطلبات جسده ومتطلبات روحه، بين حاجاته وإمكاناته وتطلعاته، بين عقله وقلبه، غرائزه وتسامياته، أبعاده المعنوية/الروحية وأبعاده المادية.. بين آحكام الطبيعة البشرية الفيزيولوجية - الوراثية وأحكام القيمة الروحية المعنوية الأخلاقية الدينية، بين الإلحاد والكفر والإيمان، الشك واليقين.. وفي كل ما يستشعره وهو يعيش النمو ويخوض معترك الحياة القاسي بماديته الصلبة متقاطعاً مع ما يتطلع إليه فيها وما يحلم به في أثنائها، بكل ما فيه رهافة وشفافية ومثالية وروحانية.. بين متطلبات الغرائز وضرورات إشباعها وطفرات الشهوات وما يعترضها من عوائق، وما يُعترَض عليه وعلى كثير من الأساليب والوسائل والأدوات التي تحاول الغرائز والنزوات والشهوات اتباعها من أجل الوصول إلى الإشباع.. ومن ثم مقاربة حكم الوجدان على ذلك.. هذا عند من يستيقظ عنده الوجدان وتسع مدى المنطق ويستطيع أن يُحاكم ويصدر حكماً ويأمر أمراً ويلجم فعلاً؟!.. أما من لا تتاح له فرصة صحوٍ ويقظة ضميرٍ وسطوع نور عقلٍ شاكٍّ ناقدٍ.. فذاك يمارس  عملياً آلية " ميكانيزم" الكبت" الاواعي في حالت وآلية " ميكانيزم" القمع الإرادي الذاتي اللذين يدفنان في رمال النفس ما لا يرغب في مواجهته من أمور وأحكام قيمة وقيم.. على أن ذلك النوع من الدفن لا يعني الغياب الكلي التام والشامل لمفاعيل المدفون الذي لا يموت ويفنى وإنما يعمل من خلال العقل الباطن " اللاوعي" على نحو ما.. حيث يحفر الكمائن للذات فيضللها ويقودها الضلال إلى أن تفجُر وتطغى، أو يؤذيها ويؤلمها، أو يشقيها ويرديها في حالات.. ويكون ذلك بحكم عقاب من الداخل لمن غيَّب بذرة الخير في ذاته فيكون له وجدانه وإيمانه من خلال عقله الباطن بالمرصاد.. أما من يفتقد تلك البذور فيحيا ويفنى دابة في الأرض لال تتطلع إلى أفق أعلي ولا تعرف إن كانت هناك سماء.. وفي

 

مثل هذه الحالات يكون نقض معمار الذات من قبَل الذات أقوى وأقسى وأضرى لأن الناقض يعرف المداخل إلى المنقوض. 

هناك تناقض مغْفَل أو مبهَم في دواخل أشخاص لا يدققون في الكثير من الأمور والأفعال، ويركبون مركب النزوة بتمرد واعتداد بالنفس، وهذا ينطوي على تناقض ملحوظ بدرجات متفاوتة عند من يدققون في سلوكهم وتصرفاتهم وأفعالهم وآفكارهم وآرائهم، ومن يؤسسون لأحكام العقل والوجدان على سلوكهم وأساليبهم وآدواتهم.. سواء أكان ذلك في مراحل الفعل والأداء أو سابقة عليهما محاكِمة لهما، أو في مراحل لاحقة من النضج والحكم على الفعل بمعطيات جديدة منها المعرفة والإرادة، وهناك مراحل أخرى متصلة بالمعرفة والتلقي العلمي وبتأثيرهما وانعكاساتهما على المرء في سلوكه وفي محاكمته لسلوكه وأحكامه على أفعاله، لا سيما حين يقارب المرءُ ما كان منه وفيه وما أصبح عليه وما يتطلع إليه من أحوال، في أثناء سيرورته مع المعرفة، وصيرورته في الحياة، ونضج عقله وإرادته ومشاعره، وقدرة كل ذلك على التأثير فيه وعلى هديه إن صح التعبير، ودورها في التحكم بمدى المصالحة مع ما يعرضه على وجدانه وما يفرضه عليه وجدانه من أحكام.. وهنا يكون الإنسان أمام الاختيار بمسؤولية وحرية أو أمام حرية ترتب المسؤولية إذ تفتح باب الاختيار.. وفي هذه الحالة لا يكون المرء مسؤلاً أمام ذاته فحسب بل أمام الآخرين أيضاً لأنه اختار بحرية.

