خبر مشروع الحالمين ومشروع الواهمين..علي عقلة عرسان

الساعة 01:50 م|05 مارس 2013

 

كنا في ما مضى من الزمن العربي نتحدث عن مشروع نهضوي عربي يدغدغ أحلامنا ويهتك أوهامنا ويقيمنا بين الأمم أمة تستعيد ذاتها وتارخها وحيوتها ومبادرتها، أما الآن فيتحدث بعض النافذين الرسميين والسياسيين منا، ووسائل إعلامنا وبعض شرائح اجتماعية محدودة عن صراع مذهبي يُستقطب فيه الكيان الصهيوني حليفاً بعد إنجاز" في موضوع الدولة الفلسطينية"، ويرسم فيه الأميركي وصياً وولياً ومهيمناً على شؤون أمة يرونها " قاصر" لا تكاد تدرك من أمرها شيئاً، بعد عشرة آلاف سنة ونيف من السير في طريق الحضارة وألف وأربع مئة سنة من نور الإسلام وهديه؟ وتضيق الحلقات وأحداق العيون والرؤى والأحلام فنتحدث الآن عن مشروع مصالحة " وطنية" بين الأحياء والزواريب المتقاتلة، وعن حلول سياسية يرفضها فريق منا لأنها لا تؤدي إلى اقتلاع الآخر الشريك في دولة مدنية – ديمقراطية ينادي بها، وعن حوار يفضي إلى تفاهم وتوافق فنرفضه ونحتكم إلى السلاح والقتل والفتك طريقاً للتفاهم " والتعايش؟! نتحدث اليوم عن تسليح يؤدي إلى ترجيح كفة الدم في أحد معسكري الاقتتال، وعن "نخْوات" وهبَّات وطنية لنقدم حليباً ودواء وخبزاً لأطفالنا، وعن مبادرات "خلاقة" لرفع ردم بيوتنا المنهارة والقمامة من شوارع مدننا وبلداتنا وقرانا، وعن بدائع مبدعين كبار في ميادين التضحية والبطولة والسياسة والخطابة، في كلام ينز حماسة، عن انتصار على الذات هنا وانكسار لها هناك.. وهي هي الذات التي تئن تحت أرجل " المنتصرين والمنكسرين"، حيث الشعب ينزف والوطن يُدمر والتآكل يشمل الحاضر والمستقبل.. ولا يطال أبطال السياسة والمواقف الكلامية من ذلك الفتك شيئاً فالشعب ضحية وشباب الوطن ذبائح يصيح لانسكاب دمها صائح القوم مهللاً ومكبراً: الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر.. وكأنه استنقذ القدس من براثن الصهاينة، أو علا عِلْم علماء الأمم بفتح علمي وتقني أوصله وأوصل الأمة العربية معه إلى مجد فغزا المريخ بالمعرفة قبل سواه من أبناء البشر الذين كان يفاخرهم بما له وبما هو عليه.؟! ألا إنها هزُلَت ثم هَزُلت ثم هَزُلَت وأكثر.

