خبر حرب الذات على الذات ..د.علي عقلة عرسان

الساعة 12:44 م|21 ديسمبر 2012

 

 

البرد القارس والمطر وزخَّات البَرَد ونتف الثلج المتساقط على الخيام الملطَّخة بالطين المشبعة بالماء الذي يتسرب ومن حولها إلى أثلام محفورة في الأرض الحمراء تشكل مجاريَ لتصريف المياه المتساقطة من سطوحها، والطرق الترابية الزَّلِقَة التي تنصب فخاً لقدم السائر فيها فتزلَق قدمُه أو تكاد، ولكنه لا ينجو بأي حال من أن تتلطخ ملابسُه من الخلف برذاذ الوحل المتصاعد مع كل خطوة يخطوها، فترقِّطه حتى قرابة رأسه.. والسماء المكفهرّة مثل الوجوه المصفرة المرهقة المكفهرة هي الأخرى، ترسم صورة المشهد الماثل في حاضر لا ينفذ منه ضوء إلى المستقبل أو ينفذ من المستقبل إليه ضوء.. كل ذلك أعادتني إليه مساحات من دمشق حيث تعج شوارع وحدائق عامة وزوايا معتمة بفلسطينيين وسوريين نازحين من مخيم اليرموك على الخصوص ذاك الرمز الذي اجتاحه الرعب مع " النصرة"، في هذه الأيام، أيام نهاية العالم حسب تقويم المايا " 21/12/2012"؟!، مضافاً إلى ذلك ما في وعيي وعيني وذاكرتي من صور الخيام الممتدة على مساحات من أرض الوطن "سورية" وفي مساحات أخرى يستشرف منها سوريون أرضهم ومساكنهم في رحابه، وهم على مقربة من حدوده مع دول الجوار العربية والإسلامية، يعيشون بؤس الخيارات ويعانون من نزوح وقروح، نزوح من الوطن، وقروح من الخيارات التي كلفتهم وكلفت الشعب والوطن والدولة فوق ما يطاق، وتزيد في عمق قروح الكرامة والأخوة والشهامة التي يحتاج التئامها إلى زمان وزمان!!.. وأخذني مشهد البؤس الكتيم المقيم على صدري مثل جاثوم طويل في دوامة إعصار ذكريات مُرة، وألقاني في شتاء عام 1948 يوم هُجِّر مئات آلاف الفلسطينيين من ديارهم بسبب إرهاب المنظمات الصهيونية "الهاغانا وشتيرن وليحي.. وغيرها" من المنظمات العنصرية الإرهابية الفظيعة التي كانت تزرع الرعب في فلسطين، وتروِّع أهلها، وترتكب المذابح والمجازر، وتقتل الناس بلا رحمة لتطردهم من ديارهم وتقضي على شوكتهم وتشعرهم بمر الهزيمة ومقيم العجز، مدعومة من قوات الاحتلال البريطاني التي سلَّمت فلسطين لتلك المنظمات وسهلت سيطرتها عليها، ومنعت العرب من المقاومة الفاعلة الذين أرادوا أن يقاتلوا الصهاينة، فأوكلت بالتآمر أمر قيادتهم في الحرب إلى "البريطاني غلوب باشا؟!" – تصوروا وتدبروا واعتبروا أيها العرب – قلوب باشا يقود العرب ليردوا عن فلسطين وأهلها احتلالاً استيطانياً أشد فظاعة بمراحل من الاحتلال البريطاني الذي أسس لإقامة وطن قومي لليهود في تلك البقعة الغالية من أرض الوطن العربي "فلسطين"، وهو الكيان الذي أصبح اليوم بؤرة إرهاب الدولة الصهيونية ليس للشعب الفلسطيني فقط بل لكل من يؤيده ويدعم مقاومته للاحتلال والإرهاب والعنصرية من العرب والمسلمين، وهي تريد كل فلسطين "دولة يهودية خالصة" معترَفاً بها من الفلسطينيين أنفسهم ومن العرب بهذه الصفة!!، ويدعمها في ذلك عنصريون ذوو تاريخ في العنصرية والعبودية وإرهاب الدولة هم الأميركيون المؤيدون لكل ممارساتهم الخارجة على كل خلق وشريعة وقانون.؟!

