خبر مصر إلى المجهول وخارج التاريخ ..فهمي هويدي

الساعة 12:00 م|22 أكتوبر 2013

مشكلة مصر الآن أنها تتحرك في مسار خارج التاريخ، ويُخشى أن تجرّ العالم العربي وراءها في نهاية المطاف.

(1)

من يطالع الصحف المصرية هذه الأيام، ويتابع تصريحات السياسيين التي باتت تتنافس في مغازلة المؤسّسة العسكرية، والمزايدة على دورها، ربما لا يخطر على باله أن عناوين الصحف وتعليقات محرّريها وتصريحات أهل السياسة تكاد تكون صورة طبق الأصل عمّا كان يتردّد في تركيا قبل نصف قرن تقريبا. ذلك أن أي قارئ لتاريخ عسكرة المجتمع التركي يلاحظ أن الأصوات الداعية إلى تدخل القوات المسلحة لإنقاذ البلد من الفوضى والانهيار، كانت تتردّد عالية عند كل أزمة سياسية. وفي ظلّ هشاشة الوضع السياسي وضعفه، فإن الجميع كانوا يعتبرون الجيش هو المخلِّص والمنقذ. وقد كان له رصيده الذي يسمح له بذلك، لأنه أنقذ البلد من الاحتلال إبان الحرب العالمية الأولى، وأسّس الجمهورية، وقاد عملية تحديث الدولة. إنها الخلفية التي ظلّت توظَّف لصالح عسكرة المجتمع، منذ تأسيس الجمهورية في عشرينيات القرن الماضي، لنحو ثمانين سنة لاحقة بعد ذلك.

السيناريو المكرّر والمحفوظ كانت فصوله تتابع على النحو التالي:

الأحزاب الضعيفة تفشل في إدارة الدولة، فترتفع الأصوات الداعية إلى قيام الجيش بدور المنقذ. الجيش يقدم إنذاراً إلى الحكومة كي تتحمّل مسؤوليتها، وبعد الإنذار يعلن الجيش الانقلاب، ويتولى إدارة البلاد وترتيب الأوضاع المنفلتة. ولا تكاد تستمر بضع سنوات (عشر في الأغلب) حتى تتكرّر الأزمة، وتتردّد الأصوات والدعوات نفسها، ثم يتقدّم الجيش بإنذاره الذي يعقبه التدخل لاستلام السلطة باعتباره المؤسّسة الوحيدة المنضبطة والمتماسكة، التي تمتلك قوة السلاح على الأرض. وهو ما تكرّر مع الانقلابات التي توالت في أعوام 1960، و1971، و1980، وصولاً إلى انقلاب العام 1997، الذي وصف بأنه انقلاب ناعم، أو ما بعد حداثي. كانت نقطة الانطلاق في تلك الانقلابات كلّها أن الجيش اعتبر نفسه مسؤولا عن حماية مبادئ الجمهورية التركية، إلى جانب وظيفته في حماية الوطن. وبمقتضى تلك المسؤولية، فرض نفسه وصياً على المجتمع، وقنن دستور العام 1982، تلك الوصاية التي باشرها مجلس الأمن الوطني، الذي شكّل مكاتب استشارية لمختلف شؤون البلاد، العسكرية والسياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والإعلامية. جرى استنفار المؤسّسة العسكرية بعد انتخابات العام 1995، التي حقّقت فوزا نسبيا لـ«حزب الرفاة» ذي الخلفية الإسلامية، ما أدّى إلى تشكيل حكومة ائتلافية مع «حزب الطريق القديم»، برئاسة نجم الدين أربكان زعيم «الرفاه»، فردّت القيادة العسكرية باستنهاض أصابعها المنتشرة في مفاصل الدولة وسلطة القرار، إلى أن أجبرت أربكان على الاستقالة من منصبه في العام 1997.

