أربعة أمور على الأقل تلفت النظر بقوة في زيارة قداسة البابا فرانسيس، بابا الفاتيكان، إلى فلسطين المحتلة، وهي أمور تستوقفني أو أجد أن من الأهمية بمكان التوقف عندها لدلالاتها السياسية بوصفها مواقف ذات أبعاد ومنعكسات سياسية لا تتصل بالشأن الديني الذي تنطوي عليه الزيارة أيضاً ولا أقاربه هنا، وقد أعلن أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين "أن الزيارة التي يقوم بها البابا فرنسيس إلى الأراضي المقدسة في أيار الجاري لها أيضاً طابع سياسي.". والأمور الأربعة التي أشير إليها هي: |
ـ الأمر الأول، من حيث الإثارة، إقدام البابا فرانسيس في 28/5/2014 خلال زيارته للقدس المحتلة على تقبيل يد الحاخام الأكبر للصهاينة، في صورة نشرت على نطاق واسع. وحسب وسائل إعلام كثيرة: "رفض جزء كبير من المسيحيين الارثوذوكس والكاثوليك تقبيل البابا ليد الحاخام، واصفين هذا التصرف بأنه في غير محله."، وفي محاولات لاحقة لتحريف المضمون أو لصرف النظر عن الموضوع بصيغته الأصلية، لأنه استثار بعض المشاعر، سُرِّبت أخبار منها ما نقلته صحيفة "هافينغتون بوست التي قالت:" إن الصورة تعود إلى تقبيل يد الباب فرانسيس لمن أسمتهم بالناجين من المحرقة اليهودية."؟! ونشر أيضاً في معادل لرأي الرافضين " أنّ التقبيل يدل على حالة من الرقي وعدم التكبر والبساطة التي كانت يتمتع بها المسيح..". إن بساطة المسيح وتسامحه وتواضعه.. إلخ أخلاق نعرفها جيداً ونقدرها عالياً، لكن ما لا نفهمه في تصرفات وأخلاق بعض أتباع المسيح عليه السلام ما قام به باباوات من دعوة وتحريض على الحروب الصليبية ضد المسلمين، وهي حرب دامت سنوات وتمت لأغراض و بدوافع " دينية واقتصادية واستعمارية" ونالت بكوارثها بعض أتباع الكنيسة المشرقية، لكنها تمت تحت راية الصليب، ولم تعتذر عنها الكنيسة ولا هي بينت أنها كانت خطأ بل خطيئة بحق المسلمين ولم تمثل أخلاق السيد المسيح!!.. فلماذا يكون الانحناء للباطل اليهودي أخلاقاً مسيحية وتواضعاً ولا يكون لحق الإنسان، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، مثل هذا الحق أو هذا الموقف. إنه سؤال مطروح من خلال الواقع والوقائع.؟!!
ـ الأمر الثاني إقدام الحبر الأعظم على زيارة ذات معنى سياسي بالغ الدلالة، أعني الزيارة التكريمية لقبر تيودور هرتزل مؤسس الصهيونية، الحركة العنصرية الاستعمارية المدمرة التي كانت وما زالت أساس بلاء ملايين الفلسطينيين والعرب الذين ما زالت مآسيهم مستمرة وتتجدد منذ مئة سنة ونيف بسب الصهيونية التي أجمع العالم في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 3379، الذي اتُّخذ في 10 نوفمبر، 1975 بتصويت 72 دولة بنعم مقابل 35 بلا (وامتناع 32 عضوًا عن التصويت)، ونص على "أن الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري"، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجية الصهيونية التي حسب القرار تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين.. وجاء في معتَمَد القرار ما صدر من دورة رؤساء دول وحكومات الوحدة الإفریقیة في أغسطس 1975 ودول عدم الانحياز في الشهر ذاته من أن: النظام العنصري الحاكم في فلسطین المحتلة والنظامین العنصریین الحاكمین في زیمبابوي وجنوب إفریقیا ترجع إلى أصل إستعماري مشترك، وتشكل كیاناً كلیاً، ولها هیكل عنصري واحد وترتبط ارتباطاً عضویاً فی سیاستها الرامیة إلى إهدار كرامة الإنسان وحرمته.."، وبيان دول عدم الانحياز التي أدانت الصهيونية في الشهر ذاته من العام ذاته:" بوصفها تهدیداً للسلم والأمن العالمیین، وطلبا مقاومة هذه الأیدیولوجیة العنصریة الإمبریالیة".. وهو قرار لم يلغ وإنما اتخذ بشأنه قرار برقم 46/86 يوم 16 ديسمبر، 1991 "جمدته"، وقد شاركت في اتخاذ ذلك القرار ووافقت عليه بعض الدول العربية ومنها فلسطين ـ للأسف الشديد ـ وتم ذلك في إطار مؤتمر مدريد الذي أسفر عن مآسٍ بشأن قضية فلسطين ولم يقدم للفلسطينيين وسواهم شيئاً.