 إن المعنين المباشرين بالأزمة السورية المنذرة بشرر يطال بلدان عربية وإسلامية مدعوون للنظر في حقيقة أنهم مسؤولون، وإن بدرجات متفاوتة، عن الدم والدمار وعما أصاب البلد والشعب والأمة من مآسٍ وخراب وموت، وإن من بينهم من هو ملوث بدم السوريين من كل الأطراف المعنية بالأزمة، سواء بالقتل أو بالأمربه وبالتحريض والحض عليه، وبرفض العقل والمنطق والحلول السياسية السلمية، وبالبقاء قيد المراوغة والاستعداء والتملص وتبادل الاتهام والسعي إلى امتلاك القوة واستخدامها وصولاً إلى حسم للصراع بالقوة المسلحة.. وكل ذلك أتى على سورية الوطن والدولة وعلى الكثير من مكونات قدراتها ومكانتها وهويتها وهيبتها مستقبل أبنائها. وسواء أكان الواحد من أولئك "الساسة والدعاة والمقاتلين والإعلاميين والمثقفين والمحرضين، والسائرين في الزّفة بوعي أو من دون وعي.. سواء أكان مدفوعاً بدوافع وطنية أو غير وطنية، داخلية أو خارجية، شخصية أو عامة، فإنه مسؤول عما فعل وعما تسبب بفعله، والتملص لن يفيد أحداً، سواء أكان يقاتل في خندق أو من جدار وحاجز أو ستار، أو يقاتل في فندق من وراء البحار.. فإنه مسؤول بدرجة ما عن الدم والدمار وعما آل إليه وضع البلد وحال الناس.. ذلك لأن عليه، وهو يتنطع لقضية وطن وشعب، أن يضع مصلحة الشعب والوطن فوق كل اعتبار وإلا فما هو الفرق بين قتلٍ وقتلٍ وقاتلٍ وقاتلٍ، وبين ظلم وظلم وظالم وظالم.؟! أنا لا أسأل أياً من السوريين المعنيين اليوم بالأزمة وتفاصيلها ومآلاتها وعما أسفرت عنه المواجهات الدامية أو ستسفر عنه من خسائر ومآسٍ فتلك مهمة ومسؤولية على الجهات المعنية في الوطن أن تقوم بها عندما يستقر ويطمئن بنزاهة ووفق معايير وقيم وقوانين.. بل أقول لكل من أولئك إنك مسؤول عما جرى بقدر مشاركتك ومسؤوليتك فيه وعن استمرار القتل والهدم، مسؤول بعدم التضحية وبعدم الميل إلى الحلول التي تحقن الدم وتبقي الوطن وتحفظ المواطن بأمن وكرامة.. ومن ثم فأنت مسؤول بدرجة ما عن الدم والدمار ويجب أن تتوقف عن السير في طرق التهلكة هذا وتدع ما تبقى من الشعب ومن الوطن إلى شيء من الوعي والعقل والحكمة والمسؤولية يقوم بها سواك عن طريق الحوار وصولاً إلى الوفاق والاتفاق.. كل مسؤول وكل معارض معني عليه أن يترك للشعب فرصة أن يلملم جراحه، وعليه هو أن يتوقف عن القتل والاقتتال والتحرض عليهما وأن يلت يديه بالتراب بانتظار الحساب لا أن يغسلهما فلا مغتسل من الدم والإثم والجرم في وطن دفع الكثير الكثير وما زال يدفع وسيدفع.. ومن ثم إذا كان المعني من أولئك "وطنياً وديمقراطياً ويهمه الإصلاح وتهمه الحريات والحقوق العامة والعدالة والحقيقة، وتهمه سورية لا التجارة بها واستلابها وحلبها صباح مساء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عليه أن يعطي نفسه إجازة مفتوحة " من أجل الوطن والأمة"، وأن يترك لغيره من المواطنين القادرين الأكفَاء الذين لم يلغوا في الدم ولم يتورطوا في القتل ولم يورطوا غيرهم في أراقته، أن يعالجوا الأزمة بمسؤولية ووعي وواقعية بعيداً عن الثارات والغارات والأحقاد والتورمات السلطوية والشخصية والمعرفية والوطنية و..إلخ. أيها السادة استريحوا قليلاً لتريحوا كثيراً، فقد تعبتم وأتعبتم ووضعتم سورية ومصيرها في مآزق وأدخلتموها في أنفاق مظلمة، وهناك منكم من رهنها وارتهنها وجلب لها وعليها العداوة والأعداء، وجعلها بصورة من الصور ساحة نفوذ ومجال صراع لقوى وإرادات آخرين لا يريدون بها خيراً أو لا تعنيهم سوى مصالحهم ومصالح حلفائهم في المنطقة. لقد مُزِّق البلد شر ممزق، ولن ينجح أي فريق منكم في أن يستأثر بالوطن ويلحقه بملكه أو في أن يقتطع منه قطعة يشكلها وطناً أو يضعها تحت تصرف من أوحى له بأنه قادر على أن يكون وطناً.. لا تعيشوا الأوهام ولا تصدروها لشعبكم فقد أهلكته تلك السياسات والمبالغات وأهلكه ساسة يسوقون له الوهم ويجعلونه يدفع ثمنه غالياً.    

