خبر سياقات انتقالية ثورية في الدول العربية- مفترق الشرق الأوسط

الساعة 08:34 ص|15 أغسطس 2013

بقلم: د. دانييل زيسنوين

الأحداث في مصر في أعقاب عزل الرئيس محمد مرسي لا تزال بعيدة عن نهايتها. ولكن واضح منذ هذه المرحلة بان مسيرة الانتقال من نظام دكتاتوري الى ساحة سياسية متعددة وديمقراطية تلقت ضربة قاسية. فالتدخل المتجدد لقوات الجيش في الحياة السياسية لا يبشر بالخير بالنسبة لاحتمال الدفع الى الامام بحياة سياسية ديمقراطية في مصر. ومنذ الان تنطلق اصوات مختلفة بين المحللين عن فشل ثورة 2011 في مصر وكذا في دول اخرى في الشرق الاوسط، تعيش في هذه المرحلة او تلك من مسيرة انتقال وتصميم لساحة سياسية جديدة في أعقاب الثورات التي وقعت فيها. وبالفعل، فان سياقات بناء منظومات سياسية ديمقراطية في اعقاب تغيير ثوري وانعدام تقاليد ديمقراطية هي سياقات قاسية وباعثة على التحدي. من الصعب أن نشير حتى ولا الى دولة واحدة في المجال العربي وصلت الى استنفاد كامل للمساعي في هذا الاتجاه.

وللمفارقة، فبالضبط في الاسبوع الذي عزل فيه مرسي عن الحكومة، بدأت الجمعية الوطنية المنتخبة في تونس البحث في مسودة دستور جديد. بالنسبة لتونس، الدولة الاولى التي اندلع فيها الربيع العربي في كانون الاول 2010 واصبحت مصدر الهام لدول اخرى، فان هذه علامة طريق هامة. فمسيرة الانتقال من نظام دكتاتوري نحو افق ديمقراطي أكثر في هذه الدولة وان كانت حتى الان اصعب مما اعتقد الكثيرون، تبدو شبه متعذرة في مصر. فعلى خلفية محاولات محافل في الاسرة الدولية الدفع الى الامام بالسياقات الانتقالية في مصر، يمكن ان نستخلص عدة دروس من الحالة التونسية. في سياق عام اكثر يمكن ايضا ان نرى كيف انه، هذا اذا كان على الاطلاق، سيكون ممكنا الدفع الى الامام بالسياقات الانتقالية السياسية في دول شرق اوسطية اسقط فيها حكام مستبدون، وفي اي ظروف سيكون ممكنا العودة الى دمج احزاب اسلامية في الحياة السياسية. وبالتوازي مع ذلك يبرز التخوف من أنه خلافا للعام 2011 حين شكلت تونس مصدر الهام في مصر، ستنقلب الان الامور والحالة المصرية ستشجع محافل مختلفة في تونس كي تحاول العمل بشكل مشابه لما حصل في مصر وهكذا توجيه ضربة قاضية للمسيرة الانتقالية في الدولة.

المقايسة بين تونس ومصر ليست ظاهرا في مكانها. فالحجوم الجغرافية لتونس اصغر بكثير من حجوم مصر. وسكانها - عشرة ونصف مليون نسمة – اقل بكثير مقارنة بـ 82 مليون في مصر. ولتونس مزايا خاصة تميزها عن الحالة المصرية بما في ذلك الانسجام الاجتماعي الاكبر، معطيات تنور أعلى ومساواة في النوع الاجتماعي ابرز  بالنسبة لدول العربية اخرى. تعيش تونس في أزمة اقتصادية عميقة منذ اسقاط زين العابدين بن علي في بداية 2011، ولكن الازمة هناك، مهما كانت قاسية، ليست خطيرة مقارنة بمصر.

