المعادلات الرياضية صعبة، وبعضها يصدِّع الرأس ولكن عندما تهتدي إلى حلها، ولو بعد جهد، فإنك ترتاح وتشعر بالرضا إن لم يكن بالسعادة، لأنك تطمئن إلى حل قام على المنطق الرياضي ولا شبهة فيه وأنك توصلت إليه مُسَانداً بالعقل الذي يعزز قدرتك على الفهم. وربما تُحل المعادلة الرياضية بطريقتين، وبعض الضالعين في هذا العلم يجد طرقاً ويبتدع ويبدع.. ولكن المعادلات السياسية أصعب وأعسر على الفهم والهضم وأكثر تصديعاً للرأس، وحين تقاربها وتكاد تطمئن إلى فهم أو " حل" لها تتهاطل عليك الشكوك وتترى عليك الشبهات، فتتزلزل قناعاتك وتزداد قلقاً ولا ترتاح إلى فهم أو حل، فمع السياسة لا اطمئنان ولا راحة بال ولا مأمن ولا مهرب من سوء قد يتلطى لك في الرأس أو في المعلومة والإعلام والتصريح، أو يكمن لك في الطريق على شكل مخاطر وفخاخ منصوبة، وحتى في جدار غرفة نومك تسجيلاً لما قد تناغي به نفسك أو طفلك، هذا فضلاً عما يكمن لك في الميادين بأنواعها وأشكال المواجهات التي تتم فيها، مما يجعلك مسكوناً بالخوف حين تعرف أكثر وتفهم بصورة أدق.. وربما كان ذلك لأن المعطيات في معادلات السياسة غير محددة بشكل نهائي في طرفيها، وتصنع على شكل أحابيل أو تموه لتأخذ شكلاً غير شكلها الحقيقي، ولأنها متجددة متحولة متلونة، لا تستند إلى منطق ثابت معلوم وقد لا يحكمها منطق من أي نوع، بسبب تقديم المصالح على المبادئ، والغايات على الأخلاق والوسائل والأدوات، وبسبب التبدل في المنافع والأهواء والأمزجة والأشخاص والأحوال والتحالفات وكثرة أنواع الاستمالة والمغريات والشهوات والخزعبلات.. إلخ، وعلى الرغم من ذلك كله تجد أن كثرة كاثرة التي تعمل في تركيب المعادلات السياسية وتعقيدها وتمويهها وحلها، وأن عناصر بشرية تدخل عضوياً في تكوينها وتتفاعل في مناخها وتجد في ذلك لذة ومتعة بل حياة فتعيش وتنتعش وتقبل على تلك البيئة بحماسة واندفاع، وتلك بيئة تشبه الِّمَن، صالحة لنمو طفيليات كثيرة، حيث تتكاثر فيها بيسر، وتعمل ومن دوم حاجة لمنطق يحكم النشوء والتطور.. والمدهش في الأوساط التي تتلاطم فيها المعادلات السياسية ويتكاثر فيها صانعوها ومن يحاولون فهمها وحلها أو تطويرها وتحويرها.. المدهش قدرة أهلها على استباحة المحرم وتحريم المحلل وقدرتهم على البطش من دون رادع، وتمكنهم من التحول والتلون والتملص من المسؤوليات، واستعدادهم لتغيير دفة المركب عندما يشتمّون رائحة ضرورة لذلك، وسهولة تبرئهم من الأخطاء وتطهرهم من الدماء والجرائم والآثام التي يرتكبونها بحق الشعوب والأوطان وتلك التي يسببونها للأشخاص والجماعات.. بالإنكار أو وضع مسؤوليتها على آخرين وتقديمهم أكباش فداء، أو برد ذلك إلى "عمل من أعمال الشيطان"، فيتحمل هو " الشيطان" المسؤولية عنها ويبقون هم في الجنة وكأنهم الذين طردوه منها؟! وفي حالات دخول بعض أولئك ميدان الإجرام السياسي بمسوح الدين، مقاتلين أو محرضين على قتال لا يحكمه وجه حق أو يتبين له من بعد الولوغ في الدم أنه لم يكن لوجه الله والحق، فإنه يقول ببراءة تفوق براءة الذئب من دم يوسف: "إن ذلك كان قدراً مقدورا".. ومن تراه يهرب من قدر الله الذي ما هو فيه إلا أداة محكومة بقدر لا رادَّ لها إلا الله الذي كتب عيه أو كتب على الناس ذلك حتى من قبل أن يُخلق هو أو يُخلق الناس.؟!
