تحليل مزحة المفاوضات قلبت جد

الساعة 07:42 ص|23 ديسمبر 2013

أطلس للدراسات

عندما بدأ كيري جولاته التمهيدية لإدخال الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي إلى غرفة المفاوضات رغماً عنمها؛ لم يعتقد أكثر المتفائلين أن ينجح كيري في الوصول بالمتفاوضين شهرهم الخامس، أو أن يتم إحراز أي تقدم يذكر، واستعد الطرفان من بداية المفاوضات لتحميل الطرف الآخر سبب الفشل؛ بل إن اضطرار الفلسطينيين للقبول بالتفاوض تسعة أشهر كان في ظل استمرار الاستيطان وعدم وضوح المرجعيات وتجميد الانضمام إلى عضويات المنظمات الدولية؛ كان مرده الخوف من مواجهة الضغوط الأمريكية وتحمل مسؤوليات اتهامهم بإفشال الجهود الأمريكية، وربما قالوا لأنفسهم "فلنفاوض تسعة أشهر، وستصل المفاوضات ربما قبل موعدها إلى طريق مسدود بسبب التعنت الإسرائيلي، فنربح تحميل إسرائيل مسؤولية الفشل وإظهارها للعالم كرافض للسلام، علاوة على إطلاق سراح أسرى ما قبل أوسلو ورفع أو تخفيف الحصار المالي".

المشهد التفاوضي يدخل مرحلة حساسة وحرجة بحسب التسريبات، في ظل التخبط والضبابية الفلسطينية، وتناقض التصريحات الرسمية الفلسطينية التي تركتنا جميعا نعتمد على أقوال مصادر مسؤولة مجهولة الهوية أو على المصادر الإسرائيلية، فحتى خطة كيري الأمنية للأغوار لا زال عريقات ينفي وجودها أصلاً رغم تسريبات كثيرة جداً عنها، بما فيها تسريبات من الرئاسة تؤكد رفض عباس لها وتمسكه بخطة الجنرال الن جونز من عهد أولمرت، والتجربة تؤكد أن مصداقية الأقوال الرسمية الفلسطينية لا يعتد بها للأسف الشديد.

يكاد يخيل للمتابعين لجولات كيري المكوكية للمنطقة، التي قطعاً لا يزورها حباً في السياحة والاستجمام، ولحجم فريقه الكبير الذي حسب "يديعوت" استأجر خمسين غرفة في فنادق القدس؛ أن المفاوضات التي أدخلت إليها الأطراف جراً أو اضطراراً أو للمجاراة وإرضاء الأمريكي، ولم يراهن أحد عليها سوى كيري نفسه، والتي كانت أشبه بلعبة أو مزحة؛ قد تحولت تدريجياً إلى عملية جدية عبر تكتيك تفرج أو تذوق ولا تشتري، ومن تكتيك الى تكتيك غابت المبادئ، أو كما نجمع أن نسميها "الثوابت" لصالح المفاهيم، لنغرق بتفاصيل تجعلنا نتوه في دهاليزها، ويصبح حالنا أشبه بمن يبحر في بحر واسع دون بوصلة أو خرائط بحرية اعتماداً على خبرته وحنكته، فسرعان ما يتوه ويفقد وجهته.

لقد كان كيري ونتنياهو لئيمان بما يكفي لفرض أولوية أمن الحدود الشرقية، بما فيها الأغوار على قضية الحدود، وذلك بعد أن بات واضحاً أن الفلسطينيين يتفهمون أن أي حل لا يجب أن يهدد أمن إسرائيل، وكأن قيام الدولة الفلسطينية وتحديد حدودها ومنسوب سيادتها على مقوماتها ومتعلقاتها مرهون أولاً وقبل كل شيء بتوفير الأمن لإسرائيل، أي أن حق قيام الدولة الفلسطينية هو حق مشروط وناقص، وبمعنى آخر فإن أمن إسرائيل يسبق حق الدولة الفلسطينية وله الأولوية عليها، وطالما دخل الفلسطينيون دهاليز البحث في سبل وجوانب ووسائل توفير أمن إسرائيل؛ فإنهم لا يستطيعون الاعتراض مبدئياً على خطة كيري الأمنية، وفي أحسن الأحوال يمكنهم المطالبة بإدخال تعديلات أو تحسينات طفيفة.

فأمن اسرائيل وحمايتها هو أساس وهدف عملية التسوية الرئيسي بالنسبة للغرب الأمريكي والأوروبي، والحل الذي يقوم على أساس إقامة الدولة الفلسطينية هو الوسيلة لبلوغ هذا الهدف، لذلك فالوسيلة وهي الدولة تخضع للهدف وعليها أن تتناسب معه، هذا طبعاً ما يرمي إليه الغرب وبعض النخب الأمنية والسياسية الإسرائيلية، فمن وجهة نظرهم فإن الظروف العربية والفلسطينية والدولية تشكل فرصة سانحة لحلول استراتيجية، وهو ما عبر عنه رئيس الأركان الاسرائيلي غانتس، فالعرب مشغولون بحروبهم، وباتت إسرائيل بالنسبة لبعضهم شريكاً محتملاً ضد دول ومحاور أخرى، والفلسطينيون بانقسامهم وضعفهم وأزماتهم "نجحوا" في تحويل قضيتهم من قضية عودة وتحرير إلى قضية دعم انساني وتوفير المرتبات لجيوش الموظفين.

المفاوضات التي حسب كيري أحدثت تقدماً لم يتحقق مثله في سنوات سابقة، وهو يخالف ما أخبرتنا به استقالة ثنائي المفاوضات (اشتية وعريقات)، ونعتقد أنها خلقت أرضية مريحة لكيري جعلته يشعر أن الوقت قد حان لاستثمار جهد ووقت أكبر من حيث اتساع الفريق الأمريكي (130 عضو) وتكثيف الجولات وزيادة الضغوط، في خطوة يبدو أنها منسقة جيداً مع الشركاء الأوروبيين، ويبدو أن كيري لن ييأس من محاولاته، ومن الواضح أنه يلجأ إلى تغيير كبير على الأهداف الأساسية لخطته للمفاوضات ذات التسعة أشهر، حيث يتم استبدال هدف الوصول إلى حل نهائي باتفاقية إطار غامضة وعمومية فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية مدعومة ربما باتفاقية انتقالية، ويتم تمديد المفاوضات على بنود اتفاقية الإطار، وهو ما يشكل مأزقاً كبيراً للطرف الفلسطيني الذي منذ البداية كان يرفض أية اتفاقيات انتقالية، ولديه قناعات بأن أي اتفاقات في الظروف الحالية ستكون لصالح تخليد الاحتلال وعلى حساب المصالح الفلسطينية، ولم يكن يرغب أصلاً في العودة للمفاوضات لخشيته من فخ أوسلو2.

إن الخطورة المترتبة على استمرار التفاوض في ظل ظروفها وآلياتها ومرجعياتها المعروفة هي خطورة حقيقية ولا يمكن الاستهانة بها، وتنطوي على إمكانية الانزلاق نحو حلول أو تؤسس لاتفاقيات وحلول تعمق أزمتنا وتيهنا؛ الأمر الذي يوجب على القيادة الرسمية التفكير الجدي بمبدأ احتكار أمريكا لرعاية المفاوضات، والبحث في سبل توحيد الجبهة الداخلية وتعزيز عوامل صمودها، والبحث في آليات مقاومة الاحتلال على كافة المستويات، على الأقل لتحسين القدرات والامكانات التفاوضية.