أخيراً، وبعد سبع سنوات فلسطينية عجاف، ولدت "حكومة فلسطينية تجسد الاتفاق وتمثل إرادة الشعب الفلسطيني في القضاء على الانقسام"، وبهذه المناسبة نتوجه بالتهنئة الحارة للشعب الفلسطيني الشقيق على هذه الخطوة ـ النتيجة، ونؤكد على أنها خطوة لا تريح الفلسطينيين وحدهم وإنما تريح كل عربي تعنيه قضية فلسطين ويتألم بسبب الانقسام الفلسطيني الذي أضعف الصف والموقف الفلسطينيين، وشجع الإرهابيين الصهاينة على مزيد من الإرهاب والاستيطان وتدنيس المقدسات الإسلامية والمسيحية في فلسطين المحتلة، وعلى مزيد القحة في تعاملهم مع شعب عريق، ومع من يتفاوض معهم للتوصل إلى حل لقضية طال عمر الظلم فيها، ولا يمكن أن تحل بترسيخ انقسام الفلسطينيين وإضعافهم.. فهم، لمن يريد أن يفهم ويستشرف المستقبل، شعب صابر مناضل مثابر، صمد وضحى على مدى العقود السبعة الماضية من الزمن بوجه الاحتلال والمحو والإبادة، وأثبت أبناؤه بالدم والعزم أنهم أهل لكل احترام واستقلال وحرية، وأنهم سوف يستعيدون أرضهم ووطنهم التاريخي فلسطين ولن يكونوا إلا جزءاً من نسيج أمتهم الثقافي والتاريخي والحضاري.
من الطبيعي أن يستفز فعل الوحدة الفلسطينية الشجاع المسؤول الكيانَ الصهيوني ورموز الإرهاب والإجرام فيه، ومن الطبيعي أيضاً أن تعمل دولة العنصرية والإرهاب المحتلة لفلسطين العربية من البحر إلى النهر كل ما بوسعها لتدمير التفاهم الفلسطيني الراهن، وأن تحاصر حكومة الوحدة الوطنية الجديدة بالكثير من الأزمات والعقوبات والاتهامات وبأشكال الاستفزاز وألوانه، وأن تقوم بتحرك دولي يهدف إلى تشويه الغاية والوسيلة الفلسطينيتين، وإلى تمزيق الصف السياسي والثقافي، وترسيخ الفرقة بين أبناء الشعب الواحد، وزعزعة الثقة بين المناضلين من أبنائه الذين ضحت أجيال بعد أجيال منهم بالأرواح وبكل غالٍ ونفيسٍ من أجل أعدل قضية في التاريخ الحديث، وضد أعتى قوة احتلال واستعمار وإجرام في العالم المعاصر"، الحركة الصهيونية وتحالفاتها. وقد بدأ جنون نتنياهو وحكومته بتهديد ووعيد معلنين للفلسطينيين وحكومة الوحدة من جهة وبتخطيط لأعمال أخرى غير معلنة ضدهما من جهة أخرى، أعمال تقررها لجنة وزارية كلفت بذلك في اجتماع مجلس وزراء العدو يوم الاثنين الماضي.. وكانت المباشرة الإسرائيلية الفورية بعقوبات مالية وقرارات تفيد الحصار والمقاطعة " للفلسطينيين، و" خول رئيس الوزراء باستخدام العقوبات"، باستثناء التنسيق الأمني العزيز على قلب المسؤولين الإسرائيليين، وبالإعلان عن توجهات من شأنها أن تضع الحكومة الجديدة في مآزق داخلية وعربية ودولية، وأن تعيد غرس وسقاية بذور عدم الثقة من جديد بين غزة والضفة الغربية بأي شكل من الأشكال، حتى بافتعال أحداث وقضايا ومشكلات لا دور لفلسطينيين ولا سيما لحماس بها، ومنها القيام بعمليات عسكرية من خلال عملاء وتحميل غزة المسؤولية عنها والنتائج المترتبة عليها، وذلك بهدف إعادة الانقسام الفلسطيني ـ الفلسطيني إلى حيز الواقع والفعل والتفاعل. ويبدو أن التوجه الأولي هو اتخاذ كل ما من شأنه أن يجعل ما كان حصاراً خانقاً على غزة يشمل الضفة وغزة معاً" ليشل