عدت مع شقاء شعبي اليوم إلى ما كان عليه شعبي من شقاء بالأمس، عدت إلى واقع يعيد الكرَّة بلا عِبرة ويستعيد المأساة مرة بعد مرة.. يفعل هذا على الرغم من تحول الخيام القديمة إلى بيوت شبه حديثة، وكثرة المتعلمين والمثقفين والجامعات والسياسيين الحكومات والفضائيات والمنتديات.. ونشوء طبقة أوسع من السياسيين والأكاديميين والمثقفين، لكنها طبقة ذات شُعَب، تمتد وتتعدد وتتمدد، لبعضها جذور في الأرض والتاريخ العربيين ولبعضها الآخر من ذلك الزعم بالانتماء والادعاء باحتكار التمثيل.. وبسببها وعلى هوامشها وعلى الرغم منها ومن دعاواها وادعاءاتها جميعاً تنتشر مخيمات جديدة اليوم في الوطن وعلى مشارفه وتنذر بأن تتحول مع الزمن إلى بيوت لمقيمين في الشتات تجدد ما فات لا سمح الله، وفي الوقت ذاته تبقى الشقق المخيمات تبحث عن أرضها لتضرب فيها الجذور.. وفي الوقت ذاته وعلى الرغم من " انتشار الطبقات المشار إليها" تنتشر ساحات الاقتتال العتيدة التي تغص بالموت والكراهية وتستهين بالعقل والحكمة والمواطَنة والوطن، بالمعرفة والثقافة والمسؤولية، بالحقوق والحريات ورأي الأكثرية التي تعاني وتصبر وتدفع ثمن " طبقة مخصية تستعدي الآخر لتستعير رجولة عدوة لكي تلقح شؤماً في أرحامها!؟".. طبقات أكاديمية وسياسية وثقافية وإعلامية و.. ذات شُعَبٍ وشعب، تمتد  في أرض الوطن وتتكاثر وتتنوع من شعب مثقفي الناتو إلى بقايا يسار عهد ستالين، ومن سلفية لا صلة منهجية – علمية لها "بالأصول والسلف" وبمن جسدوا الإيمان في سلوك ومع ذلك يقولون إنهم يرتقون إلى سلوك السلف الصالح وفهمه للعقيدة والقدوة.. إلى علمانية لا تفقه من العلمانية، بمعناها العلمي الموضوعي، إلا ما تناهى إليها من تحريفها إلى إلحاد وإزراء بإيمان العباد وتراث الأمة المرتبط بالإيمان!؟.. وفي هذا الفضاء "السياسي – الثقافي – العقائدي – النضالي – الجهادي.. إلخ" المكفهر تتهيأ الجهات المعنية بصياغة جديدة للأوطان والدول والدساتير والقوانين والعلاقات والحقوق والحريات والثقافات.. للإنسان والثقافة والحضارة.. تستعد لحروب أهلية أشد فتكاً وأوسع انتشاراً من كل ما ساقته أيام تسمى " الربيع العربي".. حروب يُقتل فيها الإنسان باسم الإنسان ومن أجل الإنسان، وتدمر الدول والأوطان من إجل إعادة بناء الدول والأوطان على أيدي من؟ وبمعرفة من؟ وبمساعدة مالية ممن؟! ولقاء أية أثمان؟!.. حروب جهل وجاهلية وتخلف وتآمر نخوضها بوصفنا أدوات وصنائع وننجزها بالوكالة، ونؤثلها ونسوِّغها ونؤثلها على أسس طائفية ومذهبية وعرقية، ونزينها ونُمِدُّها بأسباب بقائها واستمرارها، ونكون فيها نحن وبلداننا وتاريخنا وتراثنا وما نملك "حرائق ومحارق ومُحْرَقات" تقدَّم ليهوة إله الجنود والدم المغرم برائحة الشِّواء وشويط المُحْرَقات، لكي ينتشي بها فينتشي بذلك أعداؤنا ويشعرون بالأمان والاطمنان والانتصار والاستقرار في الديار التي طردونا منها، ويزدادون ثقة ورغبة في الحصول على ما يطمعون ويطالبون به بالحصول عليه من أرضنا؟!.. حروب مدمرة مديدة نخوضها بشراسة واستمرار لم نعهدهما في أنفسنا في أثناء حروبنا مع عدونا، حروب كارثية كئيبة لا نشوة نصر فيها بل هزيمة للغالب والمغلوب فيها إذا كان ثمة غالب ومغلوب، لنا منها وفيها حق الشعور بالعنجهية والألم والموت بلا قبور، ولأعداء أمتنا كل ثمارها.. حروب لسنا فيها سوى أدوات يحركها عدونا الصهيوني ذاته، بالتعاون مع حلفائه أنفسهم، لاستكمال المشروع ذاته، مشروع احتلال فلسطين بكاملها وتهويدها وتشريد أهلها كل أهلها، وتنفيذ سايكس – بيكو جديدة استكمالاً للأولى، في شرق أوسط جديد لم يتسن لهم تحقيقه بحروبهم المباشرة فأرادوا بأيدينا، وفي تحقيقه الهيمنة على المنطقة وثرواتها وقراراها السياسي، وقهر لكل من قد يفكر بمقاومة وتحرير وقول لا للصهيونية والغرب الاستعماري.. وها هو إنموذج جديد للتشرد، أوسع وأرهب.. وها هو شعبنا في مساحات من الوطن العربي لا سيما في بلاد الشام يشرد ويتجدد تشريده، وقد شهد العقدان الماضيان فظائع من هذا النوع في لبنان وفلسطين والعراق، وها هو يشهد فصولاً من البؤس ذاته في سورية، ضحايها سوريون وفلسطينيون.. إننا نُقتل ونُشرد اليوم للغاية ذاتها، ولتحقيق السياسات والأهداف والاستراتيجيات العدوانية الصهيونية – الاستعمارية ذاتها، ولكن بأسباب منا وظلم منا وطيش منا، وبأيدينا نسقى الصاب هذه المرة وليس بأيدي الأعداء الذين يكتفون بدفعنا إلى المحرقة ويكلفون منا من يدفع تكاليف الحريق ويعملون على أن ينتشر ويستمر.

