منذ انفجرت الصراعات الداخلية في الأقطار العربية التي شهدت ما سمى بـ "الربيع العربي"، دأبت وسائل الاعلام الاسرائيلية على التشكيك ومحاولة دحض المقولة الدارجة "ان اسرائيل هي مشكلة المشاكل ومصدر الشرور"، وحتى في النظرية التي يعتمد عليها الأمريكيون والأوروبيون في نطاق سعيهم للتوصل الى تسوية تنهى الصراع العربي الاسرائيلي بطريقة تؤمن اسرائيل وتحقق أكبر قدر من أحلامها، والتي عبر عنها الرئيس الامريكي باراك أوباما في خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بالقول "ان النزاع العربي الاسرائيلي هو المصدر الأساس لعدم الاستقرار في المنطقة". حيث يسعى الاعلام الاسرائيلي الى زعزعة هذه المقولة بالاستفادة من حالة الفوضى والاحتراب الداخلي بين مكونات المجتمع في الدول التي طالتها رياح التغيير أو ما اصطلح عليه بـ "الربيع العربي"، وذلك للتأسيس لترسيخ فكرة التعايش الدولي مع الصراع العربي الاسرائيلي لعقود.
في صحيفة "يديعوت احرونوت" كتب جلعاد شارون يقول: "هل نزاعنا مع الفلسطينيين هو سبب الصراع بين الاسلاميين والعلمانيين في مصر؟ هل بسببنا خرج الملايين الى ميدان التحرير وقتلوا الواحد الآخر؟ هل بسببنا يذبحون بعضهم بعضاً بالرصاص وبالغاز في سوريا؟ هل العمليات في العراق من السنة ضد الشيعة وبالعكس مرتبط بنا؟ هل الحرب العراقية – الايرانية المضرجة بالدماء على صلة بنا؟ ما صلتنا بالتدخل المصري في الحرب الأهلية في اليمن في منتصف الستينات؟".
ويمضي الكاتب ليقول: "لو لم تكن دولة اسرائيل موجودة؛ هل كان العرب سيحبون الواحد الآخر؟ وهل كانت المنطقة لتشكل للعالم نموذجاً لمحيط هادئ ومنسجم، ديمقراطي، ليبرالي ومزدهر؟"، ويواصل الكاتب: "لو لم تكن اسرائيل موجودة لتعين على العرب أن يوجدوها، والا كيف بوسعهم تبرير الفقر، الفساد، التعفن في بلدانهم".
ويختم شارون مقالته بالقول: "اسرائيل ليست مصدر لعدم الاستقرار في المنطقة، بالضبط مثلما لم تكن تشيكوسلوفاكيا المصدر للتوتر مع ألمانيا النازية، فعدم الاستقرار هو الوضع الطبيعي في منطقتنا، واسرائيل هي الجهة الوحيدة المحدثة للاستقرار".
هذا واحد من عشرات المقالات التي دأب الاعلام الاسرائيلي من خلالها على غسل يد اسرائيل من كل الشرور التي تحيط بالمنطقة، والتي يصور من خلالها الاعلاميون الاسرائيليون أن كيانهم هو بحيرة استقرار وأمان وحيدة وسط غابة من الوحوش الآدمية الجاهلة، والمتخلفة والمعادية لقيم الحياة والحضارة.
قد تكون اللحظة الحرجة كشفت هشاشة الدولة القطرية العربية، لكن من الاجحاف أن يتم التعامي عن أصل المشكلة، وعن دور الحركة الاستعمارية بالتحالف مع الحركة الصهيونية في التأسيس لهذه الدول الضعيفة والهشة والمنقسمة على نفسها، وزرع أسباب التفسخ والانقسام، وذلك منذ جرى تقسيم العالم العربي الى كيانات ودويلات صغيرة مصطنعة، لتتمكن اسرائيل من التفوق عليها جغرافياً وسكانياً واقتصادياً وعسكرياً. الدور الامريكي الصهيوني لم يتوقف، وظل التحالف الامريكي الصهيوني يرى هذا الضعف والانقسام هو المدخل لدوام السيطرة والنفوذ. خبراء ومؤرخون غربيون واسرائيليون كثيراً ما يتحدثون عن الفوائد التي يجنيها الغرب واسرائيل من دوام الصراعات الداخلية، طالما بقيت هذه الصراعات تحت السيطرة.
