لا أحد في مقدوره أن يكشف سر تفاؤل جون كيري وزير الخارجية الأمريكي بمآل الجولة الجديدة من المفاوضات “الإسرائيلية” - الفلسطينية خلال لقائه مؤخراً وفدي التفاوض “الإسرائيلي” برئاسة تسيبي ليفني والفلسطيني برئاسة صائب عريقات .
ربما كيري وحده هو من يعرف، وربما يشاركه هذه المعرفة رئيسه باراك أوباما وصديقه بنيامين نتنياهو الذي لم يشأ أن يتأخر كثيراً عن اللقاء به عقب اختتام مناقشاته في جنيف مع سيرجي لافروف وزير الخارجية الروسي حول اتفاق تدمير ترسانة الأسلحة الكيماوية السورية . لقاء كيري مع نتنياهو والصور التي نشرت لهذا اللقاء كادا ينطقان بأصوات الضحكات العالية للحليفين الأمريكي و”الإسرائيلي” عنواناً للسعادة البالغة من اطمئنانهما لمسار الأحداث والتطورات في العالم العربي التي تكشف أنها تسير في اتجاه لم يكن يحلم به أحد من قادة الكيان الصهيوني، فهي أحداث وتطورات تحقق الكثير من الأحلام الصهيونية بأيدي العرب أنفسهم، وبتغذية أمريكية كي تكتمل التفاعلات في الاتجاه المرغوب والمأمول: المزيد من طمأنة “إسرائيل” على مستقبلها .
كل ما استطاع أن يقوله جون كيري في لقائه مع ليفني وعريقات هو التصريح بأن “الإسرائيليين” والفلسطينيين اتفقوا على تكثيف محادثات “السلام” بينهم، وزيادة المشاركة الأمريكية واكتفى بالتلميح بأن كل المطلوب من “الإسرائيليين” الآن هو “تعليق تطبيق سياسة توسيع المستوطنات”، مجدداً توقعاته، التي يروج لها منذ فترة كمبرر لبدء ومواصلة التفاوض، بأن “التوصل إلى اتفاق سلام سيحقق الأمن والرخاء الاقتصادي في المنطقة” ومحذراً من أن الفشل ستكون له تداعياته السلبية .
تصريحات كيري جوفاء خالية من أي مضمون، وجاء خطاب الرئيس الأمريكي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليؤكد بالدليل القاطع أن السلام الحقيقي القائم على العدل والذي يتوافق مع ما سبق أن أصدرته الأمم المتحدة من قرارات تتعلق بالقضية الفلسطينية خاصة والصراع العربي - الصهيوني عامة ليس له أولوية تذكر في أجندة إدارته . فالخطاب ركز على قضيتين أساسيتين: الأزمة السورية ومستقبل العلاقة مع إيران على ضوء ما سيتم التوصل إليه من حلول لأزمة برنامجها النووي، إضافة إلى التداعيات المتلاحقة لما يسميه ب “الربيع العربي” .
والفقرة الوحيدة التي تحدثت عما يسمى “عملية سلام الشرق الأوسط” لم تذكر نهائياً اسم الشعب الفلسطيني ولا القضية الفلسطينية، لكنها تحدثت عن “إسرائيل”، وأمن “إسرائيل” على النحو الذي يبتغيه “الإسرائيليون” فقد تحدث عن موقف إدارته “الملتزم بالسعي للسلام بين العرب والإسرائيليين” . وأكد أن بلاده “لن تساوم على أمن “إسرائيل” أو دعمنا لها كدولة يهودية”.
هكذا.. لكنه لم يكتف بذلك بل تحدث عن “المجازفة” من أجل السلام. كل هذه الالتزامات الخاصة بأمن ووجود “إسرائيل” دولة يهودية يراه مجازفة من أجل السلام، فأي أفق حقيقي للسلام يقوده الآن جون كيري وتنخرط فيه السلطة الفلسطينية؟
السؤال مهم، لأن اندفاعة كبرى نحو تجديد التفاوض الفلسطيني - “الاسرائيلي” جاءت في أوج انشغال الإدارة الأمريكية وارتباكها في إدارة ملف الأزمة السورية، وقبول السلطة الفلسطينية الانخراط في هذه الجولة جاء ضمن تراجع السلطة عن التزامها المسبق بربط أي تفاوض جديد بإعلان “إسرائيلي” صريح بوقف سياسة التوسع الاستيطاني في القدس المحتلة والضفة الغربية، بل على العكس جاء هذا الانخراط وأعقبه المزيد من التوسع الاستيطاني “الإسرائيلي” بمشاركة قوية من الجيش “الإسرائيلي” نفسه، فضلاً عن كل ما يحدث من اعتداءات خطيرة على المسجد الأقصى واعتداءات سافرة على الفلسطينيين.
الظروف غير المواتية للتفاوض بالنسبة للسلطة الفلسطينية لا تتعلق فقط بثبات مواقف الأمريكيين و”الإسرائيليين” بالنسبة للسياسة الاستيطانية وغموض الموقف من قضايا التفاوض الجوهرية، لكنها تتعلق أيضاً بالحالة الفلسطينية غير المواتية والظروف العربية غير الداعمة أو غير المهيأة لدعم موقف المفاوض الفلسطيني.
