خبر الأخضر.. فرع الزيتون .. د. علي عقلة عرسان

الساعة 11:58 ص|25 ديسمبر 2012

 

 

هل صحيح أن الأخضر الإبراهيمي يحمل إلى دمشق رؤية متفق عليها بين الأميركيين والروس، تؤدي إلى حل سياسي للأزمة السورية المتفاقمة، أم أنه يحمل ألغاماً بين سطور الكلام " الاتفاق" تفجر مهمته كما تم تفجير مهمة سابقيه الدابي وعنان؟! إذا مررنا على سطح الموقف والكلام المتداول نلمس مثل هذه التوجهات والمعاني الرامية إلى حل ويمكن أن نأخذ هذا القول على محمل الجد، أما إذا ما ذهبنا إلى أبعد من السطح فإننا نجد أننا في " مكانك راوح" كما يقال، أي أننا بمواجهة مواقف جامدة ما زالت على حالها تقريباً من أطراف معنية فعلياً وفاعلة عملياً في الأزمة والحل، أعني الروس والأميركيين، ولكنها مدخولة بطلاء زيتي لزج.. مواقف تقول بعد اجتماعات جنيف الأخيرة بحل سياسي للأزمة على أساس قراري مجلس الأمن الدولي رقم 2242 و2243 ونقاط عنان الست وبيان جنيف، ولكن التفسير يقتضي الدخول في التفاصيل وهنا يرفع الشيطان رأسه أو يظهر رأسه المدفون في تلك التفاصيل، فترجمة ذلك " الاتفاق؟!" حل سياسي يفضي إليه حوار بين طرفي المعادلة للاتفاق على الأمور المختلف عليها كافة، وتشكيل حكومة انتقالية تمثل النظام والمعارضة وتتمتع بصلاحيات شبه تامة وواسعة، تحكم وتعمل على إجراء انتخابات وتشكيل لجنة تأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد، وعلى تنفيذ كل ما يؤدي إلى وفاق واتفاق ناجزين بين السوريين في ظل وقف للعنف بكل أشكاله وعدم التدخل الخارجي بأي شكل من الأشكال.. مع بقاء الرئيس بشار الأسد في السلطة حتى نهاية مدته الدستورية أي حتى عام 2014 من دون صلاحيات تذكر.

إن الكلام عن اتفاق اللاعبين الرئيسين الروس والأميركيين، وهما الأكبر والأنشط والأقدر على القيام بدور مؤثر في حل  الأزمة السورية، لا يترجم إلى وقائع وتوجهات عملية على الأرض تلزم الداخلين في الصراع بالأخذ بها، لأن هناك الغاماً مبثوثة في مسارات إبحار سفن القول، وخلافات ومناورات وحتى انعدام ثقة متبادل تحت سطح الكلام المعلن، ومصدر ذلك أمور خاصة باستراتيجية كل طرف تحكم التحرك، وأخرى ظاهرة تلامس مواقف الأطراف الأقل شأناً في مراعاة معطيات الحل يهتم بها كل من الطرفين حتى لا يضر بمن هم معه.. ومن أبرز أو أهم المواقف المتصلة بالأطراف الفرعية إن صح التعبير، الموقف من بقاء أو عدم بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس الدولة خلال المدة الانتقالية المشار إليها، أي حتى نهاية مدة ولايته الدستورية عام 2014، فالروس في تصريحات مسؤوليهم، وعلى رأسهم لافروف، لا يرون أن بيان جنيف تضمن شيئاً من ذلك ويقولون بذهاب إلى الحوار من غير شروط مسبقة، والأميركيون يذهبون في تفسير بيان جنيف إلى أن الرئيس بشار الأسد يذهب بوجود حكومة تمثل الطرفين وذات صلاحيات واسعة. هذه العقدة المفصلية لا يبدو أنها حسمت بصورة نهائية من جهة، فضلاً عن وجود رهان خفي للأميركيين وحلفائهم على تحقيق انتصارات للمعارضة وتقدم في مواقع على الأرض تجعلها وتجعلهم يفرضون شروطاً.. ويقابل ذلك ثبات الروس على موقفهم القائل بأن النظام قوي ويسيطر وأنه لا حسم بالقوة العسكرية للصراع الدموي الدائر، ومن ثم فلا منتصر ولا شروط مسبقة.

