خبر في الحرب والمسؤولية الاخلاقية ... هآرتس

الساعة 08:45 ص|06 يونيو 2014

 

بقلم: شلومو أفنيري

 (المضمون: يستمر الفلسطينيون والعرب عامة على انكار مسؤوليتهم عما حدث لعرب فلسطين في 1948 والقاء المسؤولية على الاستعمارين البريطاني والفرنسي وهذه عادتهم على مر التاريخ - المصدر).

في الاول من ايلول 1939 اجتاحت قوات جيش المانيا النازية بولندة، وبذلك بدأت الحرب العالمية الثانية. لكن سلطات الرايخ ارادت ان تعرض الاجتياح في ضوء مختلف – لمواطنيها وللعالم – ولهذا اخذت بتحرش مثله راينهارد هايدرخ من قادة الـ اس.اس، فقد مثلوا قبل ذلك بيوم في 31 آب هجوما بولنديا على محطة الاذاعة الالمانية في المدينة الحدودية الالمانية غلايبيتس في شلزيا وبثوا اعلانات بولندية معادية لالمانيا وأضروا بمكاتب المحطة. وتركوا في ذلك المكان عددا من جثث القتلى الذين ألبسوا الزي العسكري البولندي وكان الضحايا سجناء اخذوا من سجون في المانيا وتم الباسهم اللباس العسكري واطلق عليهم الرصاص حتى ماتوا، ورميت جثثهم في داخل المحطة. وجاءت السلطات الالمانية ايضا بدبلوماسيين الى المكان للبرهان على العدوان البولندي فلم يصدقهم احد وان كان ربما وجد في المانيا نفسها من مالوا الى تصديق روايتهم في الايام الاولى على الاقل بعد اجتياح بولندة الذي عرضه جهاز دعاية غبلز على انه رد على "التحرش البولندي".

في مقالة عودة بشارات "تطهير صغير هنا وطرد صغير هناك" (هآرتس 26/5) لا يبالغ الى درجة اتهام اسرائيل بالهجوم على الدول العربية في 15 ايار 1948، لكنه بدأ يقترب من ذلك حينما حاول ان يتحرر – كما هي العادة في السردية الفلسطينية – من كل مسؤولية للطرف العربي عما وقع في 1948. يصعب على بشارات ان ينكر انه بعد يوم واحد من انتهاء الانتداب البريطاني على ارض اسرائيل واعلان اسرائيل استقلالها اجتاحت اسرائيل الدول العربية المجاورة مع العراق. ولن تستطيع اية حيلة ان تخفي حقيقة ان الجيش المصري وصل الى النقبة في السهل الساحلي والى رمات رحيل على مشارف القدس؛ وفصل النقب عن دولة اسرائيل؛ وان الجيش السوري وصل الى دغانيا؛ وان الجيش العراقي انتشر في الكاكون على بعد 10 كم عن نتانيا؛ وأن الفيلق الاردني فصل القدس واحتل البلدة القديمة وحاصر غربي المدينة.

لا ينكر بشارات ذلك لكنه لا يذكر بالطبع ان الغزو العربي كان يرمي الى منع تحقيق قرار الامم المتحدة الذي صدر في 29 تشرين الثاني واعترف بانشاء دولة يهودية ودولة عربية في ارض اسرائيل. فلا يذكر قرار التقسيم الذي صدر عن الامم المتحدة ابدا في السردية العربية ولا قرارات الجامعة العربية على منع تحقيقه بالقوة. لكن لانه لا يمكن انكار انه حدث غزو عربي منسق يستعمل بشارات تكتيكا جديدا مدهشا لمضاءلة المسؤولية العربية عن الغزو ونتائجه المأساوية بالنسبة للجمهور الفلسطيني: فليست الدول العربية هي المسؤولة عن الغزو أو كما قال "ان الدول العربية في ذلك الوقت: العراق والاردن ومصر والسعودية كان يحكمها الاستعمار البريطاني... ولا ننسى سوريا ولبنان اللتين كانتا قبل ذلك بسنتين فقط تحت حكم الاستعمار الفرنسي".

يجب ان نحك اعيننا جيدا وان نقرأ ذلك مرتين كي نفهم ان الدول العربية لم تهاجم اسرائيل – فليس الحكام في القاهرة وبغداد وعمان هم المسؤولين عن الغزو – بل الاستعمار البريطاني والفرنسي. وهكذا يمكن بجرة قلم او بنقرة على لوح الطباعة في الحاسوب اعفاء العالم العربي من المسؤولية عن الغزو، فليست الجيوش العربية وقادتها والساسة الذين ارسلوها الى الكارثة في ارض اسرائيل هم المسؤولين بل الاستعمار البريطاني والفرنسي. هكذا وبصورة قاطعة – فلم توجد تصريحات ومباحثات طويلة في الجامعة العربية ولا تنسيق سياسي بين الدول العربية (مع جدالات غير بسيطة احيانا)، ولم توجد محاولات لانشاء قيادة مشتركة عربية. فقد كان كل ما فعله الساسة العرب ان نفذوا اوامر استعمارية. وباختصار لم يوجد هجوم عربي على اسرائيل بل مؤامرة انجليزية فرنسية على اسرائيل. اجل لم تكن بريطانيا وفرنسا محبتين لصهيون في 1948 لكن تحميلهما المسؤولية عن الهجوم العربي على اسرائيل ليس تناقضا فقط بل كذبا فظا ايضا.