اعجب أو لا تعجب، فأياً ما كان فعلك أو رد فعلك على ما تقدم من قول أو مالم يرد من إشارة إلى فعل أو فكر، ستجد من يدخلك من باب ويخرجك من باب ليشعرك أنك في دروب الصواب أو نقيضها، حين يكون ممن يلعبون على حبال " المنطق السياسي" الماحي لوجود معيار القيمة والمسؤولية الأخلاقية من فضائه، أو من هم مسخرون بمال للقيام بالترويج لهذا النوع أو ذاك من الفكر والعمل وفق ذلك المنطق.. ولكن في الأحوال التي يضعونك فيها جميعاً لن تشعر بالاطمئنان والراحة لأنك بنيت على منطق غير صائب وتحرك أن ما يقال فيه إنه مدمر خائب، لا يقدم للروح سبباً من أسباب الراحة.
هذه المقدمة، أو الفذْلكة كما يحب مناطقة أن يقدموا للقول، قادني إليها نظر في معطيات وآراء ومواقف عدة لسياسات وساسة وأشخاص كان لهم وما زال دور مؤثر في خراب سورية العظيمة والأحداث الكارثية التي تجري فيها.. وهي ليست بدعاً في هذا العالم الذي يغص بالكوارث ويغص أكثر بالمتناقضات والنقائض حولها، فتأمل التاريخ والوقائع والتفسيرات والشروح التي تُقدم لذلك أو تُبنى عليها تقدم مادة غنية جداً للدلالة على ذلك.. ولكن ليس هذا التاريخي ما أود أن أشير إليه لأدلل على ما ذكرت، بل أسوق بعض المعطيات مما يتعلق بالحدث السوري في الأيام القليلة الماضية، وهي معطيات تشير إلى تحول ملموس الآن لم يكن إدراكه عصياً بالأمس على من يستخدم أدواته العقلية والمعرفية ويشغل عقلة وضميره ويجري حسابات أو يضع معادلات منطقية وليس أهواء سياسية متضاربة في صيغ معادلات " معصومة " متجذرة في المبدئية والثبات واليقين و.. و.. كما قال ويقول.. وما أشير إليه مقتطف بنصه من تصريحات وأقوال لأصحابه الذين أشبعوا الفضاء السياسي والإعلامي بأقوال مغيرة لما أورده، ولأشخاص صدَّعوا رؤوساً كثيرة بطنين الموقف إلى أن بدأ ما يمكن أن يسمى " تحولاً" بعد تفتت متكرر، أو ما شئت أن تسميه مما تعج به ساحة المعارضات السورية على الخصوص.. وأريد أن أترك ما أقتطفه أو أشير إليه من معطيات على حاله من دون تعليق أو تعقيب، لأنه من المادة السياسية الزئبقية التي تبقى تترجرج وهي بين يديك وأمام ناظريك، وما أورده أترك التعامل معه لفطنة المتابع والقارئ ووعيه أما تعليله وتفسيره والهوامش عليه فلمن تشغلهم حدود المعادلات السياسية وتراكيبها وحلولها وأشكال التعامل معها:
1 ـ " قال الرئيس الأميركي باراك أوباما للوفد "الائتلافي" الذي زار واشنطن: "إن أسباب تقدم الجيش السوري، ليست الدعم الروسي والإيراني كما يقولون، ولكن التفاف الضباط والجنود السنة حول قيادتهم العسكرية.".
2 ـ قال مصدر من الوفد "الائتلافي"، الذي التقى الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند يوم الثلاثاء 20/5/2014 ، إن الرئيس الفرنسي فوجئ بموقف "الائتلافيين"، الذين ابلغوه أن الهدف المقبل والقريب لم يعد إسقاط النظام السوري، ولكن تحسين شروط التفاوض معه، عبر تحسين ميزان القوى."؟!
3 ـ طرد الأردن السفير السوري من عمان، وطردت سورية القائم بالأعمال الأردني من دمشق، ووافق الملك الأردني عبدالله الثاني على افتتاح "سفارة أو ممثلية" للمعارضة السورية، يديرها "الائتلاف الوطني" الذي سمى شخصاً للمهمة، و"هذه مسألة موقف كامل وكبير تأخذه المملكة الأردنية، ما يوحي بحسب مراقبين بأن هناك مقدمات لمواقف دولية أخرى."، وقد أعلنت السويد عن أنها تتجه نحو ذلك بعد فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. وقال بيان لشخصيات أردنية: ".. إن القرار الأردني يدعو إلى الاستغراب ولا سيما أنه أتى في وقت تتعافى فيه سورية وتتحضر لانتخابات رئاسية وهو يثير الشبهات حول مسعى الحكومة الأردنية إلى توتير أجواء العلاقات مع سورية وربما التمهيد لتصعيد ميداني يضر بالأمن الوطني الأردني، وخاصة أنه يصدر في وقت تنتهك فيه السيادة الأردنية من قبل آلاف المارينز الأمريكيين الذين يشاركون في مناورات مشبوهة على أرض وطننا.. وما قامت به الحكومة الأردنية من أعمال خرق للسيادة السورية من تسهيل مرور السلاح والإرهابيين إلى الأراضي السورية وإنشاء غرفة عمليات مشتركة مع الأمريكيين والخليجيين للعمل العسكري والأمني ضد الأشقاء السوريين والتنسيق مع الإرهابيين وقادتهم وخاصة في منطقة حوران". .. وكان الأردن يدعو إلى حلول سياسية للأزمة السورية.