الموفد الدولي الأخضر الإبراهيمي يعرف هذا، ويعرف مواقف الأطراف الحاكمة على الأرض وربما أحجامها وقدراتها، ويعرف هو كما يعرف كل من الأميركيين والروس وسائر المنخرطين في الأزمة السورية، أن هناك في مواقع الصراع الدامي من لا تحكمه الأطراف الوسيطة حتى لو خلصت نواياها، وهو على تنسيق مع المعارضة السورية المسلحة ولكنه لا يأخذ بكل ما تأخذ به، وله مرجعياته، وله من الأهداف ما قد يتعارض بل ما يتضاد مع بعض أهداف أطرافها المتعددة مما سيظهر في وقت لاحق ومراحل أخرى، لا سيما إذا حققت تلك الأطراف جميعاً غلبة، وعلى رأس تلك القوة الفاعلة أو الحاكمة في هذا الاتجاه "جبهة النصرة". ومن ثم فإن الإبراهيمي يتحرك في الهوامش المتاحة،  ويتحايد الاصطدام بالألغام، ولكن ذلك لا يعني أنها غير موجودة، وهو يعمل على ما يمكن أن يقرب الأطراف من حقائق الصراع ومعطياته على الأرض ومشكلات الحلول التي تلتبس باستراتيجيات السياسية المتعددة التي تنخرط في الصراع " الأزمة"، إن عليه أن يبلغ الأطراف المعنية مباشرة بذلك الصراع الدامي ما اتفق الطرفان الروسي والأميركي على إعلانه على السطح وهو التوجه إلى حل سياسي عبر الحوار.. ويعرف أو يدرك جيداً في الوقت ذاته أن المعارضة المسلحة ترفض الحوار والحل السياسي واي تقدم باتجاه ما في ملف الزمة قبل " رحيل الرئيس الأسد"، وأن الرئيس الأسد بدوره يرفض ما تطلبه المعارضة المسلحة " الإرهاب" ويقبل بالحوار بين السوريين من دون شروط..

نحن إذن في " مكانك راوح"، بينما الدم يسيل، والدمار يستمر، والدولة السورية تستهدَف بكل أنواع التخريب التدمير لكيانها ومؤسساتها وسيادتها على أرضها وعلاقات أبناء شعبها بعضهم ببعض، والفتنة المذهبية – الطائفية..إلخ ترفع رأسها ويتبدَّى وجهها القبيح أكثر فأكثر. وتستمر الحرب السياسية بوجهها الإعلامي الذي يستبيح كل الوسائل والأساليب في كذب وفجور يساهمان في إشعال النار وبلبلة الفكر وتضليل الناس.. والكذب سيد الموقف في هذا الميدان كما كان وأكثر، وأشكال من " الميلو دراما الفجائعية" تلف كل المشاهد التي تتناقلها الأطراف زاعمة أنها الحقيقة على الأرض.. بينما الجمهور والحقيقة من جملة الضحايا.

نبقى من الأخضر والحل السياسي لنسأل: أين نحن عملياً؟ وما الذي أسفرت عنه اتصالات الإبراهيمي مع أطراف المعارضة المسلحة إذا كانت هناك اتصالات؟ فيما يبدو من تصريحات مسؤولين في الائتلاف أنه لم يتغير شيء على ماتم إدراجه في بيان الدوحة " لا حل سياسي ولا حوار"، وهو ما قالت عنه كلنتون للافروف بأنه سيعدل لأن الأولى كان هو " توحيد المعارضة" التي لم تتوحد بعد.!؟ منطق الجامعة العربية ما زال منطقاً مراوغاً يقول بالحل السياسي ويعمل على التدخل العسكري الدولي، والإبراهيمي لم يغير شيئاً في جوهر ذلك الموقف المحكوم بمواقف دول عربية نافذة الرأي والقرار الآن في الجامعة. والدول العربية المعنية بتمويل المعارضة وتسليحها مازالت على مواقفها وأهدافها وارتفاع وتائرها، واللاعبون الأوربيون، لا سيما فرنسا وبريطانيا، يساهمون في التمويل والتسليح ويأخذون بحل القوة على الرغم من الغمغمة بحل سياسي للتصدير الإعلامي.. وتركيا تزداد غرقاً في المواقع والمواقف والمتاهات، وتتسلح بالباترويت لتحاصر إيران وسورية، وتتطلع إلى ولاية حلب وأشياء أخرى في البال والخيال.. وتبقى إيران وغيرها في المواقع التي لا تؤثر باتجاه الحل السياسي الفاعل على الرغم من الإعلانات والمبادرات والاتصالات بالنظام وبأطراف من المعارضة..

