خبر كلمات مشتعلة من مخيم اليرموك ..علي بدوان

الساعة 04:06 م|28 ديسمبر 2012

أكتب كلماتي هذه وأنا بين أزيز الرصاص وأصوات قذائف الـ"B7" في مداخل مخيم اليرموك الفلسطيني جنوب دمشق وحتى ساحة "الريجي" المعروفة في المخيم، وتحديداً في الحارة الأولى في مخيم اليرموك المسماة بـ"حارة الفدائية"، نسبة لوجود أعداد كبيرة من شبابها من الذين التحقوا بالعمل الفدائي الفلسطيني منذ العام 1965.

أكتب كلماتي من مخيم اليرموك في عتمة هذا الليل والبرد القارس ولا أعرف إن كُنت سأبقى على قيد الحياة حتى يوم الغد، حيث القصف الشديد والرصاص يخترق الفضاء المحيط بمنازلنا، ونحن نكتب باستخدام محول تخزين كهربائي (شاحن) يعمل على البطارية.

أكتب كلماتي، وقد صَمّت أذني دوي القذائف المتقطعة وهي تلعلع وتثير الرعب والهلع عند من يسمعها، ولكن قدرنا كفلسطينيين أننا سمعنا أصواتها وتعودنا عليها وعلى أصوات كل قذائف الموت اللعينة منذ زمن طويل هو زمن الاشتباك في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وخصوصاً أثناء حصار بيروت صيف العام 1982 عندما كنت شاباً جامعياً من بين الألوف المؤلفة من أبناء شعبي في صفوف منظمة التحرير الفلسطينية.

فكيف نحن الآن في مخيم اليرموك وتحت أزيز الرصاص، وكيف نقرأ ما جرى ويجري عندنا ونحن في عين العاصفة؟

تغريبة فلسطينية جديدة
في البداية، لا بد من التذكير بأن الشعب الفلسطيني في سوريا قد اشتق لنفسه منذ بداية الأحداث في الأزمة السورية الداخلية، موقفاً متوازناً، أخلاقياً، ووطنياً، وقومياً في الوقت نفسه، وقد بنى أَعمدة موقفه بإجماع وطني بالرغم من وجود اجتهادات ومواقف لبعض القوى كان بعضٌ منها يغرد خارج السرب، إلا أن ضغط الشارع استوجب من الجميع بناء الموقف المتوازن إياه، انطلاقاً من المصلحة الوطنية العامة لعموم الشعبين الشقيقين السوري والفلسطيني، اللذين ربطتهما على الدوام علاقة أكبر من أن تفرق بينهما، فهما في نهاية المطاف شَعبٌ واحدٌ في بلاد الشام التي قسمها وفرقها الثنائي (سايكس-بيكو) عام 1916.

 

وعليه، فإن مخيم اليرموك وفضاءه الفلسطيني كان حتى الأيام الأخيرة ملاذاً آمناً لأشقائه من أبناء سوريا من مناطق التوتر المحيطة به، وقد قدم لهم كل ما يستطيع من رعاية وخدمات تامة وحضن دافئ لشعب شقيق كان قد مد يده لشعبنا بكل ألفة ومحبة عام النكبة عندما دخل إلى سوريا نحو 90 ألف لاجئ فلسطيني من شمال فلسطين، من لواء الجليل ولواء حيفا ولواء يافا.

صمم أبناء المخيم أن يبقى اليرموك ملاذاً آمناً للجميع، فكان السعي المستمر لإخراجه خارج مفاعيل الأزمة السورية، مع مبادرة مواطنيه للعب دور إيجابي في مسار الأزمة السورية. فمخيم اليرموك، وحساسية تموضعه الجغرافي كحي كبير ملاصق لمدينة دمشق من جهة الجنوب، فرضت على الجميع الانتباه لضرورة بقائه خارج إطار ما يجري، وقيام مواطنيه بلعب دور إيجابي على صعيد إغاثة ومساعدة أبناء المناطق المجاورة على كل الأصعدة وبكل السبل المتاحة والممكنة.

أحداث مخيم اليرموك الأخيرة، جعلت معظم سكانه يغادرونه على عجل منذ يوم الاثنين الواقع في السادس عشر من ديسمبر/كانون الأول 2012، حيث اشتعلت الشوارع الرئيسية في المخيم ومداخله الجنوبية والشرقية بالاشتباكات العنيفة، التي ترافقت مع هطول القذائف العشوائية من مدافع المورتر(الهاون).

مشاهد خروج الناس عبر المدخل الرئيسي للمخيم من شارع اليرموك نحو مناطق قلب مدينة دمشق، كانت حزينة ومُبكية، ومثيرة للألم في رحلة لجوء ثانية وتغريبة فلسطينية جديدة، استحضر معها الفلسطينيون آلام الماضي وهوان اللجوء وذله. فقد كان من بين هؤلاء الناس الخارجين من مخيم اليرموك من كان طفلاً أو شاباً ممن شَهِدَ نكبة العام 1948، في صورة كادت تكون مُطابقة لأهوال النكبة التي ما زالت تجرجر مآسيها على الشعب الفلسطيني في "دياسبورا" المنافي والشتات.

