خبر الوطن والثقافة ..علي عقلة عرسان

الساعة 11:27 ص|04 يناير 2013

 

شفي وطن ترتكز فيه وحدة الثقافة على وحدة اللغة وعلى تجذرها عميقاً في المعرفة الإنسانية والوعي والوجدان والتاريخ، وحملها لرصيد الذاكرة والخصوصية عبر العصور، وتتجذر فيه أيضاً التجزئة القطرية والنزعة الإقليمية وبعض الشعوبية والتبعية الثقافية، منذ قرون، وتواريخ أنظمة وسطوة سياسات وطائفيات وأقليات، يصبح من الضرورة بمكان، بعد الذي صار والذي كان، أن نتوقف عند مصطلحات وتوجهات كنا نمر بها مرور الكاره المتجافي عنها، ونصدر عليها أحكاماً عارضة تبقى في حكم العابر من الأمور.

إن ما نقبل عليه من تحديات للثقافة العربية ولمقومات الوجود العربي وقيمه في هذا العصر يقتضي أن نتشبث، أكثر من أي وقت مضى، بما يؤكد هويتنا ووحدة توجهنا وحرصنا على أن يكون أداء الفعل الثقافي المقاوِم أداء متميزاً، في مرحلة لم يبق فيها إلا بعض صوت الثقافة العربية الأصيلة المحصنة بانتماء مؤهلاً للدفاع عن الثوابت المبدئية والقضايا والقيم القومية والأبعاد الاجتماعية والتاريخية والأخلاقية للأمة عبر وجودها، بعد أن اكتسح "الإمبريالي-الصهيوني" حدود السياسة والثقافة العربيتين وأطاح بالكثير محرماتهما ومقدساتهما وثوابتهما وولاءات الكثير من العرب لهما، وجعلهما من خلال ساسة ومثقفين وغيرهم.. تركضان في ركابهْ لاهثتين وراء الاعتراف به حامياً وملهماً ومنقذاً وسيداً ومعلماً ومحركاً، والإقبال عليه بهذه الصفات والمواصفات مهيمناً، وتطبيع العلاقات معه ليقبل اللاهثين وراءه من أبنائهما بوصفهم ممثلين لهما "سياسة وثقافة".

مصطلحات مثل: "الثقافة الوطنية"، " الديمقراطية الشعبية أو المركزية أو.." الرجعية.."، " الأممية.. "، " العلمانية بمواصفات الإلحاد.."، " الليبرالية بمواصفات التبعية"، " الواقعية بمواصفات ومذاقات أيديولوجية وسياسية خاصة"..إلخ، وغير ذلك كثير من تلك المصطلحات التي لُهِجَ بها وشكلت تاريخاً يقوم بحكمه وعلى أساسه وبتأثير منه تقويمٌ نقدي أقرب إلى الحكم والتصنيف السياسي والثقافي منه إلى النهج النقدي الموضوعي والمقاربة العلمية والوصف المنهجي أو التصنيف الثقافي الموضوعي العام بمنهجية علمية تسود في التواصل والتعامل مع الأداء السياسي وأنظمة الحكم ومع والإبداع الأدبي والفني ومع الفكر والمعطى الثقافي في إطار خصوصيته وبيئته وانتمائه لأمة ذات تاريخ عريق في الثقافة، ولمقومات وقيم وثوابت تتصل بالأجناس الأدبية والإنجازات الفنية والمدارس الفكرية من جهة وبهوية أمة ونضالها الذي يتجلى في إبداعها.. هذه المصطلحات وما نتج عنها وبتأثير التعصب لها والتحجر في فهم متكلس لها وفرضها معايير.. تحتاج إلى مراجعة هي وكل ما نشأ عنها لتستقيم أمور كثيرة ومنها أمور تربوية وإبداعية وأخرى سياسية وثقافية واجتماعية.