فالمصالحة الفلسطينية بين السلطة وحركة المقاومة الفلسطينية “حماس” باتت أبعد مما كانت منذ عام أو عامين، والتنكيل الأمني المتبادل متصاعد في الضفة وغزة لأنصار الطرفين، والتشكيك في النوايا بين القيادتين متصاعد، ناهيك عن غياب أي ظهير عربي حقيقي داعم لمسيرة التفاوض، فمعظم الدول العربية باتت مشغولة بأوضاعها الداخلية غير المستقرة، ومنقسمة حول إدارة الأزمة السورية، والعلاقة مع إيران، والجامعة العربية في انحسار غير مسبوق لدورها وفعالية ومصداقية هذا الدور، وكلها أمور تؤكد أن “بيئة التفاوض” بالنسبة للطرف الفلسطيني غير مواتية، لذلك فإن السؤال: لماذا المفاوضات الآن.. سؤال مهم.
البعض يراه “مسعى هروبياً” من استحقاقات مهمة كان لا بد أن تدفعها السلطة في ظل موجات الثورات العربية، وتفجر ما يسمى ب “حركة تمرد” الفلسطينية في غزة ضد حكم “حماس” يمكن ان تتطور ضد السلطة أيضاً، من أهم هذه الاستحقاقات استحقاق المصالحة واستحقاق تفجير انتفاضة ثالثة تسقط كل المساومين والمفرطين في حقوق الشعب الفلسطيني، والبعض يراه “مسعى عقابياً” لحركة “حماس” التي تعاني الآن من اختلال شديد في موازين القوة مع السلطة، بعد خسارتها للحاضنة السورية باغراء أو بضغوط من “التنظيم الأم” في مصر، أي جماعة الاخوان المسلمين وتركيا وقطر . وأخيراً خسارتها الكبرى في مصر بسقوط حكم الإخوان.
أياً كانت خلفية اندفاع السلطة الفلسطينية نحو المفاوضات، فإن الفشل يتهددها لأسباب كثيرة.
أول هذه الأسباب، أن ما يحكم موقف حكومة نتنياهو الآن هو إدراك عن يقين، مفاده أن “إسرائيل” ليست مجبرة الآن على تقديم أية تنازلات للفلسطينيين، ربما العكس هو الصحيح فهم يدركون أن الوقت يعمل لمصلحة المشروع الصهيوني، وأنه لم تعد هناك أي قوة غربية قادرة على تهديد “إسرائيل”، وأن دولاً عربية، من خلال مصالحها الذاتية الخاصة، تعطي أولوية للعلاقة مع الولايات المتحدة وباتت تتأفف من أعباء القضية الفلسطينية، لكن الأهم هو التركيز “الإسرائيلي” الآن على الملف النووي الإيراني بعد أن فتح قبول الرئيس السوري التخلص من قدراته الكيماوية شهية “الإسرائيليين” للتخلص من الخطر النووي الإيراني . وما يتردد الآن من وجود خلافات داخل حكومة نتنياهو بين مؤيد ومعارض للتفاوض مع الفلسطينيين لا يخرج عن نطاق “المداعبة السياسية” و”الإخراج المسرحي” لجولة التفاوض الجديدة، وادعاء وجود معارضين لقبول رئيس الحكومة لدعوة التفاوض التي يتزعمها وزير الخارجية الأمريكي، فهم جميعاً معارضون ل “حل الدولتين” وفي مقدمتهم نتنياهو، وهم جميعاً تسري عليهم المقولة الساخرة: “نعم أؤيد عملية السلام طالما أنها لن تفضي إلى حل، ونعم أقبل فكرة الدولتين، لكني لا أعمل على إنجاحها”.
في مثل هذه الظروف فإن محصلة التفاوض لن تخرج عن ثلاثة احتمالات: أولها، التوصل إلى اتفاق ينص على إقامة دولة فلسطينية، لكن سوف يجرد هذه الدولة من كل مقومات الوجود فضلاً عن الثمن الذي سيكون فادحاً، فهي دولة ليست على حدود الرابع من يونيو ،1967 لكنها تركز على مبدأ “تبادل الأراضي” الذي دعمته جامعة الدول العربية للأسف، ما يعني تمكين الكيان من ضم كل الكتل الاستيطانية في الضفة وجعل الجدار العازل العنصري خطاً للحدود، مع اعتبار القدس عاصمة مشتركة، والتنازل عن حق العودة. وثانيها، التوصل إلى شبه اتفاق أو اتفاق جزئي لا يعقبه أي انسحاب من الضفة، أما الاحتمال الثالث فهو الفشل.
احتمالات ثلاثة للفشل الآن، الاحتمالان الثاني والثالث هما الفشل المؤكد، أما الاحتمال الأول فسوف يواجه برفض شعبي قوي قد يضع الجميع أمام مأزق الاستحقاقات التي يتهربون منها .