"باني كون" والدخول على الخط
كاتب هذا السطور خرج لساعات محدودة من المخيم لإخراج والدته التي بلغت من العمر عتياً (90 عاما)، لإيصالها لمنطقة آمنة في مدينة دمشق، وهي التي كانت من بين ألوف الفلسطينيين ممن عاش النكبة ولحظات الخروج من مدينة حيفا في الثاني والعشرين من أبريل/نيسان عام 1948.

عودة كاتب السطور كانت سريعة لمخيم اليرموك مع غيره من أبناء المخيم، فهو الحضن الدافئ والوطن المعنوي لنا، الذي لا يستطيع أي من أبنائه أن يعيش دون وجوده داخله وبين شبابه وشبانه ومواطنيه الفلسطينيين والسوريين على حد سواء.

هو مخيم اليرموك، مخيم الفدائيين، أول الرصاص، وأول التحدي الفلسطيني في مسيرة الثورة الفلسطينية المعاصرة. مخيم ينبض بالحياة ليل نهار. فكان على من بقي في المخيم، من شبابه ونشطائه، وبالتعاون مع الهيئات والجهات الفلسطينية الموجودة بدمشق، أن يعملوا سوياً لإعادة الأمور كما كانت عليها في المخيم، ودعوة كل القوى والفصائل للمبادرة من أجل دفع من خرج منه للعودة إليه، وبنفس الوقت إجراء كل الاتصالات الممكنة وعلى أعلى مستوياتها من أجل إنقاذ مخيم اليرموك، ومنع التطاحن الدموي في شوارعه ووقف القصف عليه. وقد وصلت تلك الاتصالات للأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، عبر وكالة الأونروا وعبر الجهات الفلسطينية المعنية، إضافة لتدخل المبعوث الدولي في سورية، الأخضر الإبراهيمي، مع الجهات السورية المختلفة ومنها قيادات المعارضة في الخارج كما تشير المعلومات المتوفرة والمؤكدة بين أيدينا.

إن كل تلك الجهود أسفرت حتى هذه اللحظة عن تفادي معركة كبرى طاحنة، كان يُتوقع لها أن تَذهب بالمخيم من الوجود -لا سمح الله- حال وقعت. وهو ما يتطلب دفع عموم الفصائل والقوى لمواصلة اتصالاتها لإخراج مخيم اليرموك من دائرة العنف، وإعادته كما كان ملاذاً ومتنفساً آمناً للجميع.

رغم القذائف والرصاص لن أغادر
وفي هذا السياق، عملت مجموعة من الشباب والنشطاء ممن بقي في المخيم على تأسيس لجنة داخله، والتواصل بين أعضائها لفتح طريق العودة للجميع. فقد كان لزاماً على تلك المجموعات أن تبادر لالتقاط اللحظة، ومغادرة الخلل، والإسراع بإنقاذ الموقف، فكانت فكرة الدعوة للعودة الجماعية للمخيم لمن هم خارجه، حتى تحت نيران القصف حال وقوعه فوق رؤوس الناس.

 

نجحت الخطوة التي انطلقت دعواتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكة الهواتف الأرضية والجوالة، فكان عملها المثمر الأول أن قامت بالتحشيد لمظاهرة العودة للمخيم عبر وسائل الاتصال المختلفة، في مسيرة اخترقت المخيم عبر شارعه الرئيسي "المقنوص بالرصاص" بمظاهرة عارمة شارك فيها عدة آلاف من أبناء المخيم من شباب ونساء وفتيان وفتيات، وحتى من الكهول. وكانت تلك المظاهرة بداية العودة لأكثر من 65% من أبناء المخيم، والتي يُعمل من أجل أن تتواصل خلال الأيام القادمة لإعادة جميع من غادره من أبنائه ومواطنيه، رافعين شعار:
أنا لن أغادرْ!
رغم القذائف والرصاصِ
وحقد قنَّاصٍ وغادر ْ

وفي هذا السياق، فإن لواعج ما وقع، ما زالت تعتمل وتشتعل في أفئدة جميع أبناء المخيم الذين وجدوا أثناء دخول المظاهرة الأولى، وعلى مداخل المخيم، جثة مواطن سقط برصاصات غادرة، وقد تبين أنه مواطن سوري من سكان مخيم اليرموك. فكان لزاماً علينا أن نحمل جثمانه في مسيرتنا، وقد "سَجّيناه" على شبكٍ لعرض منتوجات تجارية اقتلعناه من على بوابة محل تجاري مغلق، وسرنا به إلى مدافن شهداء فلسطين في مشهد حزين ومؤثر، تعالت فيه زغاريد بعض النساء الفلسطينيات وهن يرددن "يمّ الشهيد لا تحزني.. كل الشباب ولادك"، فيما ردد الشبان أهزوجة وطنية تراثية فلسطينية "يا عين ابكي حزينة.. شهيد فوق أراضينا".

لقد كَسَرَ مخيم اليرموك بمعادلته الوطنية حلقةً صعبة كادت أن تودي به، ونجح أبناؤه وهيئاته الوطنية وعموم فصائله -"بالرغم من تقاعسها وافتقادها لتقدير الموقف في أوقات "سابقة"- في اجتياز الاختبار الأولي. وبقي على الجميع متابعة الجهود في إطار عملية إنقاذ مخيم اليرموك، وإنقاذ شعبه وأبنائه وكافة مواطنيه، وعودته كواحة آمنة للجميع في ظل مرجل الغليان السوري.