ثمة أوجه شبه عديدة بين الدولتين، ولا سيما على المستوى السياسي. ففي الانتخابات التي جرت بعد الثورة (تشرين الاول 2011) صعد في تونس الحزب الاسلامي، النهضة، الى الحكم، ولكن يجب التمييز بينه وبين حركة الاخوان المسلمين في مصر. أولا، لا توجد صلة مؤطرة ببين الحركتين. لهما مصادر الهام مشتركة في عقيدة حسن البنا، مؤسس الاخوان، ولكنهما تعملان في محيطين سياسيين مختلفين جدا الواحد عن الاخر. فالنهضة تقدم نفسها كحزب محافظ معتدل مع توجه ديني. وبشكل رسمي تمتنع عن جعل اقامة دولة شريعة اسلامية هدا مركزيا، وذلك خلافا للاخوان في مصر. وأعلنت الحركة، مرات عديدة عن التزامها بالديمقراطية وعملت، دون نجاح، على تهدئة خصومها بانه لا تهدد الطابع الخاص للمجتمع التونسي. النهضة، خلافا للاخوان في مصر لم تحقق اغلبية ساحقة في الجمعية الوطنية التي انتخبت واضطرت الى تشكيل ائتلاف مع حزبين وسط – يسار علمانيين: حزب المؤتمر من اجل الجمهورية بقيادة نشيط حقوق الانسان القديم منصف مرزوقي (الذي عين رئيسا للدولة) وحزب التكتل، المنتدى الديمقراطي للعمل والحرية. في اطار هذا الائتلاف اجرى الحزب الاسلامي حوارا مستمرا مع خصومه. وقد امتنع عن اقصاء حركات تحدت مكانته واجتهدت لتطوير توافقات وطنية واسعة في مسائل كمكانة الدين في الدولة ودمج النساء في المجتمع.

لا ريب أن زعماء النهضة كانوا يرحبون بعدم الغرق في واقع سياسي كهذا. ولكن بشكل لا مفر منه تكيفوا مع الظروف الجديدة بل واكتشفوا بانهم يمكنهم أن يستغلوا الظروف في صالحهم. الزعيم المركزي للنهضة، راشد الغنوشي، درج على التشديد على الحاجة الى الحوار بين الاحزاب في تونس كشرط لنجاح المسيرة الانتقالية في الدولة. وتأكدت هذه الرسالة أكثر فأكثر في الاسابيع الاخيرة، منذ اندلعت الاحداث في مصر. الغنوشي وكذا زعماء أحزاب علمانية عادوا وأعلنوا بان احتمال ان تكرر احداث الاحتجاج في مصر نفسها في تونس طفيف بسبب الواقع السياسي المختلف. وأكد زعماء النهضة رغبتهم في الحوار مع عموم القطاعات في المجتمع. اما الاخوان في مصر بالمقابل، فلم يبدوا اي اهتمام لمد اليد نحو تيارات سياسية اخرى ولم يضطروا الى عمل ذلك كي يضمنوا بقاءهم السياسي. فقد ألزم الواقع الانتخابي النهضة بالتعاون مع جهات اخرى، وان كان قادتها يدعون بانهم كانوا سيفعلون ذلك على أي حال. يبدو إذن ان شرطا مركزيا لوجود مسيرة انتقالية مستقرة ومعافاة في أعقاب الثورة هو اشراك جهات عديدة قدر الامكان فيها.

فارق مركزي آخر بين تونس ومصر هو مكانة الجيش في الدولة والثقافة السياسية. فالجيش في تونس يبقي تقليديا على مسافة عن الحياة السياسية ويمتنع عن التدخل فيها، بما في ذلك في السنوات الاخيرة. وهو صغير مقارنة الجيش المصري وعديم النفوذ الاجتماعي والاقتصادي الذي للاخير عى المجتمع. وتقليص نفوذ قوات الامن على الحياة العامة في تونس أتاح لجهات مدنية متنوعة احتلال مكانها في الساحة السياسية المتشكلة. وبالتالي فمن الصعب الافتراض بان الجيش سيتدخل في السياقات السياسية.

درس بارز آخر على خلفية التطورات في تونس في السنتين الاخيرتين هو الحاجة الى الحل الوسط. ففي المداولات العاصفة على بلورة مسودة دستور في تونس اضطرت الاحزاب المختلفة بمن فيها النهضة الى المساومة والى طرح مواقف معتدلة وقفت غير مرة في تضارب مع مواقفها. يحتمل ان تكون التقاليد السياسية التونسية، التي بشكل تاريخي قدست الاستقرار وامتنعت عن الصراعا العنيفة، ساعدة في تثبيت هذا النمط. على اي حال، فان استعداد النهضة للتراجع في اثناء المداولات عن ذكر الشريعة الاسلامية في مسودة الدستور هو مثال على المرونة الضرورية من اجل الدفع الى الامام بهذه السياقات الانتقالية.

