خبر استقالة الحمد الله كاشفة العورات... هاني المصري

الساعة 04:05 م|25 يونيو 2013

فجأة، ومن دون سابق إنذار، جمع الحمد الله أغراضه من مكتبه في رئاسة الحكومة، واستقل سيارته الخاصة، وطلب من شخص لم يُعَرِّف عن نفسه بإبلاغ الصحافيين المندهشين من تصرفه أن رئيس الحكومة استقال وأرسل استقالته إلى المقاطعة.

لماذا لم يطلب الحمد الله لقاءً مع الرئيس محمود عباس يحاول فيه الحصول على الصلاحيات التي يريدها أو لعرض المطالب التي من دونها لا يستطيع العمل، فإذا لم يكن له ذلك يقدم حينها استقالته بترتيب مناسب مع الرئيس؟ قد يكون الجواب: إنه سأل الرئيس هاتفيًا عن صحة موافقته على تفويض نائبه محمد مصطفى بالتوقيع المالي ما أغضبه وجعله يتصرف على هذا النحو.

هنا، يمكن أن أتساءل إذا سلّمنا جدلًا بأن النزاع على الصلاحيات ليس السبب الوحيد للاستقالة، فهل الأمر كما يهمس البعض في الكواليس له علاقة بالضغوط الأميركيّة وبعض البلدان الأوروبيّة والعربيّة على القيادة الفلسطينيّة لقبول استئناف المفاوضات من دون شروط، أم له علاقة بالتنافس بين مراكز قوى سياسيّة وأخرى اقتصاديّة داخل السلطة وخارجها، أم يرجع - كما أرجح - إلى أن الحمد الله الأكاديمي الذي يفتقر إلى الخبرة السياسيّة وإلى مهارة العمل في دهاليز المؤسسة الفلسطينيّة المعقدة التي تنتهشها الفوضى، أراد أن ينسحب رغم قربه من الرئاسة و"فتح" بعد أن أدرك ما لم يدركه في البداية أنه مجرد موظف بدرجة رئيس حكومة في نظام رئاسي يجمع فيه الرئيس كل السلطات والصلاحيات، وأن نائبيه موجودان ليحلا محله وليس لمساعدته، خصوصًا أنهما مقربان من الرئيس، وكانا مرشحين لتولي منصب رئيس الحكومة.

ولعب دورًا في استقالته أنه وجد على طاولة رئيس الحكومة جبلًا هائلًا من المشاكل والألغاز والخلافات والصراعات عصيّة على الحل تنوء بها الجبال ولا طاقة له بها، فرحم الله رجلًا عرف قَدْرَ نفسه، لذلك اختار هذه الطريقة بالاستقالة، لأنه أراد الانسحاب فعلًا إذا لم يتح له تشكيل حكومته واختيار نائبه بنفسه.

يبقى لماذا قبل الحمد الله بالمنصب وقَبِل برئاسة حكومة فُرِضت عليه باستثناء تعديلات طفيفة، وكان من ضمنها تعيين نائبين لرئيس الحكومة من دون حقائب وزاريّة خلافًا للقانون الأساسي الذي يعطي لرئيس الحكومة الحق في تعيين نائب واحد بحقيبة وزاريّة؟ يبقى هذا التفسير هو الأكثر احتمالًا في ظل غياب رواية رسميّة لتبرير الاستقالة وقبولها.

أراد الحمد الله الهروب بجلده والعودة إلى صومعته في جامعة النجاح، والرئيس قبل الاستقالة لأن استمراره بات متعذرًا بعد أن كُسِرت الجرة وفُقِدت الثقة، وبعد أن رفض الحمد الله عرض الرئيس بالاتفاق مع حكومته على الصلاحيات من دون إقالة نائبيه أو واحد منهما على الأقل أو إعادة تشكيل الحكومة.

إن الغضب على الحمد الله كبير، لأن استقالته بهذا الشكل وفي هذا التوقيت والمضمون كانت كاشفة لعورات النظام السياسي كلها. هذا النظام الذي يعاني من مأزق شامل له مصادر متعددة وقائم على جملة من الأزمات، أهمها:

*أزمة شرعيّة ومرجعيّة، تظهر في الشلل الذي تعاني منه منظمة التحرير بعد توقيع اتفاق أوسلو وتأسيس السلطة التي تضخمت كثيرًا وتقزمت المنظمة، ولم تعد تمثل فعلًا الشعب الفلسطيني بعد حصول "حماس" على الأغلبيّة في الانتخابات التشريعيّة، فالمنظمة لم تعقد اجتماعًا للمجلس الوطني منذ زمن بعيد، ولم يعد تشكيله لا بالتعيين ولا بالانتخاب بالرغم من موت الكثير من أعضائه أو بلوغ عدد منهم الأعمار المديدة، ومعاناة بعضهم من أمراض، بما فيها الزهايمر.

والسلطة تآكلت شرعيتها بسبب تآكل مرجعيتها (المنظمة)، وجراء وصول برنامجها لإقامة الدولة عن طريق المفاوضات إلى طريق مسدود بعد أن تعمق الاحتلال وبلغ عدد المستوطنين أكثر من 700 ألف مستوطن، وفي ظل تعنت الحكومةالإسرائيليّة وتطرفها وعدم استعداد الإدارة الأميركيّة للضغط عليها.

كما يطعن بمرجعيّة النظام السياسي بأنه لم يعد يستمد شرعيته، لا من المقاومة، ولا من صناديق الاقتراع، بعد انتهاء الفترة القانونيّة للانتخابات الرئاسيّة منذ أكثر من أربع سنوات والتشريعيّة منذ أكثر من ثلاث سنوات. كما أن استمرار الانقسام وتفاقمه يرفع الغطاء عن النظام السياسي، بما في ذلك الفصائل، خصوصًا "فتح" و"حماس"، المسؤولتان عن وقوعه واستمراره وتفاقمه عموديًا وأفقيًا.

