تشرين الجهاد الإسلامي .. تشرين المعجزة .. تشرين حكاية بطولة صنعت ثورة .. تشرين وما أكثر الذكريات التي يحملها هذا الشهر في حقبة شعب يأبى الخضوع والانكسار لعدو اغتصب أرضه وهجره منها عنوة .. تشرين شهر رسم على حائط أيامه بطولات عز لرجال تأبى طول السنين نسيانهم .
"الإعلام الحربي " لسرايا القدس ينفرد بنشر أدق التفاصيل عن حكاية بطل من أبطال فلسطين، وينفض الغبار عن قصة تحدث عنها الكثير دون أن يصيبوا عين الحقيقة، من خلال إجراء حوار واسع وشامل مع الشيخ المجاهد عبد السلام أبو السرهد " أبو محمد" رفيق درب القائد المجاهد مصباح الصوري (العقل المدبر لعملية الهروب الكبيرة من سجن غزة المركزي "السرايا").
مجاهد من الصغر
فبدوره أكد أن الشهيد القائد مصباح الصوري حمل لواء الجهاد والمقاومة في سبيل الله، منذ كان شبلاً لا يتجاوز عمره السادسة عشر، حيث قام بإلقاء قنبلة يدوية على ضابط صهيوني كان يتجول في مخيم جباليا بسيارته العسكرية، لكن القنبلة لم تصب الضابط الصهيوني الذي أطلق النار من مسدسه على الشهيد "مصباح" فأصابه في قدمه ويده اليسرى، وتم اعتقاله، حيث حكم عليه بالسجن المؤبد، مؤكداً أن الشهيد حاول الهروب من سجن بئر السبع عدة مرات، لكن كافة محاولاته لم يوفق بها، حيث ان احدى المجندات شاهدته يقص قضبان نافذة سجنه في المرة الأخيرة، فتم نقله الى زنزانة محكمة الاغلاق، حتى من الله عليه بالحرية في صفقة تبادل الأسرى بين العدو والجبهة الشعبية القيادة العامة بتاريخ 19-5-1985م.
الصوري .. عندما يكون الجهاد بالمال والروح "نموذج"
وقال أبو السرهد لـ "الاعلام الحربي":" السجن لم يكسر عزيمة الشيخ مصباح، بل انه زاده إصراراً على المضي قدماً في طريق الجهاد المقاومة، حيث سارع بعد خروجه من السجن إلى التواصل مع معلمه الشهيد فتحي الشقاقي ورفاق دربه لوضع النواة الأولى لتشكيل جيش إسلامي مجاهد داخل ارض فلسطين "، مبيناً أن فكرة تشكيل جيش من المجاهدين على ارض فلسطين كانت حاضرة في عقل ووجدان الشهيد مصباح الصوري، الذي باع مصاغ زوجته بعد اقل من شهر على زواجه واشترى به سلاح "كلاشنكوف".
وأكمل حديثه قائلاً:" فور شراء مصباح السلاح بدأ يتدرب عليه، ثم بدأ يدرب عليه بنفسه بعض الإخوة المجاهدين الذين تم انتقائهم بعناية فائقة لحمل لواء الجهاد على ارض فلسطين"، مبيناً أن اعتقال مصباح في مساء يوم 19-5-1986م، وثلاثة وعشرين مجاهد آخر كانوا معه، لم يمنع بقية المجموعات الأخرى التي تم تشكيلها من تنفيذ عدة عمليات طعن بالسكين، وإطلاق نار وقنابل يدوية على جنود الاحتلال مستوطنيه، الذين كانوا يتجولون في شوارع غزة كأنهم في قلب تل الربيع "تل ابيب".
وأضاف "العمليات الجهادية التي نفذت وخاصة عمليات الطعن بالسكين، جعلت غزة محرمة على جيش الاحتلال ومستوطنيه، وكانت الشرارة الأولى لبزوغ فجر المقاومة الفلسطينية على ارض فلسطين".
تحدي.. إصرار .. انتصار
وأشار أبو السرهد خلال حديثه إلى حوار دار بين مسئول الأمن الصهيوني، "آفي" ومعه" دافيد ميمون" الذي كان يرئس مصلحة سجون العدو، أمام مصباح خلال جولة لهم داخل السجن، نصح "افي" "ديفيد" بضرورة الحذر من "مصباح" الذي حاول الهرب، فقال مصباح لدافيد " لديك رأس فكر كيف ما تشاء في إمكانية منعي الهروب من سجنكم".
قصة عملية الهروب المعجزة
وتحدث الشيخ عبد السلام أبو السرهد "أبو محمد" بإسهاب، عن عملية الهروب الكبيرة التي هزت الكيان الصهيوني "آنذاك" وتم على أثرها إقالة "دافيد" وتحويله إلى المحكمة العسكرية لأنه لم يستطع منع "مصباح من الهروب" رغم علمه المسبق بانه يخطط للهروب.