وقبل زمن المراجعة الشاملة الذي حل في أرض البشر بأشكال شتى ولعوامل وأسباب شتى منذ عقدين من الزمن على الأقل، وما زال في تفاعل وتطور وتغير، وطالت مراجعته ومناحي التغيير الجذري فيه: سياسات وإيديولوجيات ومن ثم في مدارس فكرية ومعطيات اجتماعية وتوجهات ومناهج اقتصادية واستراتيجيات أمنية وعسكرية.. وأسفر عن انهيار تكتلات وأحلاف وتوجهات اقتصادية وثقافية وفكرية ونشوء توازنات وتحالفات جديدة.. كان المتمسكون بأحكام تعسفية تستند إلى تلك الأيديولوجيات والمصطلحات يرسخون تراتبيات وأحكاماً، ما زالوا عليها وما زالت تحتاج منهم إلى شجاعة تفضي بهم إلى المراجعة على أسس علمية وواقعية ووجدانية. وسوف أقارب هنا مصطلحاً واحداً منها، مصطلح " الثقافة الوطنية"، فمن يصنفوفن الناس وفق تحديدهم لمفهومه، يرون أن من حقهم فرز الناس على "طبلية" ليكونوا قمحاً وزؤاناً، وطنيين وغير وطنيين، "منا، أو "أعداء لنا".. فمن كان "منا تنظيمياً" فهو من "يجسد الثقافة الوطنية" حتى لو عادى الوطن وثقافته، ويصنف مفكراً أو مبدعاً في مجالها حتى لو يمت أداؤه الأدبي والفني والفكري بصلة متينة إلى الإبداع الحق والوطنية وفق المعايير والمفماهيم المنهجية والنقدية ووفق القوانين والأعراف الاجتماعية التي تحدد مفاهيم الوطن والوطنية والإبداع.. إلخ.. ومن كان ليس "منا تنظيمياً" ولا معنا " ميليشياوياً" فهو عدو لنا وليس "وطنياً ولا صلة له بالإبداع والمواطنة؟!".. ولا توجد أنصاف حلول أو ظلال وأشباه ظلال حتى ولا ألوان عدا الأسود والأبيض عند ذلك الفريق الذي شوه بتعصبه الكثير وما زال مفعول مغالطاته - أحكامه تلك سارياً، وتغلغله قائماً وحتى طاغياً ويتسلل بمهارة وتمويه متقن إلى مواقع إلى مراكز ثاقافية ومنابر إعلامية عربية تولت الحكم على كل شيء من السياسة إلى التعاسة مروراً بالعلوم والآداب والفنون ومكونات الحياة، ويتمترس فيها أو ينخرها من الداخل.

وكان مصطلح "الثقافة القومية" يحارب " بوصفه نقيضاً أو مضاداً للثقافة الوطنية" حتى في دار القوميين من العرب، وفي مرتكزات وجودهم ومنابر التعبير لديهم، ويُعد كما تُعد ثقافتهم "شوفينية" تُجرّم، وذهبت عمليات غسل الدماغ في حالات إلى الحد الذي وصل معه مسؤولون عن الثقافة القومية إلى حدود تبنيّ مفاهيم ومعايير المصطلح الآخر المعادي لهم ولمفاهيمهم، وتطبيقه على الإنتاج والتوجهات والأشخاص حتى لو كانو من فريقهم ومن توجههم، ذلك لأنهم غرقوا في لجة أولئك وأخذوا بضجيجهم، فمنهم من تبعهم ومنهم من خاف أن يواجههم ومنهم من تشربهم لجهل فيه أو لخشية من التصنيف أو طمعاً في تزكية والحصول على هوية من نوع ما..؟!، فعلوا ذلك مع إبقاء "الكلمة-الشعار.. القومية.." الذي يخصهم دريئة معلقة في فضاء الكلام والحكم والمنبر بينما العمل والفعل يتمان باتجاه مغاير.. وانتشرت أفكار ومقولات من مثل:"الثقافة القومية" أي العربية "شوفينية"، والثقافة الوطنية أوسع منها وأكثر دقة وإنسانية"؟! وكأن الثقافة العربية في مداها القومي أضيق من القطري " الوطني جغرافياً" ومنعدمة الجذور أو ماهيتها إنسانياً؟! مع العلم أنها أسست على البعدين العريقين العروبة والإسلام، وأنتجت في ظل ذلك الثقافة الأكثر إنسانية في مداها، بعيداً عن تشنج بعض المتشنجين وتبعية بعض " القوميين" من العرب لمدارس معادية لقيمهم وهويتهم من باب الانفتاح والأممية.