* أزمة اتفاق أوسلو وما انتهى إليه من كارثة بعد تجاوز إسرائيل له وتمسك القيادة الفلسطينيّة به، حتى رغم القرار الدولي بالاعتراف بالدولة الفلسطينيّة المراقبة، وما يعنيه ذلك من استمرار التزامها بالتزامات أمنيّة وسياسيّة واقتصاديّة مجحفة من طرف واحد، أدت إلى استمرار السلطة كسلطة حكم ذاتي محدود انتزعت إسرائيل جزءًا كبيرًا من سلطاتها وصلاحياتها المحدودة، خصوصًا بعد العدوان العسكري على الضفة الغربيّة في 29 شباط 2002، بحيث أصبحت السلطة أكثر من أي وقت مضى "سلطة بلا سلطة"، ومرتهنة بالكامل للاتفاقيات الظالمة والمساعدات المشروطة ببقائها في هذا الوضع الخطير للغاية على القضيّة الفلسطينيّة والشعب الفلسطيني.

إن ما يدعو للسخرية المُرَّة الحديث عن التنافس على الصلاحيات بين الرئيس ورئيس الحكومة أو داخل الحكومة لسلطة لا تملك صلاحيات أصلًا، فصلاحيات السلطة مجرد صلاحيات إدارة ذاتيّة للسكان تحت الاحتلال.

*أزمة العجز في الموازنة والمديونيّة وتردي الأحوال الاقتصاديّة والاجتماعيّة، بالرغم من حصول السلطة على أكثر من 25 مليار دولار من المساعدات منذ تأسيسها، إلا أن الأحوال الاقتصاديّة أسوأ عما كانت عليه قبل تأسيس السلطة، فمعظم الفلسطينيين يزدادون فقرًا وبؤسًا وبطالة، وقلة تزداد غنى وثروة ونفوذًا. فلم تخصص السلطة من كل الأموال التي حصلت عليها سوى 1% لمشاريع إنتاجيّة زراعيّة وصناعيّة، بل تراجعت الزراعة والصناعة وازدات التبعيّة للخارج، وخاصة للاقتصاد الإسرائيلي.

*أزمة قانونيّة نجمت عن عدم الالتزام بالقانون الأساسي، سواء بإجراء الانتخابات أو بتجميد المجلس التشريعي جراء الانقسام المدمر، وهذا أدى إلى العودة الفعليّة للنظام الرئاسي الذي يركز كل السلطات والصلاحيات بيد الرئيس من دون مراجعة ولا مساءلة ولا مراقبة من أحد. فالمنظمة غائبة والمجلس الوطني في العناية المشددة، والمجلس التشريعي ممنوع من العمل؛ الأمر الذي فاقم الفرديّة بصورة تذكرنا بالأنظمة الرئاسيّة العربيّة التي ثارت شعوبها عليها.

إن النظام السياسي الفلسطيني أصبح نظامًا مختلطًا (رئاسي برلماني) عندما فرضت ضغوطات خارجيّة وداخليّة على الرئيس الراحل ياسر عرفات لتغييره عبر استحداث منصب رئيس الحكومة، وكان هذا الحق بتوزيع السلطات يراد به باطل، وهو إضعاف قيادة ياسر عرفات وإيجاد قيادة أكثر طواعية واستجابة للشروط الأميركيّة والإسرائيليّة.

إن الحل لا يكمن في تولي "فتح" لرئاسة الحكومة بنفسها، ولا أن يشكل الرئيس الحكومة بنفسه، ولا إعادة تكليف الحمد الله، ولا حتى تشكيل حكومة وفاق وطني من دون الاتفاق على الأسس الوطنيّة والديمقراطيّة التي يجب أن تستند إليها.

لا بد من البحث عن حل جذري ينقل الوضع الفلسطيني من حالته الراهنة في ظل الانقسام وفقدان الأفق السياسي والمشروع الواحد والمؤسسة الجامعة والقيادة الواحدة؛ عنوانه بلورة إستراتيجيات جديدة قادرة على تحقيق الأهداف الوطنيّة، وليس انتظار استكمال التغييرات العربيّة، أو انتظار نجاح جهود كيري واستئناف المفاوضات، التي من المفترض أن يدرك الجميع أن استئنافها في ظل التعنت الإسرائيلي واختلال ميزان القوى، ومن دون أن يملك المفاوض الفلسطيني أوراق قوة وضغط؛ لا تعنى سوى مفاوضات من أجل المفاوضات، والتغطية على ما تقوم به إسرائيل من استكمال خلق أمر واقع احتلالي يجعل الحل الإسرائيلي هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.

لا خلاص من دون إقفال طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة وإنهاء دور "شاهد الزور" المسمى باللجنة الرباعيّة الدوليّة، وبشق مسار سياسي جديد يركز على وضع برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة الفلسطينيّة المبنيّة على خطاب الحقوق وليس على خطاب الدولة الفلسطينيّة وإعطاء الأولويّة لإنهاء الانقسام من دون ضوء أخضر أميركي وإسرائيلي أو غيرهما، واستكمال التوجه الأممي في نفس الوقت الذي يتم فيه تعزيز الصمود الفلسطيني على أرض فلسطين وخارجها، واستعادة البعد العربي والتحرري الإنساني، وتنظيم مقاومة شاملة تستخدم كل الأشكال المثمرة بما فيها المقاطعة والملاحقة القانونيّة والسعي لعزل إسرائيل وفرض العقوبات عليها ومحاكمتها على جرائمها حتى تخضع أو تنهار.