وقال أبو محمد :" في يوم الجمعة 17-5-1987م في التاسع من رمضان، تمكن "مصباح" من الحصول خلال زيارة احد المجاهدين له على نصف منشارة حديد تم وضعها له في رغيف فينو، ثم بدأ بوضع خطة محكمة للعمل في ساعات ودقائق محددة بعد عملية رصد دقيقة لتحركات جنود الاحتلال طاقم الحراسة المنتشرين داخل أقسام السجون وعلى الأبراج".
وأكمل حديثه قائلاً :" أطلعني الشيخ مصباح ورفيقنا المجاهد عماد الدين عوض شحادة على رغبته في الهروب، وطلب منَّا بحكم تواجدنا معه داخل، وثقته العالية فينا، مساعدته".
وتابع حديثه قائلاً:" لم نتردد للحظة، وبدأنا العمل معه لمدة ثلاثة أيام متواصلة وفق الخطة التي أعدها، حيث كنّا نضطر للعمل من عشر دقائق إلى ثلاث عشر دقيقة كل الساعة، حتى تمكنا من قص الشباك في ليلة الأحد دون أن يعلم احد بما قمنا به"، لافتاً أن القسم "العنبر" الذي كانوا يتواجدون فيه، كان يضم " 26" معتقلاً آخر، لم يشعر احد بما كنا نقوم به، رغم ان عملية القص كانت تتم في نافذة الحمام الوحيد الذي كنا نستخدمه جميعاً.
وحول المعوقات التي كانت تواجههم خلال عملية القص النافذة، قال ابو السرهد:" العمل كان شاق وصعب للغاية وبل مستحيلاً، حيث إننا كنا نعمل داخل حمام يستخدمه خمسة وعشرون مجاهد، للوضوء خمسة مرات في اليوم عدا عن دخول الحمام لقضاء الحاجة، بالإضافة الى وجود برج عسكري لايبعد عن النافذة أقل من عشرة أمتار وكان الجندي داخل البرج يقوم برصد النوافذ بصورة مستمرة ومتواصلة على مدار الساعة مسلطاً الكشاف كل نصف ساعة على النوافذ وأيضا كان هناك برج عسكري آخر يبعد ثلاثين متر مقابل الغرفة يطل على قسم الشرطة العسكرية والعيادة، وقسم المخابرات كان أسفل الغرفة التي كنا معتقلين فيها ولكن قدر الله كان نافذ في ليلة الثاني عشر من رمضان يوم الاثنين حيث استطعنا الانتهاء من قص القضبان بالكامل".
واسترسل القول: "بعد الانتهاء من قص الشباك بشكل كامل، اطلع الشيخ مصباح الإخوة الذين انتقاهم لتنفيذ عملية الهروب معه من ذوي المحكومات العالية، على خطة الهروب، وطلب منهم الاستعداد لساعة الصفر.. "، مؤكداً أنه ورفيقه عماد شحادة طلبوا من الشيخ مصباح مشاركته عملية الهروب، لكنه رفض لأن محكوميتهم أوشكت على الانتهاء.
وتابع حديثه قائلاً:" في تمام الساعة الثانية عشر ليلاً، بدأ الجنود يحتفلون بعيدهم بشرب الخمور والرقص، وفي تمام الساعة الواحدة ونصف سكتت كافة الأصوات الصاخبة وساد الهدوء كافة السجن، وحل الضباب الكثيف الذي لم نشهده من قبل، وبدأ مصباح ورفاقه الهروب واحداً تلوا الآخر وهم يرددون قوله تعالى ( وجعلنا من بين أيديهم سدا وخلفهم سدا، فاغشيناهم فهم لا يبصرون)".
ولفت ابو السرهد الى أن الشيخ مصباح الصوري كان طوال الليل والنهار ورفاقه على الذكر والدعاء والرجاء من الله ان يكتب لهم التوفيق في مهمتهم.
وأوضح ابو السرهد أن أول واحد تمكن من الخروج من النافذة كان صالح اشتيوي، ثم تبعه مصباح الصوري، ثم سامي الشيخ خليل، ثم محمد الجمل، وعماد الصفطاوي، وخالد صالح..، مبيناً أن باقي التفاصيل حصل عليها من المجاهد صالح اشتيوي الذي تم اعتقاله بعد اسبوع من العملية.
بين أن المجاهدين الستة تجمعوا فوق سطح المطبخ وذهبوا باتجاه باب المخابرات والشرطة العسكرية، النقطة الأكثر خطورة إلى أن وصلوا للمنطقة الشرقية لمبنى السرايا التي كانت مزروعة باشجار الكينيا، حيث اعتلى المجاهدين أشجار الكينيا لمسافة تجاوزت السبع أمتار واستعانوا بالأغصان في عملية النزول على الأرض بعيداً عن الأسلاك الشائكة.