الحكومة الجديدة ويستثير الرأي العام الفلسطيني ضدها، ويزيد من درجة الضغط على الفلسطينيين داخلياً وخارجياً.. وما تشكيل لجنة وزارية إسرائيلية، وبداية تحرك إيباك وأعضاء الكونغرس اليهود والموالين لإسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية منذ يوم أمس إلا لهذه الأغراض ولما هو أبعد من ذلك مما ستسفر عنه القادمات من الأيام. وقد أطلق نتنياهو ووزراؤه تصريحات تحدد الأفق المستقبلي للتحرك الصهيوني المضاد، فقال في مجلس الوزراء يوم الاثنين 2 حزيران/يونيه 2014 فيما يشبه التوجيه السياسي للصهاينة ولكل من يناصر إسرائيل في الولايات المتحدة الأميركية خاصة: "إن الرئيس الفلسطيني محمود عباس قال نعم للإرهاب ولا للسلام.. وهذا استمرار مباشر لسياسة رفض السلام التي ينتهجها."؟! وإضافة إلى ذلك اعتبار الحكومة الفلسطينية " الجهة المسؤولة عن كل العمليات الإرهابية المنطلقة من غزة ويهودا والسامرة», و" عدم إجراء مفاوضات مع الحكومة الفلسطينية التي تستند إلى حماس، التنظيم الإرهابي الداعي لتدمير إسرائيل"!؟
والعجيب في تفكير وتعبير هذا الـ "نتناهو" الداعي إلى تدمير دولة فلسطين وإبادة شعبها أن يشترط على الفلسطينيين أن ينقسموا ويقتتلوا ويقطعوا كل صلة بمن يؤيدهم من أمتهم، لكي يجري معهم مفاوضات، أقل ما يقال فيها إنها عقيمة، على ما تبقى لهم من حقوق ووجود، مفاوضات يجبرهم من خلالها، وبضغط أو عدم اكتراث دولي، على تقديم تنازلات بعد تنازلات عن أرضهم ومقدساتهم وعقيدتهم وهويتهم وانتمائهم القومي وعن كل مقومات ما يشكل جوهر وجودهم، وحتى عن كونهم شعباً واحداً؟!.. فهل هناك أمر عجب كهذا الأمر؟ وهل هناك عاقل يشترط على شعب أن ينقسم وألا يتوحد أبداً لكي يفاوضه على ما تبقى له من أرض وحقوق ووجود؟!.. نعم يوجد هذا الشخص على رأس دولة احتلال عنصرية، تمارس أسوأ أنواع الإرهاب ضد شعب أعزل منذ سبعة عقود من الزمن، وتحتل أرضه وتضطهده وتحاصره حصاراً مميتاً، وتطلب منه أن يفنيَ بعضه بعضاً لكي ترضى عنه وتسقط عنه التهم التي توجهها إليه من منبر العنصرية العتيق العريق.. نعم يوجد شخص من هذا النوع القبيح في عالمنا هو الصهيوني العنصري الإرهابي بنيامين نتنياهو الذي يقبله العالم رئيساً لحكومة قامت على الإرهاب وتمارسه يومياً ضد من يدافعون عن أنفسهم ووطنهم وحقوقهم ممن يسميهم هو إرهابيين، ويوجد في العالم من يتواطأ معه على تصنيفهم حسب رؤيته وإرادته وتوصيفه، وهو من يحتل أرضهم ويقتلهم ويقيم لهم معسكرات الاعتقال.؟!.. وهو أيضاً من يحملهم مسؤولية "القتل" وهو الذي يقتلهم في ديارهم، لقد قال نتنياهو: ".. أبو مازن تحالف مع منظمة الارهاب حماس المسؤولة عن قتل أكثر من ألف إسرائيلي بريء، واطلاق آلاف الصواريخ على مدن إسرائيل"، ونسي أو تناسى أنه في العدوان على غزة المعنون " الرصاص المصبوب" قتل أكثر من 1400 فلسطيني عدا الجرحى والمعوقين والمشردين، وما زال يحاصر غزة حصاراً مميتاً تحت نظر العالم وسمعه.. هذا عدا عن عشرات عمليات العدوان الإجرامي التي سقط ضحيتها آلاف الضحايا.. فصدق يا رعاك الله أو لا تصدق..؟!