وهنا نجد أنفسنا على مقربة من تقاطع ذي مدلول وقيمة وتأثير.. حيث نجد إننا في النقائض يهدم الشاعر معمار خصمه من حيث المآخذ والمعاني والمقاصد، ويحاول أن يدمر كل ما جاء به الخصم بالرد عليه والعلو فوقه والتعالي عليه وإضعاف حججه ومنطقه وتضعيف معلوماته وتعريته من مناقبه.. فهي عملية "فن هدم" الآخر بهدم معماره بمعرفة تاريخه ونقائصه ومعايبه وأسراره من جهة وبتفنيد ما قال وادعى، ورد

 

أقواله ومآخذه عليه بمعرفة ومنطق وحجةٍ ومناقبية آناً وبهجوم كلامي بلاغي كاسح وانفعالية إبداعية آناً آخر. وفي التناقض الداخلي أيضاً نوعٌ من هدم لمعمار يقيمه الشخص في داخله على شكل قناعات ورؤى وتحصينات ذاتية، أو في الاستناد إلى اعتقادات شبه راسخة.. وقد يعرف معايب ما بَنى وما ينقضه من تناقضات تشبه فقاقيع الماء الذي يغلي في بؤرة بوتقة خفية فتؤرقه وتهز هزاً، أو يتقض ما قد يخفى على صاحب الأمر من ذلك خصم له ينبش ذاته ويضعها أمامه، أو ربما تهديه إلى ذلك معرفة أو تجربة أو صحوة خلاقة ووقفة أمام يقظة ضمير حي أو في بؤرة سطوع ضوء عقل يزدهي بمنطق فيهدم ما بنى أو ما بُني فيه على ضلال، أو بسبب من تغييب للمنطق، حيث يرده عن ذلك نقضٌ لمنطق التغييب. وهكذا نجدنا أمام نقاط التقاطع بين النقائض والتناقضات، بين النقض والتناقض، حيث تعمل فئة منهما في مجال النقائض على الملأ، بينما تعمل الأخرى على التناقضات في السر والعلن، في المحاكمات الداخلية أو في الممحاكات الجدلية حيث هحوم الخصوم على الذات من الخارج بمنطق وعلم ومعرفة وفهم يستطيع هدم النقيض ومن أقامه.. وهنا حيث يتقاطع التناقض مع النقائض في عملية النقض/الفضح/الهدم، وما ينتج عنها، نقف عند مفترق وملتقى لنتأمل في الحالين وضع الناس لا سيما المنغمسين منهم في أي من النقائض والتناقضات بأشكالها وأبعادها، ووضع المعنيين بذلك بصورة ما والمتفاعلين معه والمنفعلين فيه إلى حدٍ يتجاوز الهوس.

أردت من هذه المقاربة أن أقف على بعض أنواع الهدم. الهدم للهدم والهدم للبناء، في مجالين واسعين، مجال ذاتي يشمل معمار النفس والروح والشخصية الفردية، ومجالٍ قبيلي - اجتماعي - قومي يطل على جوانب وزوايا ذات ظلال كثيفة ينمو فيها فطر سام، هي من المعمار الجمعي بمكان، في أبعاده المؤثرة وآفعاله المثيرة.. وكل من المجالين فعَّاٌل في الحياة، ويستحق أن يؤخذ بالاعتبار من جانب من يرون أننا بحاجة إلى مراجعة منهجية علمية عميقة شاملة في مجالات التربية والثقافة والسياسة، في ضوء ما شهدناه وما نشهده من قتل للإنسان والقيم وهدم وتدمير للعمران والشيم، على أيدي أشخاص وجماعات خرجت من قماقم شتى من هنا وهناك، تمتد مفاعيلها ومواويلها من العرقية والشعوبية والطائفية والمذهبية والأيديولوجية والعنصرية والصليبية.. إلى أفظع أنواع الاستبداد والفساد والإفساد والشر والدموية الوحشية المنغرسة قوائمها في أمراض شخصية وجماعية.. فسببت كل تلك الكوارث والمآسي والويلات، فشوهت أمة، وخربت بلداناً عامرة، وشردت جموعاً آمنة مسالمة، وأزهقت أرواحاً بريئة بوحشية وهمجية لا توصف، واستدعت بصورة من الصور الفظة المهينة أعداء العروبة والإسلام لقتل العرب والمسلمين ولتشويه الدين/الإسلام، مستثمرة في رسيس الحقد والكراهية والغطرسة، وفي النقائض التربوية والتناقضات الفردية والجمعية الظاهرة والخفية.. مُنْفِذَةً في أمة العرب على الخصوص حراب الحقد الصليبي - الصهيوني المسمومة، بمشاركة من أعداء لأنفسهم وللأمة والقيم والدين والإنسان، لا يرون ما يدفنونه في رمال أنفسهم من سوءات وسيئات وعصبيات وأمراض ولا يشعرون بها ولا بأنهم رهائن للغريزي المتخلف وللشهوات المتلفة ومنها التسلط، ولا يدرون خطر ذلك عليهم وعلى غيرهم في هذا الوطن الذي آشقاه ويكاد يهلكه أهل النقائض والتناقضات.

 

دمشق - ‏الثلاثاء‏، 7‏ تشرين الأول‏، 14

 

علي عقلة عرسان