ولفت ابو السرهد الى انه ورفاقه في السجن بدئوا بعملية تمويه، حيث وضعوا "المخدات" مكان نوم المجاهدين الستة وتغطيتها، مبيناً أن مصلحة سجون الاحتلال اكتشفت عملية هروبهم في تمام الساعة السادسة، أي أربع ساعات من خروجهم إلى شوارع غزة التي احتضنتهم وآوتهم حتى كان استشهادهم في معركة بطولية.
وأكد ان العملية شكلت صاعقة وضربة كبيرة للمنظومة الأمنية الصهيونية التي أصيبت بحالة ذهول، مؤكداً أن الاحتلال حاول بشتى الطرق إعادة اعتقال الشيخ مصباح، حيث قام بسجن كافة أفراد عائلته لإجباره على تسليم نفسه، وإجهاض زوجته، والتواجد بصورة شبه دائمة في بيته.
رجال تأبى الرحيل عن وطنها
وذكر ابو السرهد إلى أن قيادة الجهاد الاسلامي طلبت من الشيخ مصباح ومن بقى معه " محمد الجمل وسامي الشيخ خليل" الخروج إلى سيناء والتوجه من ثم إلى بلد عربي للاستقرار فيه، ريثما تهدأ الأمور، لكن الشهيد القائد "مصباح الصوري" ومن اختارهم ليكونوا معه أصروا على البقاء داخل قطاع غزة لمواصلة مشوارهم الجهادي، منفذين أروع العمليات الجهادية التي زلزلت أركان الكيان الصهيوني.
أسر لتبيض السجون
وتحدث ابو السرهد عن محاولة الشهيد مصباح الصوري برفقة الشهيد أبو رزق العرعير اسر ضابط صهيوني لتبيض سجون الاحتلال من الأسرى الأبطال لكنه رفض الانصياع، وحاول الهروب، فقام مصباح على الفور بقتله، وتبين أنه أحد رجال وضباط التحقيق في مخابرات العدو وكان يدعي (قاليل أقراصي )، ونفذ عملية قتل قائد الشرطة العسكرية في قطاع غزة "رون طال" برفقة الشهيد سامي الشيخ خليل الذي قتله بالمسدس الذي كان بحوزته.
زرع بذرة مجد أنبتت سرايا القدس
وكشف عبد السلام خلال حديثه عن تشكيل الشهيد مصباح الصوري لجيش من المجاهدين داخل قطاع غزة، مقدراً عدد الذين التحقوا بهذا الجيش الفتي آنذاك بـ " 400" مجاهد، كان يتم تدريبهم في بعض المناطق النائية على بعض الأسلحة التي تمكن الشهيد ورفاقه الحصول عليها سواء من خلال العمليات الجهادية التي نفذوها او خلال دعم بعض المجاهدين لهم بالمال والسلاح.
وبين ابو السرهد أن عملية اعتقاله الأولى كانت بسبب حيازته سلاح استلمه من الشهيد مصباح الصوري ضمن المجموعة الجهادية الاولى التي تشكيلها لتحرير فلسطين، موضحاً أن فكرة اعداد الجيش تم الاعداد لها مسبقاً قبل عملية الهروب.
رحيل الأبطال لم يطفئ جذوة الانتصار
أما قصة استشهاده فأوضح ابو سرهد إلى ان أجهزة مخابرات العدو استطاعت رصد تحركات الشهيد الصوري من خلال احد العملاء، حيث تم نصب كمين محكم له في يوم 1-10-1987م ، وعند اقترابه من منطقة جحر الديك الى الشمال الشرقي من مخيم البريج وكان برفقته كل من الشهيد محمد أبو عبيد والشهيد ابراهيم المقادمة (أبو شملة )، قام العدو بإطلاق زخات ووابل من الرصاص باتجاه السيارة التي كانوا يستقلونها مما أدي لاستشهاد كل من أبو عبيد والمقادمة وإصابة الشيخ مصباح و اعتقاله والتحقيق معه بكل وسائل التعذيب لمعرفة أماكن تواجد رفاقه، لكنه فضل الموت شهيداً عن البوح بكلمة واحد تساهم في الكشف عن مصير رفاقه الذين واصلوا مسيرة الجهاد والمقاومة.
فكان استشهاد مصباح يوم 2-10-1987م تحت التعذيب القاسي لتصعد روحه الى بارئها بجوار ربه والأنبياء والصديقين وحسن أولئك رفيقا، وبعد استشهاده أقدم العدو على هدم بيت عائلته، ودفنه في مقبرة دير البلح بعيداً عن منطقة سكناه انتقاما من مصباح وعائلته ومخيمه الصامد ولم يشارك في الجنازة اى احد من عائلته فرحم الله شهيدنا القائد مصباح الصوري مؤسس مدرسة الجهاد والمقاومة في فلسطين وأسكنه الله فسيح جناته وهو يلبس تاج الوقار لوالديه بحفظه لكتاب الله .