تقرير الموت على مائدة السحور

الساعة 06:53 ص|19 يوليو 2014

غزة - فتحي صباح

أعدت حُسُنْ جربوع (64 عاماً) «صينية» عليها طعام السحور لأفراد عائلتها عند الثانية فجراً، فيما دوي الانفجارات وأزيز الرصاص يقترب رويداً رويداً.

فجأة سمعت أصواتاً تنادي عليها وأفراد عائلتها بالخروج من المنزل، فخرجوا وتركوا كل شيء وراءهم لا يلوون على شيء، في وقت كانت تدور اشتباكات عنيفة بين رجال المقاومة ووحدة كوماندوز بحري إسرائيلي على شاطئ بحر السودانية شمال القطاع.

وفيما هم يبتعدون عن المنزل في حي العامودي في منطقة السلاطين في بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، كانت مئات العائلات الأخرى تُخلي منازلها على وجه السرعة، والجميع يتجه جنوباً إلى قلب مدينة غزة.

لم يكن هناك سيارات أو أي وسائل مواصلات، فمشت حُسُن وابناها وزوجتا أحدهما وابنتها وأولادها الثلاثة سيراً على الأقدام.

لا تستوعب المرأة المتوفى زوجها، وتعاني من أمراض ضغط الدم والسكري وهشاشة العظام، كيف حملتها ساقاها أكثر من ثلاثة كيلومترات حتى وصلت إلى أقرب مدرسة في حي النصر في المدينة.

نقلها موظفون من «وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين» (أونروا) الى مدرسة الشاطئ المشتركة «ج» في مخيم الشاطئ للاجئين المؤلفة من ثلاث طبقات للإقامة فيها.

الشيء نفسه تقريباً حدث مع ماهر الدن (49 عاماً) وزوجته وأبنائه. الرجل المريض بضغط الدم والسكري والكبد الوبائي «إه»، وأصيب بجلطة دموية، ينام على فرشة رقيقة من الإسفنج، ويضع قريباً من أذنه جهاز راديو صغيراً لمتابعة آخر أخبار العدوان على القطاع في الثامن من الشهر الجاري.

في الغرفة المزدحمة تقيم إلى جانب زوجته وولديه، وأحدهما مصاب بشظايا إسرائيلية، وابنته وأطفالها الأربعة، عائلتان مؤلفتان من نحو 15 فرداً.

قالت زوجته: «سقطت قذيفة في منزلنا عند السحور، فاشتعلت النار فيه، فهربنا منه وجئنا إلى هذه المدرسة». وأضافت: «في الطريق، شاهدنا سيارة أجرة تشتعل فيها النيران نتيجة إصابتها بقذيفة، وجثة السائق محترقة بداخلها».

ويقع منزل الدن في منطقة العطاطرة التي أمرت قوات الاحتلال، من خلال مناشير واتصالات هاتفية، سكانها وسكان منطقة السلاطين في بلدة بيت لاهيا الواقعة عند الطرف الشمالي الغربي للقطاع، بالنزوح عنها، وإلا عرّضوا حياتهم للخطر.

وهذه كانت حال أيمن المفتي (42 عاماً) القاطن في منطقة العطاطرة قرب مقر المدرسة الأميركية الدولية القريب من الشاطئ الذي دمرته طائرات حربية إسرائيلية أميركية الصنع من طراز «أف 16» أثناء العدوان عام 2008.

هرب المفتي وزوجته وأولادهما الخمسة من جحيم صواريخ الطائرات النفاثة وقذائف المروحيات والزوارق الحربية، وجاؤوا إلى المدرسة نفسها. وقالت حُسُن لـ «الحياة»، وابنتها صابرين وأطفالها يتحلقون حولها: «لم يكن معنا أي شيء، ولم نجد في المدرسة سوى الفصول المدرسية والمقاعد، جلسنا على الأرض، ولم نعرف للنوم طعماً». وأضافت: «للمرة الثالثة يهجّرنا اليهود من منازلنا، الأولى كانت في حرب 2008-2009، والثانية في حرب عام 2012، وعندما عدنا إلى منزلنا بعد الحرب الأولى وجدته مدمراً». وتساءلت: «إلى متى سنبقى مهجرين؟! هجرونا من منزلنا في يافا عام 1948، ومرة أخرى عام 1967». وخاطبت حُسُن العالم وهي تبكي: «يتطلعولنا (لينظروا إلينا) ولو مرة واحدة، للشهداء والأيتام والنساء المترملات».

يذكر أن 22 ألف فلسطيني نزحوا عن منازلهم في العطاطرة والسلاطين قبل بدء العدوان البري فجر أمس على بلدتي بيت لاهيا وبيت حانون وعلى الحدود الشرقية للقطاع البالغ طولها نحو 50 كيلومتراً، خصوصاً حيي الشجاعية والزيتون شرق مدينة غزة، وشرق مدينتي رفح وخان يونس جنوب القطاع. ولجأ نحو عشرة آلاف آخرين بعد بدء العدوان إلى مدارس «أونروا» التي وجهت أمس نداء استغاثة إلى العالم لتقديم 60 مليون دولار كي تتمكن من القيام بدورها الإنساني في إغاثة المنكوبين.

تشعر حُسُن بقلق بالغ على الغرفتين اللتين بناهما لها «أهل الخير بعد عدوان 2008، وتخشى أن تعود بعد أن ينتهي العدوان الحالي وتجد الغرفتين أصبحتا أطلالاً كما بيتها السابق.

وفيما تصل أصوات انفجارات الصواريخ التي تلقيها الطائرات الإسرائيلية على بلدة بيت لاهيا إلى مسامع المهجرين، تصل أنباء عن سقوط نحو 58 شهيداً منذ بدء العدوان البري؟

وقالت صابرين: «لم يعد الزرع ينبت في باحة منزلنا منذ قصفته إسرائيل بالفوسفور الأبيض» أثناء عدوان 2008، وأضافت أمها حُسُن أنها أصيبت بأمراضها كافة بعد صدمتها بتدمير منزلها، وتساءلت: «إلى متى سنظل نموت بالقذائف أو الأمراض وتموت الأرض بالقذائف؟!».