كنا في ما مضى من الزمن نتحدث عن مشروع نهضوي عربي، فأين كنا وأين أصبحنا؟! وهل تحول المشروع أم تحولنا نحن واختلفت طينتنا وجبلّتنا نحن، أم أن التغيير في الموسم الربيعي المنشود أتى على طبائعنا وأصولنا وأهدافنا وعقولنا بعد أن عمق مواجعنا وأسال دماءنا أنهاراً وألقانا في البؤس والتيه؟! كان المشروع القومي العربي الذي كنا ننشده مشروعاً تحريرياً للأرض والإرادة والاقتصاد والقرار السياسي من كل أشكال الهيمنة الاستعمارية وتحرير الإرادة والقرار من الاستلاب والقهر، وتحرير الإنسان من الاستبداد والفقر، والتخلص من التبعية الثقافية للمركزيات الأوربية على الخصوص ومن رسيسها أياً كانت ألوانها، ومن تبعيات أخرى تأتي على جذور الأصالة والهوية والشخصية العربية وظواهر الانتماء بمفهومه الأصيل العميق.. وتحريرٍ للإعلام والمعلومات من حصْرية التدفق عبر قنوات غربية صهيونية لا غير، "وكالات أنباء على الخصوص" وفي اتجاه واحد في أكثر الأحيان، ومن ثم تحرير أوسع للعلاقات والمصالح والتبادلات والثروات، وتحرير للشخصية العربية بصورة عامة مما يعوقها ويقمعها ويرهبها ويعوق انطلاقها وقدرتها على الأداء بإبداع، أي تخليصها من الجهل والإحباط والقمع والاضطهاد والجاهلية والأمية بنوعيها: "عدم القدرة على القراءة والكتابة وأمية ثقافية أو معرفية عامة".. إنه مشروع تحرري تحريري بالمعنى الروحي والمعرفي العميق، يشمل تحريراً للفكر والسلوك العربيين من رواسب وسلبيات وقيود وعادات وتقاليد وأنماط تفكير وعمل وسلوك وتعامل قديم ومعايير وقيم بالية أو دخيلة فاسدة، وينصب على تجديد للمفاهيم وتحديد للمصطلحات وفتح أبواب الاجتهاد وأبواب الحوار والمجادلة الحسنة باحترام، ونبذ للغوغائية ونهجها وسدنتها وللهمجية بأشكالها.. فقالوا لنا هذا هو التيه والسير وراء السراب، وعدلوا بنا عن ذلك المسار وعن تلك المسيرة لما قالوا إنه الواقعية والخير.. وإذا بهم يزجوننا في التقزيم والتمزيق والتهديم والتشرذم والتشرد والموت وألوان من الطغيانية والتبعية والارتهان للغرب الاستعماري ولغيره من القوى لكي نستبدل ذلاً بذل وتخلفاً بتخلف وتبعية بتبعية.. فهل إلى هذا يساق الناس ويقتلون؟ وهل المشروع الحضاري النهضوي الجديد المجيد؟! كان المشروع الحضاري النهضوي القومي بنظرنا هو ذلك الذي يتركز أساساً حول موضوع الوحدة والعمل العربي المشترك والاستنهاض العربي العام في نهضة علمية عملية معرفية اقتصادية شاملة متكاملة.. مشروع ينصب على تحقيق تقدم علمي نظري وتطبيقي في مجالات مدنية وعسكرية، وعلى اكتساب الرؤية والقدرة على التكامل، والتعامل مع معطيات عصر الفضاء والمعلوماتية والهندسة الوراثية والأسلحة البيولوجية والنووية والعلوم المستقبلية مثل " النانو" وسواه لتحقيق توازن مع القوى المعادية من جهة والاستجابة الحيوية الضرورية لتحديات العصر والعلم والمستقبل التقدم الحضاري من جهة أخرى.. 

لقد كان المشروع القومي من منظورنا نحن الذين تعلقنا به مذ كان عاطفة مشبوبة وحلماً متوهجاً في الوجدان وتطلعاً تبنى عليه الآمال والتطلعات كان: وحدةً تؤسس للقوة، ووعي يؤسس للحرية، وحرية تؤسِّس للتحرير والإبداع والعيش بكرامة، وعدالة اجتماعية تؤسَّس على نظام يؤدي الغرض ويحقق صلابة البنية الاقتصادية واقتدارها.. وكنا كما قيل لنا " حالمين واهمين مهرطقين..إلخ" فما الذي آل إليه حلم الواقعيين اليوم؟ إنه حلم اجتماع الزواريب على التقاتل أو الاتفاق على إدارة التنازع.. بجهل وجاهلية وعنتريات " أهلية" فهل هذا حلم وتطلع وأفق لشباب أمة يريد أن يقيم قوامها على أنقاض أحلام القوميين المنهارة؟! لقد آل المد القومي إلى انحسار، والحلم القومي إلى انكسار، وآل الأمر إلى فئات وجهات وتنظيمات وسياسات قتالة، في ظل قوقعة قطرية تشكل صيغة اعتراضية على النزعة القومية والدعوة القومية معاً وحتى على الفكر القومي ذاته.. قوقعة تحرسها أنظمةٌ مدججة بقوةِ السلاح، ومؤسسات عربية ودولية تتدخل لتفرق وتمزق أو تميت، وتحالفات واتفاقات حتى مع الأعداء على الأشقاء، واستعداد للتعاون مع الشيطان ضد الشقيق والأخ، وتفعيل مبدأ السيادة " الأنا المتورمة أولاً" في وجه كل توجه أو أداء أو قرار قومي حكيم قويم سليم، واستكانة أمام التدخل الأجنبي المباشر وغير المباشر وأمام أشكال الاحتلال المموه بشكليات سيادية كرتونية مزخرفة، بل استجداء ذلك التدخل واستدعائه ومناصرته وتمويله للفتك ببعض قوى الأمة ليأتي من بعد دور القوى المتبقية منها، كل حسب وقته.. وتحويل جامعة الدول العربية إلى دثار وستار للاستعمار.