عندما ما تسمع هذا الكلام: "الثقافة القومية.. أي العربية، "شوفينية"، و"الثقافة الوطنية" أوسع منها وأكثر دقة وإنسانية" في هذا الوقت، تنظر وراءك وأمامك وإلى ما فوقك وتحت قدميك غير مصدق لما يجري من سحق الباطل للحق وانسحاق الأصيل أمام الدخيل والهجين، وتتساءل ألم تحقق كل تلك النكبات والكوارث التي حلت بالعرب، والمتغيرات الدولية الشاملة التي طالت العالم كله ومعظم ما فيه .. ولو معطى واحداً يدخل إلى ساحة الحكم "سياسياً وثقافياً واقتصادياً واجتماعياً" في وطننا العربي ليسوِّغ إعادة النظر في المصطلحات والقضايا والأحكام المبرمة المغرقة في تعسفها ومجافاتها للصحيح والسليم والقويم.. التي صدرت من أولئك " الحكام - القضاة" المستبدين الذين يعلون بالجهل وتعلوا بهم ذرى الانتكاسات والممارسات المغلوطة والتشوه في الحكم والأداء والإبداع!؟ أم أن "العصمة النوعية المحتكرة" التي لا يمنحها فريق منهم حتى للأنبياء، مازالت تجرجرنا على الشوك ونتلذذ بنزف دمنا معتبرين ذلك تزييناً للحرير الذي نرفل فيه.. يدفعنا إلى تحمل ذلك "صبر ضاق بنا، وشجاعة تتطلب نقضها الشجاعة الأدبية الحقة التي نحتاج إليها، وثبات على المبادئ والمواقف ليست هي المبادئ ولا المواقف"؟!.. نفعل.. حتى لو كان من تلك المواقف ما ثبت بطلانه وظهر ما وراءه من جهل وتجلت عداوته لكل ما نمثله ويمثلنا، وبان الخطأ فيه، وتراجع عنه العالم، بما في ذلك منابعه ومراجعه، ويستدعي منا ومن حامليه على الخصوص امتلاك شجاعة المراجعة والتصحيح ليخرجوا من عتمة الشرنقة إلى رحابة الفضاء.. لكي يقوم تاريخ على حقائق، وتستقيم مفاهيم ومعايير وأحكام على إنتاج وتوجهات وأشخاص.. فيساهم ذلك كله في إعادة النظر في التراتبيات القائمة والممارسات والمسلمات المريضة، ويكون له دور في سياسة أقرب إلى الرشد، وأحكام أقرب إلى الحكمة والعقل والمنطق والإيمان، وفي تربية أجيال تكون أشد انتماء لأمتها وأكثر اعتزازاً بهويتها وأعمق إدراكاً لما يجمعها ويقويها ولما يضعفها ويفرقها ويتسبب في مآسيها.. وينشأ عنه فهم أسلم وذوق أصح وأرقى، يضع السياسيات والأفكار والآداب والفنون والأفعال والأقوال والأشخاص والقادة والأبطال في مواقعهم ومراتبهم الحقيقية، في كل مجالات الحياة والكفاح والإنتاج والإنجاز والإبداع والعمل.

في الوطن العربي، حيث تسود الثقافة العربية في جسم اللغة، الذي يظلل الجغرافيا والتاريخ منذ قرون عديدة، في هذا الوطن مصطلح "الثقافة الوطنية" يتعارض تعارضاً جذرياً مع الواقع الحي للثقافة العربية الواحدة، ومع التطلع القومي-الوحدوي، ومع النضال التحرري المقاوِم الذي نخوضه ضد أشكال التبعية والغزو الثقافي وضد الاحتلال والاضطهاد والاستبداد والفساد والإفساد والعنف الدموي والإرهاب.. إلخ، ومع الفهم الصحيح والتطبيق السليم للوطنية والديمقراطية والمعارضة وتداول السلطة ومقوماتها ومعاييرها. وهو مصطلح يرتبط بإيديولوجيا وتوجيه سياسي وينبع منهما، وهو من ثمة مقولة سياسية تستند إلى حكم وموقف مسبقين وتتعارض مع حقيقة الثقافة والمعرفة التي تقول بالانفتاح وإعمال المنطق وتقبل الآخر والتفاعل مع التطور والنمو والتغيير في حياة هي حركة مستمرة تحمل التغيير ولا تعرف السكون الذي هو نوع من جمود لا يتماشى مع الحياة، فضلاً عن تعارضها مع توجهات شعبية عارمة تملأ الشارع في كل أقطار الوطن العربي، حيث السياسات الضيقة والأنظمة المتقوقعة على ذاتها تريد أوطاناً ولا تريد وطناً، وتريد قطعاناً "وشلايا" ولا تريد أمة  وشعباً واعياً موحد النسيج والأهداف والمصالح والسياسات، لـه مبدأ وحرية وحقوق ومواقف يفرضها ومطالب ينادي بها ومظالم يشكو منها وبسببها.