أشعر في الفضاء من حولي برائحة الموت، الدم يسيل، والألم يكبر، والحقد يتنامى، والوطن يضيع، والعقل المسؤول في تيه، وقطاعات الأبرياء التي تتعرض للمأساة تزداد عدداً وتتعمق جراحها ومعاناتها، وتتولد في الأنفس ضغائن لا عهد لنا بها.. وعلى الرغم من ذلك نشهد تفريخ العنجهيات، ونقف على منطق غير بناء تدلقه في مسامعنا جهات وتنظيمات وشخصيات وسياسات، تعرف كيف تكابر وتناور وتداور وتتجار وتقامر لتكسب وتستمر في دهاليزها المظلمة، ولا تأبه في أن تنحر الأهل والبلد إذ تستمر قتال ضد الذات والمحرمات.. ولكنها لا تعرف كيف تتواضع وتفكر بالآخرين وتنتصر على الذات وتراعي الله والحرمات.. وهي على درجة من الشراسة والمثابرة على الاقتتال والمغامرة لا نراها حين يتعلق الأمر بمواجهات مع العدو في هذه الساحة أو تلك، ولم نعهدها في مقارعتنا للمحتل والمعتدي الطامع حيث كانت مواجهاتنا أو حروبنا قصيرة النفس ولا نلبث أن نرتد وترتد نفوسنا كليلة السيوف والمنطق!!.. في هذا الفضاء اليوم أجد في كل ما ينتشر من حولي، وفي ما أسمع وأقرأ وأرى، إضافات على الوضع والوقت اللذين كان فيهما غلوب باشا البريطاني قائداً فعلياً لجيوش العرب المنوط بها رد عدوان الصهاينة على فلسطين وشعبها، وكسر إرادة بريطانيا بتسليم فلسطين العربية تاريخياً إلى اليهود لتكون وطناً قومياً لهم على حساب الفلسطينيين وأجيالهم ومستقبلهم.. إضافات تتبدى في تحول بعض العرب من موقع الجاهل بغفلة وتخلف وانعدام نضج سياسي المنساق أو المسوق إلى مواقف يغدر به فيها.. إلى موقع الضالع في تآمر واعٍ على شعبه وأمته وقضاياها العادلة والمتجاسر بوعي على الإعلان عن أنه اختار أن يكون أداة العدو والاستعمار ووسيلتهما ضد أمته وبعض أبناء شعبه، وطرفاً في التآمر على قضاياها العادلة وشريكاً في الحرب بالوكالة عليها!؟..

