إذا كانت المصالحة تعني أن يبقى الوضع الذي كان سائدًا إبان الانقسام تحت غطاء من حكومة وفاق وطني؛ فإنها ستقود إلى أي شيء باستثناء وحدة وطنيّة حقيقيّة.
وإذا كانت المصالحة شكلا من أشكال العودة وإعادة إنتاج الوضع الذي كان قبل الانقسام وعنوانه الأساسي «اتفاق أوسلو» والتزاماته المجحفة فلا داعي لكل هذا العناء، لأن هذا الواقع هو الذي أوصلنا إلى الكارثة، والانقسام أحد عناوينها. ومن ثماره تعميق الاحتلال وتوسيع الاستيطان وتقطيع الأوصال والحصار والجدار وتهميش القضيّة.
كل ما سبق يفرض نفسه بعد أزمة رواتب موظفي «حماس» التي تفجرت في وجة حكومة الحمد الله بعد أقل من أسبوع على تشكيلها، وأدت إلى تطور خطير ظهر من خلال غزوة البنوك، التي تهدد إذا استمرت بأسوأ العواقب.
نصّ «اتفاق القاهرة» في عبارات غامضة على تشكيل لجنة إداريّة قانونيّة لتحسم موضوع الموظفين. وتضاربت الأنباء حول تفسيرها وما تمّ الاتفاق عليه عشيّة وأثناء وغداة «إعلان مخيم الشاطئ». ففي حين قال الرئيس والمتحدثون باسم الحكومة و«فتح» إن هذا الموضوع لم يحسم ورهن ما تقرره اللجنة، وبعضهم ذهب إلى حد أن الحكومة لن تدفع رواتب موظفي «حماس» لا الآن ولا في المستقبل، صرّح أحمد مجدلاني بأن هذا الأمر ستحسمه الحكومة التي ستشكل بعد إجراء الانتخابات. أما «حماس» فقال المتحدثون باسمها إن الحكومة مسؤولة عن دفع رواتب جميع الموظفين بلا استثناء، لأنها من المفترض أن تكون حكومة وفاق وطني وليس استمرارًا لحكومة الحمد الله السابقة.
إن مسألة بأهميّة رواتب عشرات الآلاف من الموظفين لا يمكن أن تبقى معلّقة، بل كان من المفترض حسمها قبل تشكيل الحكومة، لأنها مسألة سياسيّة وإنسانيّة متفجرة ولا تقبل التأجيل.
لو كانت «حماس» تستطيع دفع الرواتب لموظفيها لما أقدمت على المصالحة بالشروط التي رأيناها، ولما وافقت على تشكيل حكومة يمكن أن يُطلق عليها بلا تردد «حكومة الرئيس»، ويكاد لا يوجد فيها وزير واحد مقرّب من «حماس».
رواتب موظفي حكومة «حماس» موضوع مهم، وكان من الملح سابقًا حسمه، والآن ملح أكثر في ظل أن موازنة السلطة تعاني من عجر كبير وأن تسديد رواتب موظفي «حماس» يمكن أن يؤدي إلى وقف تحويل المساعدات الأوروبيّة والأميركيّة إلى السلطة، وربما وقف الاعتراف بالحكومة بحجة أن هؤلاء الموظفين ينتمون في غالبيتهم إلى تنظيم مصنف «إرهابياً»، حتى لو صدقت الأنباء بأن قطر وعدت بسداد الرواتب لمدة عام كامل وإلى حين إجراء الانتخابات، فإن الآليات التي سيتم فيها صرف الرواتب معقدة وتنطوي على مخاطر، حتى على البنوك التي ستتعاطى مع هذه القضيّة، خشية من وقف التعامل المالي معها من المؤسسات الدوليّة، الأمر الذي يلحق بها خسائر فادحة.
لا تقتصر ألغام اتفاق المصالحة على ما سبق، بل تشمل أيضًا عدم ولاية الحكومة على الأمن، لأن هذا الملف جرى الاتفاق على تأجيله إلى ما بعد الانتخابات المقبلة، بالرغم من أن تطبيق ما هو وارد في «اتفاق القاهرة» حول الأمن، خصوصًا بتشكيل لجنة أمنيّة عليا وجعل الأجهزة الأمنيّة مهنيّة بعيدًا عن الحزبيّة؛ كان ولا يزال أمرًا ضروريًا وممكنًا الشروع في تطبيقه، ولو على مراحل، من خلال البدء بتوحيد الشرطة، وهذا الهدف يمكن تحقيقه، إذا توفرت الإرادة، خلال ثلاثة أشهر.