وكل هذا يفرض علينا أن نقف بوعي ومسؤولية في مواجهة السؤال: "أين نحن عملياً من هذا كله.. ومن نحن في هذا العراك."!؟ من الثابت الملموس أننا في بؤرة اشتعال النار، ودوامة تطور الحدث، وملتقى طرق التدمير والتقتيل، ومرجعيات التدبير والتغيير في نهاية المطاف.. ولكن رؤانا وآراءنا في متاهة التشتت والتضاد وأرادتنا شبه مشلولة بسبب التناقض وتوزعنا على المشارب غير الصحية وهو ما وصلنا إليه فأوصلنا إلى ما نحن فيه للأسف.. وهناك أسباب وأفعال وتصرفات أخرى ما كنت أتخيل أن مواطناً سورياً يصل إليها أو يسوِّغها في خياله.. وكل ذلك يفضي إلى مقاربة الشق الثاني من السؤال: "من نحن في العراك الدامي"؟!.. نحن فيه للأسف ناره وحطبه والمحترقون فيه.. ونحن في ذلك فريق ثم فريق ثم فريق.. وعلينا ألا ننسى أن فريقاً منا أدوات قاتلة بيد الأعداء يشحذونها على رقابنا وفي مسيل دمنا، وآخر منا منفعل بردات الفعل فلا يكاد يعي من هو وما يترتب عليه ومن ثم يغرق في دارات تغيب معها مسؤوليته وحكمته ويزوبع دوامة العنف، وفريق يهيج بجنون ويأخذه الهياج إلى فنون من القتل وفنون من الموت والنهب والسلب وأخرى من إشعال النار بالوطن البيت، وفريق بلغت به حال التطرف والتردي حدوداً لا يمكن قبولها أو تصور حدوثها، ومثال ذلك من نماذجها: قول من قال لصحفي إسرائيلي من القناة الثانية تسلل إلى سورية:" لو جاءني شارون وقال إنني ضد بشار الأسد فساقول له: أنت عيني"، ربما نفهم وجعه ولكن لا يمكن أن نقبل تطرفه، فيا رب هل نسينا من هو شارون وماذا يمثل لنا ولأمتنا؟ أما الأنموذح الثاني ففعل آخر يصور أفلاماً ويبثها عبر " النت"، ليقدم معلومات يقول إنها موثقة وخرائط مصورة لمواقع من دمشق المكتظة بالسكان، يقول إن فيها أسلحة استراتيجية سورية، كيمياوية على الخصوص، ويطلب التدخل لغزو سورية عسكرياً وتدميرها بذلك السبب"!؟ فهل رأى أحد من يقدم بلده وشعبه كبش فداء لأعداء بلده وشعبه بهذه الصورة من صور الأداء المفتئت الذي ينطوي على كم هائل من الافتراء والاستعداء.؟! هذا بعض من نحن، ولكن الفئة الأكثر منا نحن فهي الضحايا التي يراق دمها أو تدمير ممتلكاتها أو تلاحق وتعاقب أو تختطف وتعذب وتحلم بالأمن والرغيف.. وهي تلهج ليل نهار بضرورة أنقاذ الوطن وإنقاذ الإنسان من فنون الجنون.   