ورغم ما قيل اعلاه، فان تونس لم تصل بعد الى الراحة والطمأنينة. فعلى المسيرة الانتقالية هناك يلقي بظلاله مع ذلك استقطاب بين النهضة والاحزاب العلمانية. ففي الاشهر الاخيرة وصل هذا الاستقطاب لدرجة معارك شوارع بل واغتيال شكري بلعيد، زعيم حزب اليسار، الجبهة الشعبية، الذي اغتيل في شهر شباط، واغتيال محمد براهمي، هو الاخر رجل اليسار، الذي اغتيل في نهاية شهر تموز. ويعتبر الاغتيال السياسي في تونس ظاهرة شاذة  ولهذا فقد كانت الصدمة الجماهيرية في اعقابه كبيرة. كما أن النقاش الاول لمسودة الدستور آنف الذكر تدهور الى فوضى مطلقة عندما احتج اعضاء المعارضة على بنود مختلفة تظهر فيه مثل مكانة الجهاز القضائي، صلاحيات الرئيس ولا سيما المادة 141 التي تقول ان الاسلام هو دين الدولة. لمعارضي النهضة شكوك كبرى بشأن التزام الحركة بالديمقراطية. وهم يطرحون (وعن حق من ناحيتهم) أسئلة على اهداف النهضة في المدى البعيد ويشكون بانه خلف الاقوال عن السعي الى الاجماع والتعاون بين الاحزاب تختبىء ارادة لاقامة دولة شريعة اسلامية في تونس تقوض الطابع الاجتماعي – المتحرر على نحو خاص (مثلما في مكانة المرأة) وثقافتها السياسية المعتدلة. ولا ينجح قادة النهضة في بعث الثقة في اوساط معارضيهم، الذين يدعون بان كل تصريحاتهم حول دعم الديمقراطية ليست سوى ذر الرماد في العيون يستهدف تضليل الجمهور. يمكن القول انه حتى لو كان حق في اقوالهم، فقد نجحت حركة النهضة حتى الان في اظهار مرونة سياسية كبيرة خدمتها بنجاح حتى وقت اخير مضى.

والى ذلك، تحاول في الاسابيع الاخيرة بعض جماعات المعارضة نسخ انماط الاحتجاج التي انتشرت في شوارع القاهرة الى الطرق المركزية في تونس العاصمة. مجموعة نشطاء بلا انتماء حزبي تدعى "تمرد" (اسم مشابه للجماعة المصرية التي بادرت الى الاحتجاج الذي أدى الى عزل مرسي)، لم تكن تعمل من قبل في السياسة التونسية، بادرت الى عريضة تدعو الى اسقاط حكم النهضة وتحاول ان تنظم مع الجبهة الشعبية مظاهرات احتجاج على النمط المصري. الاتحادات المهنية، التي تشكل عنصرا هاما في المجتمع، انضمت هي ايضا الى هذه الدعوة، ولكنها امتنعت عن المطالبة بحل البرلمان وتركز فرصة لمواصلة المسيرة السياسية. ومع ذلك، فان هذا الجهد لم ينضج الى درجة موجة احتجاج مهددة ويبدو أن اغلبية الجمهور، حتى لو لم تكن راضية عن سلوك الحكومة برئاسة النهضة، تمتنع عن اعمال عنيفة ومتطرفة. ويعتقد الكثيرون بانه على الرغم من التحديات الكثيرة التي تقف امامها تونس، من الافضل لها أن تمتنع عن تبني نمط الاحتجاج المصري اذا كانت ترغب في استنفاد مسيرة التغيير في الدولة. تصريحات جهات مختلف في تونس حتى الان، وحقيقة أن الجمهور لا يزال يعرب عن ثقة متحفظة في قدرة الساحة السياسية على الانهاء الناجح لمسيرة التغيير، وكذا ايضا ابعاد قوات الجيش عن الحياة السياسية، تدل على أن أغلبية الجمهور لا تزال تتمسك حاليا بهذه الرسالة.