مدير منتدى الشرق الأوسط دانيال بابيس الأمريكي ذو الأصول اليهودية في مقال نشرته "التايمز" الامريكية، كتب يقول: "ان دخول فرع من فروع الاسلام في حرب مع الفرع الآخر لبضع سنوات أو عقود أفضل كثيراً للغرب، وان سقوط ضحايا من المدنيين في حلب أو حمص هو مأساتهم وهذا لا يضيرنا أخلاقياً، وربما يفيدنا استراتيجياً، هو على الأقل يؤدى الى اعادة توحيد الطاقات الجهادية بعيداً عن الغرب".
الكاتب نفسه ينتقد ما أشار إليه بريت ستيفنس أحد الكتاب الامريكيين من التأثيرات السلبية على الغرب التي خلفتها الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرت ثماني سنوات (1980-1988)، ومن بينها تأثيرات اقتصادية سلبية، وأخرى ذات بعد أخلاقي. فيقول إن ستيفنس ركز على عيوب طفيفة نسبياً من الحرب بين العراق وإيران، بينما الواقع إذا نظرنا من منظور أوسع نجده قد جلب الفائدة الرئيسية وهي إضعاف كل من القوتين"، أي العراق وإيران. وفي هذا السياق جدير أن نذكر بمقولة رئيس وزراء اسرائيل حينها مناحيم بيغن عندما سئل عن تلك الحرب، فأجاب: "أتمنى التوفيق لكلا الطرفين".
ويرى بابيس أن الحرب الدائرة الآن في سوريا، بين مجموعة "سنية متطرفة" ضد "الشيعة المتطرفة"، على حد وصفه، أضعف حكومات إيران وسوريا، وأضرت بحزب الله اللبناني وحركة حماس، وأدى إلى تعثر حكومة حزب العدالة والتنمية لأول مره منذ عشر سنوات في تركيا، وهذا ما يريده الغرب، على حد قوله.
فهذه الكيانات القطرية منذ البداية حملت في أحشائها عوامل تحللها وفشلها، فهي لم تُبْنَ على أسس صحيحة، وتماسكها المزعوم ظل عنوة وبحد سيف، ومع أول هزة طالت النظام الحاكم اتضح جلياً ان لا وجود حقيقي للوحدة الوطنية والانسجام الوطني، وأنها أبعد ما تكون عن الوحدة والانسجام. فنحن أمام أنظمة جرى تأسيسها بمشيئة الاستعمار على أسس قبلية عشائرية أو طائفية أو حزبية فاشية، بحيث تحظى العشيرة أو الحزب أو الطائفة بالامتيازات الاقتصادية والسياسية، فيما بقية مكونات المجتمع من أفراد وجماعات سياسية أو دينية أو قبلية مجرد توابع وخدم او "رعية"، والنتيجة الطبيعية انه ما إن لاحت فرصة لإسقاط أو ضعف هذه الأنظمة حتى انفجرت هذه الأحقاد والكراهية في صورة الصراعات وعنف دامي بين مكونات المجتمع. من هذا المنظور يمكن رؤية ما يحدث في العراق وسوريا وليبيا واليمن.
والمعنى أن مصائب هذه الأنظمة في خدمة اسرائيل مضاعفة، فهي أولاً شهدت كارثة قيام اسرائيل عام 48 وتهجير أكثر من ثلثي الشعب الفلسطيني، وتخلت عن الشعب الفلسطيني في أدق مراحل مسيرته النضالية وتركته وحيداً أمام آلة الحرب الإسرائيلية، وصولاً الى تشتيت وحدته وتغذية الانقسام. وخدمت اسرائيل ثانياً عندما لم تستثمر في بناء دولة المواطنة والحقوق والحريات، هي قمعت الحريات وفرضت قانون الطوارئ وسرقت ونهبت، وكثيراً بحجة مقاومة اسرائيل والتصدي لمخططاتها. اذاً هذه خدمت اسرائيل مرتين؛ خارجياً صمتت وتواطأت على جرائمها، وداخلياً غذت الخصومات والعداوات والأحقاد بين مكونات الأمة، بحيث ظل بأس الناس بينهم شديد، وبدت إسرائيل أقرب الى قلوب البعض من البعض الآخر.