لا أريد أن أقول، ونحن في هذا الوضع إننا يائسون من كل خلاص، ولكن أريد أن أركز على حقيقة أن خلاصنا بأيدينا هو الخلاص الحق وهو الأقرب منالاً حين تصحو الضمائر وترتفع مصلحة الوطن فوق المصالح وكلمة الشعب فوق كل الكلمات.. أما الحلول من الخارج فلها وعليها. لا أقول بعقم الجهد الدولي وبعدم قدرته على الحسم، فمثل هذا القول مجاف للمنطق ولا يتفق مع حقائق الأمور وتاريخانية الدور الدولي، عندما تتفق الأطراف الفاعلة فيه على رأي وموقف وتنفذ ما تتفق عليه بموضوعية وإخلاص وجدية وحسن نية.. ولكنني آخذ بما يبدو أنه استراتيجيات متصارعة على سورية وفيها، وبرامج سياسية لبعض الأطراف الدولية المعنية بشؤون المنطقة، تلك التي رأت أن تكون سورية ساحة استقطاب لقوى معادية لها فأدخلتها في بؤرة اقتتال فظيع، لتقضي عليها أو تضعفها ولتقضي على سورية أو تضعفها أيضاً، وبذلك تحقق أهدافاً عليا لها ذات أبعاد سياسية واقتصادية وأمنية، وتحاصر من تعتبرهم أعداءها الاستراتيجيين لا سيما روسيا والصين، وتتحكم بمصادر الطاقة وبأسواق السلاح على الخصوص، وتضع إيران وأهدافها وتطلعاتها في امتلاك طاقة نووية والسيطرة على مضيق هرمز في الزاوية الحرجة المعتمة.. ومن ثم تُدخل سكان المنطقة من عرب ومسلمين على الخصوص في نفق مظلم يطول ويطول، وتضعهم في دائرة التآكل يدلفون إلى نوع من الحماية والوصاية.. هذا إن أمكنها فعل ذلك طبعاً، وهي تسعى إليه. وبذلك ينتهي الصراع في هذا الجزء من العالم لمصلحة طرف دولي استطاب التربع على قمة هرم السياسة الدولية لعقدين ونيف من الزمن، بوصفه الطرف الوحيد الذي يحرك ويقضي ويأمر ويسيطر، ولكن جاء وقت وجد نفسه فيه يلفظ أنفاسه كطرف دولي بهذه الصفة، أعني الولايات المتحدة الأميركية والحلف الدولي الذي تقوده، حلف شمال الأطلسي..  ومن الطبيعي أن نتائج كل ذلك ستكون لمصلحة دولة الإهراب "إسرائيل"، ولمصلحة حلفائها الغربيين ومن يواليهم من العرب والمسلمين، وهو ولاء الخراف للذئاب؟!. وربما لهذا السبب أكثر من سواه يدخل الجهد الدولي في نفق النفاق ولا يكاد يخرج منه في هذه الأزمة وسواها، ولا يسفر إلا عن تغذية للعنف الدامي في سورية وعن استمرار في الاقتتال بالوكالة أو بالأصالة على أرضها.. وكل ذلك يفتح أسواق المساومات السياسية الدولية من جهة ويحقق أهدافاً قريبة وبعيدة لبعض الأطراف من جهة أخرى، ولكنه يودي بحياة السوريين وبقدرات بلدهم وعمرانه ومؤسساته وسيادته بالنتيجة، كما قد يؤدي إلى نهاية مرحلة في الحياة العربية والإسلامية، هي مرحلة القومية العربية وأهدافها وأحلامها وتطلعاتها وتنظيماتها، ومرحلة التقارب الإسلامي على أسس سليمة ونظيفة وعميقة لفهم الدين، ولتلازم العروبة والإسلام وعدم وضع أي منهما في مواجهة الآخر.  

إن الأخضر يدخل فصل الشتاء ولا أظنه من الأشجار الدائمة الخضرة أو فروعها ليصمد للزمهرير، وسعيه في الهوامش المتاحة محمود، وهو كالشجرة لا تملك أن ترفض النسغ الذي يجري من شروشها حتى أوراقها.. ولكن يبدو أن مستنقع الدم والبؤس الذي يُراد له أن يزرع فيه يوجب عليه أن يفزع ويصرخ ويستحث من بيدهم القدرة والقرار ومن لديهم الرأي والحكمة وحب الحياة والناس والعدل وبعد النظر.. لكي يجففوا المستنقع إذا كان لا بد من أن يزرعوه فيه، أو أن يزرعوه على مشارفه لكي يستعيد خضرة تفرح وتبعث الأمل في الناظرين إليه والمرتجين ثماره، وعليه أن يقنعهم بأنه فرع من شجرة دائمة الخضرة، أو مطعَّم على زيتونة مباركة يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار.

والله من وراء القصد.

 

دمشق في 25/12/2012

                                                علي عقلة عرسان