(2)

الرياح التي تهب على مصر منذ عزل الدكتور محمد مرسي تمضي في الاتجاه المعاكس للتاريخ. ذلك أنه بعد إنهاء مهمة المجلس العسكري في العام 2012، وانتعاش الآمال التي عُلِّقت على إمكانية التحوّل الديموقراطي، وإقامة مؤسّسات إدارة المجتمع، تبدّد ذلك كلّه في الثالث من يوليو، بعد عزل الرئيس المنتخب، وتجميد الدستور، وحلّ مجلس الشورى وغيره من المجالس التي تمّ تشكيلها. بدا الاتجاه واضحاً في المراهنة على المؤسسة العسكرية، وتعزيز قوة الدولة في مواجهة المجتمع. في هذه الأجواء، جرى الإعداد لاستصدار دستور جديد من خلال مجموعة مختارة وليست منتخبة، وأصبحت المؤسسة العسكرية بحكم الأمر الواقع مصدر السلطات، وصاحبة القرار في تشكيل الوضع المستجد، من دون أن تفرض نفسها على المجتمع. لكن الذي حدث أن خطاها لقيت تأييدا وترحيبا من النخب والقوى المدنية، باختلاف توجهاتها الليبرالية والقومية واليسارية، وكانت وسائل الإعلام القوة الضاربة، التي نجحت في «تصنيع الموافقة»، على حد تعبير تشومسكي، حين استثمرت إخفاقات حكم الدكتور محمد مرسي في تعبئة الجماهير، وتحريضها ضد نظامه، ووقوفها بالتالي إلى جانب معسكر المراهنة على المؤسسة العسكرية.

في ظلّ الوضع المستجد، أصبح الفريق عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع والقائد العام للقوات المسلحة، مرشح رئاسة الجمهورية، الذي التفت حوله القوى المدنية، واكتسب حضور القوات المسلحة في اللجنة المعنية بوضع الدستور أهمية خاصة، حيث أثير لغط حول حصانة وزير الدفاع، واشتراط موافقة المجلس الأعلى للقوات المسلحة على تعيينه، الأمر الذي يسحب تلك السلطة من رئيس الدولة أو رئيس الحكومة. وكحلٍ وسط، اقترحت فكرة تطبيق ذلك المبدأ خلال فترة انتقالية تتراوح بين عشر سنوات واثنتي عشرة سنة. وجرى التمسك بمبدأ محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهي ليست محاكم مستقلة أصلا، لكنها خاضعة لأمر وزير الدفاع.

في هذه الأجواء، قرأنا في جريدة «الشروق» (عدد 5/10) تصريحات مهمة لمصدر عسكري ذكر رئيس تحرير الجريدة أنه قريب من المؤسسة العسكرية: «أثبتت خبرة السنوات الأخيرة للجميع أن الجيش هو القوة الوحيدة الموجودة على أرض مصر في الوقت الراهن، ولفترة مقبلة. وذلك بسبب ضعف معظم الأحزاب السياسية المدنية. وبالتالي، فإنه لا بدّ لنا إعطاء الجيش أدوات تساعده على حفظ البلد، كي لا تصبح فريسة لأي تنظيم أو جماعة منظّمة تريد تغيير هوية مصر بأكملها. لا تسمح ظروف مصر بتسليم الجيش لرئيس لا نعرفه. المنطق يقول بألا يفقد الشعب السلاح الذي يملكه، وهو جيشه الوطني. لا نريد أن نواجه احتمال أن يصل شخص متنكر في زيّ مدني إلى الرئاسة، ويعين من يشاء وزيرا للدفاع، الأمر الذي قد ينتهي بتغيير هوية الجيش، لأن ذلك الوزير سيتولى تعيين قادة الأفرع والمناطق والجيوش. وهو ما قد يصل بنا إلى تغيير وضع القوات المسلحة، كي تتحوّل من مؤسّسة وطنية جامعة إلى ميليشيا خاصة بجماعة أو حزب.

لم تذكر جريدة «الشروق» أن المصدر العسكري يتحدث باسم القوات المسلحة، لكنه عند الحد الأدنى يعبر عن مدرسة أو تيار داخل القوات المسلحة يعتبر أن الجيش هو القوة الوحيدة والسلطة الأعلى في الساحة السياسية المصرية، ثم من موقفه المعارض لتجربة الإخوان وكل ما يشغله هو تجنب تكرار تلك التجربة، بدعوى أنها يمكن أن تؤثر على هوية القوات المسلحة. أما هوية الوطن ومصالحه العليا فهي مسألة في المرتبة التالية من الأهمية.