 

وإذا كانت التحديات التي يطرحها الوضع العربي الراهن، لا سيما في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والأمنية على الخصوص، مما يثقُل على المرء عند التأمل والتدبر، لما فيه من مهالك أنتجها فساد الرأي والرؤية وقصور قيادات عن تحمل المسؤولية ولا نتطلع إلى الريادة، ولما فيه من انحياز إلى الفتنة والانقسام، ومن قصور وضعف وتنافر بلغ حدود التآمر والاقتتال المدمر الكريه.. فإن ما نعيشه من أوضاع مأساوية تنذر بمزيد من الكوارث والمواجهات الدامية وتضع البعض منا أمام اليأس والاستسلام أحياناً، وتثقل كاهل الكثيرين بالهم والإحباط والبؤس، وتترك شريحة لا يستهان بعددها، تعطي ظهرها للواقع وللحلم والأمل والهدف وحتى للمبادئ الخلقية والقيم القومية والوطن الضيق، وتقول نقبل بما يُعطى لنا من فتات.. فإن التصدي لذلك كله بمشروع طموح خلاق، بواقعية وتصميم ورؤية تتكامل بجهد الجميع، لم يعد منه محيص وليس له بديل.. ولا يبدو أن العاملين في حقل السياسة المهلكة اليوم من " سلطات ومعارضات" ومتعيشة على هامش السلطات والمعارضات، يمكنهم أن يسيرون في طرق آمنة توصلنا إلى أمن من جوع وخوف ، فضلاً عن التقدم والنهضة.. وما نعيشه اليوم ينذر بأن الآتي ع سيكون أكثر من كارثي بكل المقاييس.

إن من المؤلم أكثر وأكثر في وضعنا الراهن أن المعنيين لا يشعرون بالقلق الايجابي حيال ما يجري، وأننا نخوض في الدم وكأننا نخوض في الماء، ونتفرج على الحرائق ونقول إنها لم تأت بعد على كل شيء ولم تبلغ بعد البلدان المجاورة أو أنها لم تبلغ بعد بيتنا، على الرغم من رؤية شررها يقدح في كل ركن من أركان وجودنا. إننا ننساق مع التيار من دون أن نشعر بالمخاطر التي ينطوي عليها الانسياق، ولا بقيمة الزمن الذي يمضي ويؤسس للكثير مما يمكن أن يكون نافعاً أو ضاراً، حسب استفادتنا من الزمن، ولا نكترث لضرورات التحرك بأقصى السرعة للجم الفتنة ومنع الكارثة واللحاق، إذا لحقنا، بآخر عربات قطار السلامة الذي يغادر محطاته متوجهاً بالبشر إلى مرحلة جديدة من عصر التقدم المذهل الذي نمر فيه.

نحن خارج حدود القلق الخلاق، أي خارج حدود المعرفة الواعية بالخطر والخير والشر، وخارج حدود المسؤولية الأخلاقية والوطنية العليا، وخارج حدود الشعور المؤثر بما يسبب الدمار والاندثار، وخارج دوائر التبصر بالخطر الناتج عن تجييش العباد في صفوف الفتنة.. وتلك من أكبر السلبيات التي علينا أن نواجهها، فيما إذا أردنا أن نبقى لكي نتطلع بفاعلية وأملٍ وإيجابية إلى حلمنا بما كان مشروعنا القومي الحالم والتحديات التي تواجهه ونتخلص من المشروع الواهم الذي نخوض مخاضات الدم على طريقه، ولذا وجب التأكيد على من يخوضون في الدم ويتسببون في القتل والفتنة أن يتركوا فرصة للحياة والأحياء باستراحة يأخذونها ليرتاحوا ويريحوا.

 

دمشق في 5/3/2013