وعندما ندقق في مفهوم المصطلح الذي قاربناه: "ثقافة وطنية" وفي أبعاده وتفسيراته ورؤية بعض أهله له على أنه "يحتوي الثقافة القومية" بمعنى الإذابة والإلحاق، ندرك أن "الثقافة الوطنية" حسب ذلك المفهوم تؤسس للاعتراف بثقافات تمزق المجتمع الواحد والقطر الواحد، وبتوجهات سياسية ونزعات انفصالية أو تفتيتية نحو ما يسمى بحق تقرير المصير للأقليات العرقية والدينية والطائفية والمذهبية.. أي أنها تعمل على تعدد متنافر ممزق يضعف الوطن، يشمل اللغات والثقافات والنزعات الضيقة داخل البلد العربي الواحد، وتجمع هذا تحت غطاء "الوطنية" أو ستارها، ليتم "تعايش ملغَّم " بين مكونات متنافرة لثقافة البلد الواحد التي هي ألوان في لوحة واحدة لا تكتمل ولا تتزين ولا تدهش إلا بتلاحم أجزائها ومكوناتها وقيمها الجمالية. إن هذا التوجه يخفي نزوعاً عدوانياً إتلافياً تقسيمياً تقف وراءه دول وأجهزة خارجية ومرتبطون بها، ولا يلبث أن يعلن عن ذاته عند اللزوم، كما يخفي توجهاً شعوبياً ضد اللغة والثقافة والعروبة والإسلام، وضد القومية العربية ذات الأفق الإنساني المشهود له من المنصفين العارفين على الخصوص.. تلك التي نراها منقذ الأمة وجماهيرها، ومحقق تطلعاتها وأهدافها في الوطن العربي الكبير.

وإضافة إلى ذلك فإن المصطلح " الثقافة الوطنية" ينطوي على حكم سياسي أخلاقي سلبي، تجريمي أحياناً، لاسيما حين يصنف الإنتاج الثقافي والإبداعي والمنتجين انطلاقاً من مسطرته الخاصة "السياسية- الفكرية- النقدية" الهجينة إلى "وطني" و"غير وطني".

الوطنية بمفهومها الدستوري والقانوني والسياسي والاجتماعي والأخلاقي، تصبح عند ذلك عرضة للمنح والمنع من قبل شريحة تأخذ بيدها عشوائياً واعتباطياً: المعايير والأحكام والقضاء والوجدان الجمعي في آن معاً، وتمارس ممارساتها الغوغائية تلك ضد الآخرين اعتقاداً منها بأنها على حق، وأنها أعلى وأوعى وأعلا، وأنها تخوض نضالاً شريفاً و"وطنياً" ضد من لا يوافقونها ولا يتفقون معها في الراي والرؤية ولا يتبعونها بعماء وعمه، منطلقة من تعصب وتطرف يجعلانها تقول " الديمقراطية لنا وليست لأعداء الشعب"، أما من يحدد أعداء الشعب ويضع لذلك المعيار ويصدر الحكم فـ " نحن" عريضة وطويلة وبلا ضفاف؟! وهكذا تصبح تلك الشريحة، بنظر أهلها، "معصومة" بقوة "سحرية" لا يدرك مداها ومصدرها إلا مخترعوها.

وبعيداً عن الدخول في تفاصيل ذلك وأسبابه وما أدى إليه من خلل خطير جداً جداً في الحياة الثقافية بشكل شامل ومن ثم في تأثيرها المتعدد الوجوه على السياسة والتربية والاجتماع والممارسات المتصلة بالمواطنة وحقوقها وواجباتها.. إلخ، فإن هذا النوع من الفعل لا يبني مجتمعاً متآلفاً من جهة، ولا يقوم على قاعدة علمية - عقلية – أخلاقية، اجتماعية - وطنية - قانونية، أدبية- فنية- فكرية.. سليمة وبناءة ومستقرة من جهة أخرى، كما أنه لا ينبع من أرضية ثقافية وتاريخية صحيحة، تتصل بجغرافية الوطن وتاريخه وتراثه وسلامة الانتماء إليه والإخلاص له والنهوض به.

من الصعب القبول بحكم "غير وطني" على مثقف أو مبدع أو مفكر أو حتى سياسي لمجرد أنه يخالفك الرأي والاعتقاد والتوجه والإيديولوجيا، وينطلق من اجتهاد مغاير لاجتهادك لتحقيق ما يراه وطنياً وصواباً، في الوقت الذي يشاركك فيه المواطنة وواجباتها وأعباءها، ويدفع دمه عند اللزوم دفاعاً عن الوطن أو بسبب بقائه في الوطن، وقد يكون أقرب منك إلى مفاهيم المواطَنة الحقّة ومعاييرها لأنه لا يستورد قضاياه ومفاهيمه ومعاييره، ولا ملجأ له إلا وطنه وشعبه، ولا يبيع أو يشتري في السوق، فالوطنية ليست بضاعة لديه ولا تجارة ولا جسراً للعبور إلى المكاسب والشهرة والمناصب.

دمشق في 4/1/2013

                                                       

                علي عقلة عرسان