والحق يقال إن نتنياهو ليس الشخص الوحيد من هذا النوع في الكيان الصهيوني، وليس أكثر الصهاينة إرهاباً وإجراماً، إذ يوجد من تفوق عليه في الماضي والحاضر، ولكن قد يكون هو أكثرهم خبثاً أو غباء في مطالبه واشتراطاته ومناوراته التي تفضحه أمام من يستعمل عقله في العالم وليس أمام صهاينة ومتطرفين على شاكلته يتبنون فكره ومشروعه ويسيرون وراءه ويصفقون له.. ومن طرائف ما يطالب به هو وأمثاله، رداً على تخوف " إسرائيليين يعقلون قالوا بعد تشكيل الحكومة الفلسطينية الجديدة: ".. في هذه اللحظة إن التخوف المركزي في إسرائيل هو أن يتوجه الفلسطينيون إلى انتخابات ديمقراطية، فيشركوا حماس ويحظوا باعتراف دولي يتوجهون به إلى الأمم المتحدة."، فكان من طرائف ما يطلبه نتنياهو وأمثاله:.". رفض السماح لحماس بالتنافس في الانتخابات للبرلمان الفلسطيني"؟! هذا مع ادعاء عريض مكرس في " الديمقراطيات الغربية" بأن " إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط؟! ومن المعروف أنها تسمح لكل الإرهابيين والمستوطنين والمتطرفين اليهود بالمشاركة في الانتخابات والحكومات، وبالاحتفاء بأكثر القتلة وإرهابيين والعنصريين إجراماً من اليهود في العالم من أمثال" "بيغن وشامير وشارون وباروخ غولدشتاين و..إلخ..؟!
في الجانب الآخر من التجمعات اليهودية في فلسطين المحتلة يوجد من يلومون هذا التيار ويعبون عليه تصرفاته، ويرون فيها حشراً لإسرائيل في الزاوية، حيث يظهرها هذا التصرف بمظهر غير مقبول، ويحرمها من تعاطف تحرص عليه، وقد يفقدها بعض الأصدقاء.. وهم يخافون من "دولة واحدة للشعبين"، ولا يذهبون إلى حد المطالبة بتعامل مع الفلسطينيين ينصفهم، أو يقيم لهم دولة هي الند "لدولتهم"، بل بدولة مضمونة تبقى في الجيب على أية حال.. وهؤلاء يرون في تصرف نتنياهو ومسؤولين على شاكلته قضاء على " حل الدولتين" الذي يرتضيه العالم، وهو حل قتلته المفاوضات وتشيعه قرارات الحكومة الإسرائيلية الأخيرة وتصريحات رئيس الوزراء.. ومن أولئك من يرى الوصول إلى الأهداف البعيدة للصهيونية لكن بوسائل أخرى، منها قول القائلين بـأنه " يجب على إسرائيل مع المعطيات الجديدة أن تعمل بمنقاش لطيف بغرض نزع شوكة حماس من لحم القيادة الفلسطينية."، ومنها ورؤية فريق آخر يرى أن الفلسطينيين "سيواصلون التصالح والتنازع بينهم وبين أنفسهم لسنوات عديدة اخرى، دون أن ينهض هناك احد ما قادر على ان يوقع على اتفاق مع اسرائيل والتسليم بحقيقة أنه لن تكون عودة لاجئين إلى نطاقها."، ويرى أنه "مع مصالحة مع دول الخليج؟! وخروج باللقاءات مع دول عربية من السرية إلى العلن"، وأنه ضمن مؤتمر دولي جديد، و" فقط بغلاف إقليمي واسع سيكون ممكنا الوصول إلى شيء ما.. هذا اذا كان ممكنا على الاطلاق."، وهو الحصان الذي يقول بعض الصهاينة إنه: "الحصان التالي، وليبرمان يحاول الان الانطلاق به.. ويرون أنه مشوق أن يعرفوا إلى أين."، مع حديثهم عن قولين متضادين للعنصري ليبرمان في هذا الشأن.. وهو الذي قال بعد تشكيل حكومة الوحدة الفلسطينية، في حقد وخبث وعدوانية تعترض على التصريح: " اذا كنت تريد أن تطلق النار فاطلق ولا تتكلم، وعندنا كله كلام.".