4 ـ بعد تغيير صيغة "المجلس الوطني، مجلس اسطنبول" إلى الائتلاف الوطني " ائتلاف الدوحة" بفعل من روبرت فورد، ثم دخول كتلة "اتحاد الديمقراطيين" للائتلاف وتهميش الكتلة القطرية فيه، تشقق الائتلاف أكثر فأكثر، وتغيرت فيه مآرب ومواقف وآراء وحتى " استراتيجيات: راجع مواقف معاذ الخطيب مثلاً حتى يوم أمس الإثنين" ، ووجهت إليه من داخلة اتهامات من العيار الثقيل، أبسطها أن قراره ليس بيده وأنه واجهة لدول أخرى.. إلخ.. وقد غاب "المجلس الوطني/ اسطنبول بصورة شبه تامة عن الظهور في الائتلاف وعلى هوامشه لأسباب منها التمويل، وفي يوم الإثنين 26/5/2014 " أصدر كل من المكتب التنفيذي والمكتب الإعلامي في اتحاد الديمقراطيين السوريين بياناً، جاء فيه أنه “كان المفترض، بعد عقد اجتماع مجلس الأمانة في اسطنبول في 9 و10 و11 نيسان الفائت، أن تفتح صفحة جديدة عنوانها العمل الجاد لتفعيل عمل الاتحاد، واستكمال بناء مؤسسات الاتحاد، بعد أكثر من ستة أشهر من تعطيل عمل الاتحاد. غير أن المجموعة المكونة من ميشيل كيلو وسمير سعيفان ومازن حقي وفايز سارة، استمرت في التكتل.. إلخ"/ بالنص كما نُشر.
5 ـ لتعطيل، بل ولجأت إلى شق صفوف الاتحاد، وعقدت اجتماعات حصرية بهذه المجموعة المنشقة، واستبعدت فيها باقي أعضاء المكتب التنفيذي، وراحت تتصرف بأموال الاتحاد على هواها، دون محاسبة أو علم من طرف لجنة الرقابة”.
وأضاف البيان: “إننا في المكتب التنفيذي وفي المكتب الإعلامي لاتحاد الديمقراطيين السوريين، ندين هذا التصرف الانشقاقي، الخارج عن إرادة الهيئة العامة، التي انتخبت مكتب تنفيذي وامانة عامة ولجنة رقابة”. واعتبر البيان أن “هذا التصرف يذكر بأن هذه المجموعة كانت تبيت هذا التصرف التكتلي والانشقاقي، كي تثبط عمل الاتحاد، بوصفه اتحاداً للثورة السورية ولناسها، وأملاً لهم في ظل هيمنة التطرف على مشهد الثورة السورية. وكانت هذه المجموعة تسعى منذ البداية إلى حرف الاتحاد عن مساره، بوصفه اتحاداً لجميع الديمقراطيين السوريين، وتحويله إلى ما يشبه دكانة حصرية لميشيل كيلو ومريديه”.
وأهاب البيان “بكافة الأعضاء الوقوف بوجه تصرفات مجموعة كيلو، التي لا تخدم سوى أعداء الثورة السورية العظيمة، ونعتبر أي نشاط تقوم به هذه المجموعة، التي تنسق مع مكتب غازي عينتاب، لا يمت بأي صلة لاتحاد الديمقراطيين السوريين”. بعد دعوة تحريضية متميزة في تأججها على حمل السلاح، ومناداة عنيفة صريحة بحقانية الخروج على النظام السورية والقتال حتى إسقاطه، وفعل لافت منذ بداية الازمة السورية للقيام بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى ذلك، تبرأ الشيخ عدنان العرعور من كل الفتنة الدائرة رحاها في سورية، وقال إنه لم يدع إلى التسلح وإنما أجبر هو والناس عليه من جهات وممولين، وتنصل من الدعوة إلى القتال والجهاد، معلناً ان ما حدث من قتل وتدمير وخراب لسورية وتنكيل بشعبها حدث بفعل القدر، وأنه مكتوب على الناس من قبل أن يولد الناس، و ليس بسبب تحريضه أو تدبير سواه.؟!.