(3)

حين يستمر تمدّد المؤسسة العسكرية في الفراغ السياسي الراهن، ويتصاعد دورها على نحو غير خاطئ، فذلك يعنى أن مصر صارت تتحرك خارج مجرى التاريخ. عند الحد الأدنى، هو يعني أن حلم الدولة المدنية الديموقراطية، الذي تطلعت إليه ثورة 25 يناير، في حالة تراجع وانحسار، بحيث لا تكاد توحي المقدمات الملموسة بإمكانية تحقيق شيء منه في الأجل المنظور.

البناء الذي تجري إقامته الآن في مصر يعاني خللاً فادحاً في موازين القوة والرؤى. ذلك أنه يتم في ظلّ قوة وهيمنة المؤسسة العسكرية، وفي ظل مؤسسات مختارة من فئات لا يجمع بينها سوى رفض الإخوان ومخاصمتهم، وهؤلاء يمثلون جماعات سياسية هشة لا جمهور لها، حتى باتت تستمد شرعيتها من الاستناد إلى قوة المؤسسة العسكرية والتعلق بأهدابها. وذلك يمثل جوهر الأزمة السياسية في مصر الراهنة. ذلك أن هذا البلد الكبير لا يستطيع أن يقيم بناءه على تحالف الليبراليين مع العسكر، ولا يستطيع أن يقيم مشروعه على مجرد فكرة إقصاء الإخوان ومواصلة الحرب ضد الإرهاب، وهو ما لاحظته تحليلات غربية عدة ما فتئت تتحدث عن أن مصر تتجه نحو المجهول بعد تراجع وزنها السياسي، وما عاد لها دور يذكر في الشأن الإقليمي.

ليس ذلك فحسب. لكن مصر في ضعفها تجد نفسها مستسلمة لمخططات التعاون الأمني وغير الأمني مع إسرائيل، خصوصا أن المؤسسة العسكرية تعد أبرز أركان «اتفاقية كامب ديفيد». ربما دفعها المأزق الدولي الذي تواجهه إلى مزيد من التقارب والتفاعل مع إسرائيل، التي يعد النظام الحالي طرفا مريحا ومطمئنا لها، بعكس نظام الرئيس مرسي، الذي كانت تتوجس منه ولا تطمئن إليه.

هذا الضعف نفسه، المقترن بالحيرة والبلبلة اللتين تعاني منها الرؤية الإستراتيجية للوضع المستجد، دفع مصر إلى الارتماء في أحضان تحالفات عربية مخاصمة للربيع بمجمله، ولها ارتباطاتها وولاءاتها المتعارضة وأهداف الثورة وأشواق الجماهير العربية. وحين يحدث ذلك في حين تتعرض المنطقة العربية لهزات كبرى من شأنها إعادة رسم خرائطها وإخضاعها لمشروعات التفتيت والتقسيم، فإن ذلك يكشف فداحة الثمن الذي يمكن أن يدفعه العالم العربي جراء الهزة والانتكاسة اللتين حلّتا بمصر.

(4)

ليست الصورة محبطة بالكامل، لأن الصدمات والهزّات التي تعاني منها أنظمة الربيع العربي، تكاد تكون محصورة في الجزء الظاهر من تجليات ذلك الربيع. لكن، هناك جزء غاطس منه لم يفقد حيويته بعد. وكنت ممن سبق لهم القول إن الربيع في حقيقته تحوّل تاريخي في بنية الإنسان العربي، الذي بات ينشد التغيير، وأعلن رفضه للظلم السياسي والاجتماعي الذي فرضته عليه الأنظمة. وهذا الذي عبرت عنه، سجله تقرير لكريستوفر دفيدسن (جامعة دورهام البريطانية) بعنوان «نهاية المشيخات»، نشره في صحيفة «نيويورك تايمز» (18 أكتوبر 2013)، تحدث عن مظاهر الحراك الجماهيري المسكوت عليه، الذي تشهده دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة.

إن مصر إذ تخسر نفسها بأدائها الراهن، فإنها قد تسحب معها العالم العربي أيضاً. لكنها، وهي تقف خارج مجرى التاريخ، لن تستطيع أن توقف عجلة التاريخ، وتلك من سُنَنْ الله في الكون، التي عبر عنها النص القرآني القائل: «وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم» (الآية 38 من سورة محمد).