خبر « يا ويلتى أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب » ..بقلم: عبد الرحمن شهاب

الساعة 09:05 ص|28 مارس 2013

مركز أطلس للدراسات الإسرائيلية

لقد كان خصماً عنيداً ومراً بالنسبة لي، وكان جذرياً في مواقفه، كان رمزاً من رموز أمتنا، لقد اختلفت معه في الكثير من مواقفه السياسية، ولكنه كان يعمل من أجل الدولة، واختلفت معه لنفس هذه المصلحة، سخر كل حياته (75 عاماً) من العمل المتواصل للأمة، لذلك أكن له كل الاحترام والتقدير، وأترحم عليه، وأقول انني خسرت خصماً قوياً عارضته بقوة، والآن أفتقد هذا الخصم في هذا اليوم، وأحذر من أن اليد التي امتدت اليه وقتلته هي يد مدمرة لأمتنا ويد متطرفة تقودنا الى المجهول، وأطالب العدالة بأن تأخذ مجراها وتحاكم القاتل، ولا يسمح بأن ينال الرحمة على فعلته من قبل القانون، فان سر وجودنا واستمرار دولتنا يكمن في المعارضة والاختلاف بعيداً عن العنف والقتل.

هذه الكلمات لم تقال في حق عالم مسلم مثل شهيد المحراب الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ولم تقال على لسان مفكر ولا شيخ مسلم، لقد قالها رئيس حكومة إسرائيل اليوم، الذي انتخب قبل شهر للمرة الثالثة لقيادة إسرائيل، قال في حق خصمه الأساسي إسحاق رابين الذي قتل على يد متطرف يهودي على خلفية الاختلاف السياسي حول مشروع أوسلو.

هكذا ونحن في مركز أطلس للدراسات الإسرائيلية نبحث عن سر بقاء هذا الكيان مسيطراً بين بحر من المسلمين؛ لو بصقوا عليه بصقة رجل واحد لأغرقوه على حد تعبير الامام الخميني - رحمه الله عليه - أجد هذا الاحتلال وقد تحدث عنهم القرآن الكريم "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" قد استطاعوا أن يحولوا من شتات قلوبهم الى برنامج سياسي موحد، لقد صنعوا آلية للتعامل في قضايا الاختلاف، فاتفقوا على ما أسموه بـ "الوضع الراهن" (Status quo) على أن يثبتوه ويعالجوا باقي حياتهم، وينتبهوا للتهديدات المستقبلية، اتفقوا على تجميد الخلاف التاريخي وإبقاؤه كما هو، والانتقال الى الخطر القادم، وتجاوزوا بذلك أزمة التاريخ، وحتى اختلاف الثقافة والجغرافيا، ووقفوا على أرض فلسطين أمة واحدة، أدركوا أن بقاء الاختلاف دلالة على سلامة الأمة.

وأنت تقرأ عدوك وتركز وتتعمق في البحث وتسبر غوره؛ يشدك شيء شيطاني الى الوراء، يطعنك في الخاصرة قائلاً لك: لا تنسي أن الآية التي تصف بها عدوك "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" انما هي وصف لذاتك، ولأمتك، لعلمائك الذين يقتلون بعضهم بعضاً ويضربوا رقاب بعض، وأن الاختلاف بينهم في السياسة قادهم الى تعميق الاختلاف حتى العقيدة، فكفروا بعضهم بعضاً، وخونوا بعضهم، وأباحوا دماء بعضهم. وأن ما تصف به نفسك وأمتك "أشداء على الكفار رحماء بينهم" انما هي وصف لعدوك وليس لكم، وإذا أردت أن تتأكد فقم بوضع كيس مشبوه في ساحة من ساحات تل أبيب، وانظر ماذا يحدث، كيف يشد بعضهم بعضاً من الوقوع في عواقب هذا الكيس، وكيف يحذر بعضهم بعضاً، أو اذهب ومر بوجهك العربي في شوارعهم ليلاً، وانظر كيف يعمل جميعهم طاقماً واحداً من أجل التخلص منك، أو قم بالاعتداء على أحدهم وانظر كيف تكون شدتهم عليك، وكيف تخرج مذموماً مدحوراً من بين تخومهم.

لقد أدرك الاحتلال ومؤسساته أن مقتل رابين جاء على إثر فلتات لسان السياسيين الذين كانوا يعارضون بشكل تحريضي خارج عن السياق المقبول به لسلامة أمتهم وشعبهم ودولتهم، فخلدوا ذكرى مقتل رابين واعتبروها نقطة سوداء في تاريخ أمتهم، وسنوا قوانين تجرم التحريض الذي يفهم منه تحريضاً على نفي الآخر، وتحاكم كل من يقوم بفعل ذلك.

ومن هنا؛ فإن مصطلح القتال غير موجود في الثقافة السياسية الداخلية للمجتمع الإسرائيلي، الا مع عدوهم الفلسطيني. لقد حرموا مصطلح التخوين لأنه يفهم منه مباشرة دعوة الجهلاء لتنفيذ القتل ونزولا بالعلماء الى مستوى الميليشيات.

لقد قاموا بذلك لأنهم أدركوا أن قاتل رابين ليس "ايجال عامير"، وانما قتله السياسيون الذين اعتبروا أن رابين يقوم بفعل خارج عن مصلحة الأمة، ووصفوه بالخائن ويسير في اتجاه ضد تاريخ الأمة، عندما قتلوا شخص ورمز رابين تجرأ مجنون على قتله جسدياً، وأصبح ذلك غير محرم على المهوسين، لكن هؤلاء السياسيين أدركوا خطأهم فخلدوا الذكرى كي تكون ناقوساً يدق عندما يشتد الاختلاف بين السياسيين.