إن التجربة الفلسطينية والعربية، الطويلة المرة المعقدة، مع الكيان الصهيوني وحلفائه وعلى رأسهم الأفعى الأميركية ـ البريطانية، تفيد الكثير عندما نقاربها بمسؤولية ووعي وموضوعية وتواضع، لا سيما في هذا الصدد وفي هذا الوقت، وعندما نستقي منها حقيقة " أن الوحدة سلاح قوي" على أي مستوى وفي كل المواقف والمواجهات والمفاوضات.. وهذا الدرس هو ما ينبغي أن نحفظه ونطبقه اليوم، وما ينبغي أن نحمي تطبيقه ونزيد في درجة تماسكه وفي مدى اتساعه ونصبر ونضحي من أجله، وعلينا أن نفعل ذلك ونستفيد منه سواء أذهبنا إلى الأمم المتحدة وبنينا عليه، أو قاربنا فيه الأقربين من الدول العربية والإسلامية والدول الصديقة، أو قاربنا من خلاله الحال الفلسطيني الداخلي بتفاصيله وبكل ما يترتب على من يقومون بحمل عبء قضية التحرير وتقرير المصير.. ومن البدهي أن نستعد لمواجهة أشكال الضغط والحصار والعدوان الإسرائيلي، وما تقوم به دولة الإرهاب العنصري وحلفاؤها وشركاؤها وعملاؤها وأدواتها من أفعال لإفشال الحكومة الفلسطينية الجديدة، وشل الاتفاق الفلسطيني والعودة بالفلسطينيين إلى التمزق والتفرق والاقتتال.. وهذا يقتضي الوعي المسؤول، والتضحية بالجزئي من أجل الكلي الذي فيه القوة والبقاء وحياة الجزء لا موته، والاستعداد لأوقات صعبة ومواجهات أصعب، والعمل على استنفار الشقاء والأخوة والأصدقاء لحماية الوحدة الفلسطينية ودعمها والمضي بها على طريق الإنجازات الأكثر والأكبر والديمقراطية الأشمل، وتوفير أوسع قاعدة دعم لوحدة الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة وحقوقه المشروعة على كل المستويات: المالية والاقتصادية والسياسية والثقافية والإعلامية والدبلوماسية.. إلخ، ولكن أهم أوجه القوة التي ينبغي أن نبحث عنها ونتمسك بها وننميها هي تلك التي تنبع من البيت الفلسطيني وتنعكس عليه إيجابياً.
كل التهنئة للشعب الفلسطيني كله بنبذ الفرقة وبحكومة الوحدة التي عليه أن يتمسك بها ويطورها ويخلصها مما قد يراه فيها من ضعف أو شوائب.. وإنها لثورة حتى النصر من أجل فلسطين عربية من البحر إلى النهر.
والله من وراء القصد.
دمشق في 3/6/2014
علي عقلة عرسان