والحركة الصهيونية بشقيها الكبيرين الديني والسياسي تصدر عن عنصرية متجذرة في الأيديولوجية الدينية والسياسية، ومن نماذج العنصرية الدينية على سبيل المثال لا الحصر ما يقول به حاخامات منهم الحاخام اليهودي مناحيم شنيؤرسن الذي قال في مقال نشرته صحيفة هآرتس في 16/5/1974 (إن أصل أرواح الشعوب هو من طبقات النجاسة الثلاث، بينما أصل أرواح بني إسرائيل هو من الروح المقدسة ذاتها..)!!؟ أما الصهيونية السياسية فحدث عن عنصريتها ولا حرج ونماذجها منتشرة من هرتزل حتى نتنياهو وليبرمان مروراً بزعماء الإرهاب المؤسسين لدولة الإرهاب والمجرمين من أمثال ارئيل شارون وباروخ غولدشتاين الذي قتل المصلين في الحرم الإبراهيمي وهم سُجَّد لله تعالى، وغيرهما عدد لا يحصى من المجرمين. ومن الطريف المضحك أن نتنياهو الذي يعرف جيداً معاني القتل والتعذيب في السجون الصهيونية والتمييز العنصري ضد العرب يقول للبابا بشأن هذه الزيارة: "إسرائيل الحقيقية هي دولة ديمقراطية، متقدمة، ومزدهرة.. وتشكل في المنطقة التي يطارد فيها المسيحيون، جزيرة التسامح.".؟! فيا للعجب العجاب.
ـ الأمر الثالث قيام غبطة الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي بطريرك إنطاكية وسائر المشرق للمسيحيين الموارنة، في أثناء زيارته لإسرائيل مرافقاً لقداسة البابا ـ وهي زيارات حرمها رجال الدين المسيحي المشرقيون ومنهم الأنبا شنودة وغيره ـ قيامه في أثناء هذه الزيارة التي اعترض عليها مسيحيون لبنانيون كثر، بمخاطبة لبنانيين، تآمروا على وطنهم لبنان، وخانوا شعبهم، وقاتلوا اللبنانيين جنباً إلى جنب مع الصهاينة العنصريين المحتلين لجنوب لبنان الذين اجتاحوا بيروت وارتكبوا فيها المجازر ومنها مجزرة صبرا وشاتيلا، ممن ضمهم ما يعرف بجيش لحد الذي هزمته المقاومة اللبنانية عام 2000 وكانت هزيمته بداية هزيمة أكبر للصهاينة المحتلين وتحرير جنوب لبنان من دنسهم.. قيامه بمخاطبتهم في كفر ناحوم على بحيرة طبريا المحتلة، في كنيسة القديس بطرس في، قائلاً للعملاء اللحديين الذين فروا من لبنان بعد التحرير في العام 2000. إنهم ضحايا"، و" إنهم يدفعون ثمن لعبة دولية وإقليمية ما»!؟ وهذا فعل سياسي محض في زيارة قال إنها ليست سياسية، وأنه كمواطن لبناني يعرف أن حالة العداء مع إسرائيل مستمرة، وأنه استأذن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في زيارة رعوية خالصة وليست سياسية، كما يعرف حكم لبنان على اللحديين الذين قاتلوا إلى جانب إسرائيل ضد لبنان، ويعرف أن موقفهم ما زال مع إسرائيل، وكان قائل بلسانهم هو فيـكتور نادر المسؤول السابق في «جيش لبنان الجنوبي» العميل لإسرائيل قد قال لفرانس برس: «نحن لا نريد العودة الى لبنان، نحن سعداء جداً هنا وابني يخدم في الجيش الإسرائيلي»!؟ نحن نفهم معنى الولاية الرعوية والمسؤولية الكنسية.. ولكن لا نتفهم الأبعاد السياسية للزيارة التي داخل الديني ـ الرعوي فيها بعدٌ سياسي واضح أغضب غبطةَ البطريرك الحديثُ عنه فقطع لقاء مع فرانس برس بسبب ذلك، كما أننا لا نتفهم كون العملاء باختيارهم " ضحايا" مع أن لسان حالهم يقول ما يفيد استمرار الانتماء لإسرائيل لا للبنان؟!
ـ الأمر الرابع، وهو أمر ينطوي عل جهل يرتدي ثوب الوقاحة، وهو جدل بنيامين نتنياهو في لقائه مع البابا حول لغة السيد المسيح، حيث جادل نتنياهو على أنها كانت اللغة " العبرية"، وكل من هو على أدنى درجة من المعرفة الدينية والثقافية والتاريخية يعرف أن لغة السيد المسيح كانت اللغة الآرامية التي ما زال أهل قرى في منطقة معلولا السورية يتحدثونها حتى اليوم، وهي لغة حضارة الآراميين الذي تركوا من الآثار الحضارية ما يترك الإرهابي ـ العنصري ـ الصهيوني متوحداً مع شبح عجل نحاسي صنعه السامريّ في سيناء ودمره موسى تدميراً؟! لكنَّ التعصبَ الأعمى والجهلَ ذا الغِلال العنصرية الوفيرة في الفكر والبيئة الصهيونيين يأبى إلا أن يفرض مقولاته على الكنيسة بصور وأساليب وادعاءات وأكاذيب شتى.. فهل ينجح المأفون نتنياهو، ومعه الغطرسة الصهيونية، في أن يفرض على الكنيسة " العبرية" لغة للسيد المسيح ذي اللسان الآرامي، كما نجحت الصهيونية "الدينية والسياسية" بأن تفرض على الكنيسة ثوابت منها: " براءة اليهود من دم المسيح"، وهم الذين قتلوه وصلبوه كما جاء في الثوابت العقدية والتاريخية لدى الأخوة المسيحيين، بينما أكد الإسلام الجريمة اليهودية من حيث المبدأ، وذلك في قتلهم وصلبهم " لمن شُبِّه لهم أنه المسيح ابن مريم"؟! فالأصل الجرمي واقع، ويشير إليه القرآن الكريم بقتل اليهود للأنبياء.. أما موضوع فرض التوراة بكل ما فيه من تاريخ على الإنجيل ومعه في سياق ديني موحد فموضوع ديني لا أخوض فيه لأنه من شأن الأخوة المسيحيين الذين يدركون جيداً، من نصوص الأناجيل، أن المسيح عليه السلام جاء بدعوة للناس كلهم، ودعا اليهود من بين الناس إلى أن يخرجوا من قوقعة " يهوة" القبلية أو القومية الضيقة كما يراها اليهود" إلى الفضاء الإلهي الأوسع بعيداً عن العنصرية المقيتة.. أن يخرجوا إلى الإنسان الأسمى حيث يرى الله محبة، وأنه لكل بني البشر وليس لفريق منهم يدعي أنه شعب الله المختار.؟!