من دون كل ذلك رأينا الحكومة كيف بدت عاجزة لا تستطيع أن تفعل شيئًا إزاء منع البنوك في غزة من العمل، ولا إزاء حل مشكلة رواتب موظفي «حماس» ودمجهم بالموظفين الآخرين.
إضافة إلى الموظفين والبرنامج السياسي والأجهزة الأمنيّة وتأجيل ملف المنظمة عمليًا، بالرغم من أنه الأهم، والمدخل الحقيقي لإنهاء الانقسام، هناك ألغام أخرى مثل عدم الاتفاق على آليّة عمل «معبر رفح»، ومن سيرابط هناك، الحرس الرئاسي على أساس «اتفاقيّة المعبر» العام 2005، أو شرطة «حماس»، أو حل وسط يؤكد إذا ما تم تطبيقه بأن ما يجري هو إدارة للانقسام لا إنهاؤه؟
لغم آخر يعترض الحكومة يتمثل بعودة المجلس التشريعي إلى العمل، بحيث إذا قام بدور فاعل في منح الثقة للحكومة والمراقبة على عملها، سيعرّضها لوقف التعامل الأميركي معها، لأن القانون الأميركي ينص على عدم منح مساعدات لأي حكومة تشارك فيها أو تؤثر عليها جهات «إرهابيّة». وإذا وجدت «حماس» نفسها قد خرجت من «مولِد المصالحة بلا حمّص»، فيمكن أن تهدم المعبد على من فيه، فهي تنازلت كثيرًا لأنها في ضائقة شديدة، ولتجاوز احتمال إسقاطها بالقوة بعد المتغيرات الإقليميّة، خصوصًا في مصر، بعد تنصيب السيسي رئيسًا، أو نتيجة انفجار شعبي على خلفيّة تردي الحياة في غزة تحت حكم «حماس».
«حماس» دفعت مقدمًا من أجل المصالحة لتدارك ما هو قادم، ولكي تقبض فورًا اتفاقًا ببقاء سيطرتها الفعليّة على غزة من خلال عدم المساس بأجهزتها الأمنيّة، ولاحقًا من خلال إلقاء عبء الحكومة عن كاهلها، وفتح معبر رفح، ونافذة في علاقاتها مع مصر تسمح لها بحريّة الحركة إلى مصر وعبرها ذهابًا وإيابًا، وانتهاء بإحياء المجلس التشريعي الذي تتمتع فيه بالأغلبيّة.
إذا وجدت «حماس» أنها لن تحقق ما سبق وأن المطروح ليس التعامل معها كشريك؛ عندها ستجد نفسها في وضع لا يوجد فيه ما تخسره، وقد تختار العودة إلى الحكومة، أو تنشيط ورقة المقاومة التي ما كفت «حماس» عن التكرار أنها تخلت عن الحكومة من أجل المقاومة.
ما سبق يشكل تحذيرًا من أن تكون المصالحة شكلا من أشكال استمرار الصراع والحسم الداخلي، بالضبط مثلما يراد من عقد الانتخابات القادمة أن تكون ميدانًا للتنافس الداخلي وليس أداة في يد جبهة وطنيّة متحدة في مواجهة الاحتلال، على أسس شراكة حقيقيّة، وليس على أساس منح شرعيّة جديدة لـ «اتفاق أوسلو» والتزاماته التي لم تقربنا من إنهاء الاحتلال، بل أدت بالمحصلة إلى تعميق الاحتلال وإلى الانقسام، ليس بين «فتح» و«حماس»، وإنما بين أفراد وتجمعات الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده.
لا بديل عن بلورة إستراتيجيّات تحدد القواسم المشتركة وتنظّم التعدديّة والتنافس في إطار حركة تحرر وطني تناضل من أجل تقرير المصير والحريّة والعودة والاستقلال.
السؤال: هل تقدر القوى الراهنة على تحقيق ذلك، أم نحن بحاجة إلى قوى جديدة أو تغييرات جوهرية لما هو موجود؟