ان هذه القصة الهاذية تورط بشارات بالطبع في تناقض داخلي عميق حينما يقول في نفس الفقرة: "تخلى البريطانيون عن عرب فلسطين في 15 ايار لرحمة دافيد بن غوريون الرحيم". فنحن امام امر من اثنين – فاذا كان المستعمرون البريطانيون هم الذين دبروا الغزو فكيف "تخلوا" عن عرب فلسطين؟.

اقرأ باهتمام مقالات بشارات ونقده اللاذع للسياسة الاسرائيلية في الماضي والحاضر، وهو صحيح حق احيانا. واحاول حتى حينما لا اوافق على ما يقول – ويحدث ذلك كثيرا – ان اصغي اليها لانها تعبر عما يفكر فيه جزء من الجمهور العربي في اسرائيل يجب علينا جميعا ان نصغي اليه، فهم مواطنو دولتنا وينبغي فعل كل ما يستطاع لتقريبهم لا لابعادهم. لكنني حينما قرأت هذا الكلام هذه المرة كان ردي الاول غضبا على الموقف الكاذب جدا مما حدث. ومع ذلك زال الغضب بعد وقت ما وجاء بدلا منه الحزن وربما شيء من الرحمة.

ولماذا الحزن بل الرحمة؟ لان كلامه ذاك يعبر عن عدم استعداد الجمهور العربي لمواجهة مسؤوليته الاخلاقية عن نتائج سياسته في 1948. فالجمهور العربي حتى حينما لا يمكن انكار شيء مهم جدا كغزو الدول العربية يطرح المسؤولية على الاستعمار لا على القرارات السياسية للزعماء العرب. وعدم الاستعداد لتحمل المسؤولية يبعد احتمال تسوية ما بيننا وبين الفلسطينيين اليوم: لانك اذا كنت واثق جدا بعدالتك واذا لم تكن عليك اية مسؤولية عما حدث من قبلك فكيف تكون مستعدا للمصالحة ولقبول شرعية الطرف الاخر.

يوجد في كل ذلك مفارقة سافرة قاسية فانه يصعب على بشارات الذي كان في الماضي امين سر الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ان يواجه حقيقة ان الاتحاد السوفييتي في الاشهر الصعبة من 1948 صوت مؤيدا خطة التقسيم بل مد اسرائيل – بواسطة تشيكوسلوفاكيا الشيوعية – بالسلاح والطائرات التي مكنتها من الثبات للهجوم العربي. وكما لا يظهر قرار تقسيم الامم المتحدة ألبتة عند بشارات لا يذكر ألبتة ايضا التأييد السوفييتي لانشاء دولة اسرائيل وحمايتها من الغزو العربي. ويصعب مع صورة عامة معوجة كهذه مواجهة الواقع وهذا سبب الرحمة التي ثارت فيّ.

من الاشياء التي تجعل من الصعب جدا التطور السياسي العام في العالم العربي الميل الى اتهام الآخرين دائما بامراض المجتمع العربي فالاخرون هم المذنبون دائما: المغول، والعثمانيون والمستعمرون الانجليز والفرنسيون والصهاينة وامريكا. واشار احد كبار المفكرين العرب في عصرنا الفيلسوف السوري صادق جلال العظم الذي تأثر بالتراث الماركسي وبكانت، اشار الى هذا الميل وأنه من العوامل المركزية في فشل الحداثة في العالم العربي. فمن الاشياء التي تميز الحداثة الاعتراف بالاستقلال الاخلاقي للفرد والمجموع وتحمل المسؤولية عن افعالك ونتائجها. تستطيع اسرائيل ان تفخر بالجدل العميق الذي يجري فيها ويتناول في ضمن ما يتناول ايضا مقدار مسؤوليتها عن النكبة الفلسطينية. وفي مقابل ذلك يستمر الجمهور الفلسطيني على توجه الانكار والتحلل العام من المسؤولية الاخلاقية، وسيظل ذلك يدفع الفلسطينيين من فشل الى آخر. من المؤسف فقط ان بشارات الذي جاء من خلفية ماركسية لا يسير في طريق جلال العظم فهناك ما يمكن تعلمه منه.