إن التأمل في ما أشرت إليه، والتمحيص في الكثير الكثير مما لا يمكن حصره ولكنه في صلب ما هو على شاكلته من آراء وأفكار ومواقف وتصريحات وتحركات وممارسات وسياسات، تتصل بالأزمة/الحرب في سورية وتتعداها إلى سواها، والتدقيق أيضاً في كل الدعوات والممارسات وأشكال الإجرام والإرهاب والتجييش للحرب/ الفتنة الدائرة في سورية منذ سنوات الأزمة المرة المستمرة.. كل ذلك أمر مطلوب ويحتل مكان الواجب وموقع الأساس المكين مما ستبنى عليه سورية المنشودة، بعد اعتراف الجميع بأن ما كانت عليه قبل الأزمة يجب ألا يستمر، وأن ما تم فيها وما يستمر من اقتتال وإرهاب وخراب لم يكن من أجل التغيير بل تم ويتم لتدميرها وطناً وشعباً، وليس لتغيير نظامها وتوجهاتها وخياراتها السياسية والقومية فقط، وأن أعداء العروبة والإسلام وأعداء سورية وشعبها، هم وراء الكارثة الكبرى التي حلت بسورية والسوريين وهي كارثة يشاركهم في صنعها سوريون وعرب ومسلمون هم أدوات وضحايا في الوقت ذاته، هذا إذا أحسنا الظن والافتراض وكان رائدهم الوطن والعدل والحق والحرية والكرامة وسورية العظيمة بشعبها وتاريخها.. أما من دخل باب الحرب والفتنة والنقمة و.. من أولئك ودخله عن وعي بخلفياته وأرضياته وأهدافه وما ورائياته.. فهم عملاء مجردون من الإنسانية، أو خونة لأوطانهم وشعوبهم وأمتهم يعون أنهم يدمرون وطنهم وشعبهم لقاء دولارات ودراهم وعنجهية فارغة وتسلط لا يدوم ومنفَخَة تليق بطبول تنفِّسها دبابيس.. ومع ذلك استمروا ويستمرون في تجارة الدم والقتل والدمار والموت، لأنهم اختاروا سياسة رخيصة أقل ما يقال فيها إنها أسوأ أنوع الخيانة وأردأ أنواع السقوط والنفاق.
والتأمل والتدقيق والفحص المطلوب ليس فقط لتحديد موقف مسؤول: " وطني وقومي وأخلاقي وإسلامي وإنساني" من الحرب ومن تدمير شعب وبلد، ومن إثارة فتنة مذهبية واسعة النطاق في المنطقة تمتد وتشتد يوماً بعد يوم.. بل لوقف الحرب ووضع حد للفتنة، وتعرية تجار السياسة والمواقف والمبادئ وطردهم من سوق الدم التي يستثمرون فيها، ومن أجل وضع حد لشهوة السلطة العمياء التي تأتي على مقومات الحياة وحق الأحياء في الوجود والكرامة، ومن أجل ضبط إيقاع وطن وشعب وفق منطق سياسي تحكمه الأخلاق والمعايير الصحيحة والقيم الإيجابية والحكمة والمسؤولية التي تقوم على الانتماء والإيمان والفهم والوعي وليس على الادعاء والغباء وإعمال القوة العمياء وفرض الذات على الشعوب.. ولوضع حد للفهم الخاطئ ولضلال والتضليل باسم الدين والوطنية والتقدم واستغلال ذلك وسواه لزج الناس في الأزمات والمحارق وإدخالهم في مواقف لا يتبين " الدعاة إليها" صوابها من عدمه، ولا تفيد إلا في تتبير كل مقومات القوة والمنعة لشعب ووطن، وكسر كل قواعد الدين الحنيف والأخلاق الحميدة والرجولة الحقة والوطنية الصادقة.
فهل ترى يأخذ الماضون في الاقتتال بحكمة تعيدهم إلى الوعي والصواب؟ وهل يمضي المستيقظون على حقيقة ما دبر ويدبر لسورية الشعب والوطن من مآل مدمر تغرق في دمائه وآثامه الأمتان العربية والإسلامية إلى مراجعة مسؤولة للذات والخيارات تخرجهم وتخرج وطنهم وأمتيهم من المحنة/ الفتنة الحرب.. ليؤول الأمر إلى حل تمليه المصلحة الوطنية والحكمة والمفاهيم الأصيلة للدين والوطنية والقومية؟! إننا نتطلع إلى ذلك ونأمل أن يتحقق شيء منه، حتى لا تكون مثل هذه الصحوات والتحولات والتفاعلات بأشكالها عبئاً على الوطن والشعب وزيتاً على النار المشتعلة في الوطن، وحتى لا يكون الفواق مثل صحو السكران من سُكر شديد، يجدده بمزيد من الخمر لكي ينسى نفسه وما هو فيه، أو لكي يستمر في حلم قاده إليه السكر ما له منه من فواق.
دمشق في 27/5/2014
علي عقلة عرسان