هذا سر بقائهم وسط البحر الإسلامي والعربي، البحر المتلاطم يلطم بعضه بعضاً، عندما سُئل رئيس دولة إسرائيل بيغن عن موقفه من الحرب العراقية الإيرانية أجاب: أتمنى التوفيق لكليهما، نفس الكلام يقوله مفكرو الحركة الصهيونية عندما يرون رصاص الفتاوى يتوجه الى صدور العلماء مرتداً على الأمة بالهرج والقتل، يجيب المفكرون الصهاينة: نتمنى التوفيق للجميع.

لا يتوقف العلماء عند حد قتل رمزية البوطي حياً، ولكن يلاحقونه الى قبره كي يدفنوا علمه، واثر عبادته في قلوب المؤمنين، واثر مناجاته ومواعظه، عندما يُصروا على وصفه بـ "الانحراف"، واستكثار صفة الشهيد عليه، والتشكيك في مقتله داخل المحراب، كي لا تلاحقهم لعنة محراب عمر وعثمان وعلي - رضي الله عنهم أجمعين - وفراراً مما يخفون من عقيدة خوارج في بطانيتهم.

هكذا يصرون على استحقاق البوطي للقتل، تستغرب من قسوتهم، هل كان البوطي زعيم ميليشيا يستحق القتل لإيقاف سفكه لدماء الناس وظلمهم؟ أم أن دم البوطي قُدّم مهراً للجنون المالي والخرف والهجر الذي سببه زخرف الكرسي؟ كما كان قُدّم دم على بن أبي طالب - كرم الله وجهه - مهراً لامرأة.

أعلم أن الشيخ البوطي كان يدرك ماذا ينتظره جسدياً، وكان مهيأ له، فعندما يأتي الموت لأمثال هؤلاء يرددون قائلين: "حبيبٌ أتى على فاقة، لا أفلح من ندم" و" غداً نلقى الأحبة، محمداً وصحبه".

لكن لم أكن أدرك ما كان يدركه هو؛ من أنه ليس الاختلاف في الرأي هو الذي يلاحق رمزيته، وانما أصالة اخلاصه لمبادئه التي ترفض الخروج على الحاكم، اصراره على مواقفه يسخط السدنة الذين قد تنفض رعاياهم بسبب ثباته على رفض الالتحاق بمعبدهم؛ لذلك يجب أن يُدَمر ويُمحى اسمه من سجل العلماء.

عندما أسمعه وكأنه يرثي نفسه قبل مقتله قائلاً: "عجيب أمركم أيها المسلمون، اذا غاضت مشاعر الدين عن كيانكم أغاضت مشاعر الإنسانية، أهكذا تكون الإنسانية؟ دعوني أقل لكم ان عيناي لا تصدقان ان الذين يفعلون هذا بشر يمشون على الأرض، أنا لا أريد أن أقارن بين مسلمين يزعمون أنهم يؤمنون بالله وبين الناس الذين لا يعرفون الدين قط، لا يعرفون لا الإسلام ولا الكتاب، ولكن مشاعرهم الإنسانية الغضة مستيقظة حاكمة لهم بل عليهم، لا أريد أن أقارن، أيها الأخوة في كل يوم اسمع من هذا القبيل شيئاً يدمي القلب".

عفواً سيدي؛ نحن في مركز أطلس للدراسات الإسرائيلية، مضطرون لأن نقارن لأن الله عز وجل عندما تحدث في سورة الحشر عنهم وذكر "تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى" أنهى الحديث عنهم بـ "فاعتبروا يا أولي الأبصار".

إن العبرة هنا يا سيدي هي اننا أصبحنا هم، وهم أصبحوا نحن، نحن قلوبنا شتى ونضرب رقاب بعض، ونخرج من الديار، ونخرج من دين الله أفواجاً؛ وهم يثبتون في الأرض، هم يمكثون في الأرض ونحن الزبد، هم جيش واحد، وأمة واحدة، وعدوهم واحد، وصديقهم من يخدم أمتهم، ونحن الـ "شتى".

يا سيدي؛ قف بين يدي ربك وهو أعلم بما ستقول، وردد ما كنت تردد في الدنيا: "سألوني عن وجودك، فقلتُ لهم: متى عرفتم أنفسكم رأيتموه، ولولا ضلالكم عن كَينونتكم لَما افتقدتموه".

أجد نفسي أقل من أن أتحدث عنك بعد أن استقبلك وأنت تلهج بذكره، وتناجيه، وتتغزل بربيع الشام قبل حرقه، وتقول: "ألا بوركتِ أيتها الأرض، مصدر سلوى لأبنائك الذين لا تزال الحياة تحرّكهم على ظهرك، ولِيزدك الله رحمة بنا وحناناً، يوم يعيدنا الردى منك إلى الأعماق".

يا سيدي؛ قل لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - أن مصيبتنا في علمائنا ودينهم، وقادتنا وعقولهم، وأن جُهّالنا أرحم من علماءنا، وأن عَوامنا أعقل من قادتنا، وقل لنبينا أن يدعوا الله لنا ليرحمنا من قادتنا، ويحفظ ديننا من علمائنا.

سلام عليك سيدي بكل ما عرفت الرسول وآله وصحبه من خلال ما خط قلمك، وأنا خلف قضبان سجن اليهود.

سلام عليك بكل حرف تعلمت، وبكل ضابط شرعي من كتابك فهمت، وبكل كلمة نقلتها لرفاقي عنك.