ها أنا ذا اليوم في الشام، وفي الفضاء السياسي المكفهر فيها، النازحون من مخيم اليرموك يعودون إليه زرافات ووحدانا، ويبقى في الشتات سوريون كثير وكثير وكثيرلا يعودون.. و أرى من حولي خنادق وبنادق، ومهاجمين ومدافعين، ومتقاتلين وضحايا، ومنتمين ومتآمرون، وظالمين ومظلومين، وناطقين وببغاوات، وداعيين إلى الحوار ورافضين له، ومنادين بالحلول السياسة ومتنصلين منها.. وكل يقول بالحرص على الوطن والشعب بينما يدفع بهما إلى التهلكة والمعاناة بحسن نية أو بسوء نية وخبث طوية.. والطريق إلى الحل وحقن الدم وتحقيق العدل والمساواة والحرية والديمقراطية ورفع الظلوم والاستبداد.. إلى آخر الشعارات الباهرة والمشروعة.. الطريق إلى ذلك واضحة تماماً لمن يريد أن يرى.. فلماذا نقول ما لا نفعله ونفعل ما لا نقول به؟ ألا يفضي هذه إلى شيء واحد وحيد هو إضعاف الشعب والوطن وتدمير الدولة والإنسان والعمران والقدرة على الرؤية السليمة!؟ فليختر من يختار سورية أو الدمار.. وكل يتحمل مسؤولية اختياره، ولكل اختيار قيمة وحساب وثمن. ولكن هناك من ينجو من دفع الثمن وهناك من لا يعنيه أصلاً أمر الوطن.. والجميع في سوق السياسة اليوم يبدون كالمنومين، أو أنهم يساقون "باليرموت كونترول" إلى حتوفهم وحتف وطنهم.. وها هم في كل الساحات تقريباً تأخذهم العزة بالإثم فيمشون على هاماتهم إلى مقابرهم ولا يرعوون.

هذه عندي اليوم نهاية العالم وفق تاريخ حضارة المايا، وهذه عندي اليوم ذكريات مُرة تصب في ذكريات أكثر مرارة يستمر دفقها عبر عقود من الزمن وتتعق في الحلوق والقلوب، منذ النكبة والتهجير عام 1948 إلى النكسة والنزوح الكبير عام 1967، وحتى النزوح المتجدد من زمن المواجهات الضيقة مع العدو الصهيوني المحتل والأميركي المعتدي إلى زمن حرب الذات على الذات في هذا الوقت العربي الرديئ من الأوقات.

كان الله في عون البلاد والعباد.

دمشق في 21/12/2012