خبر مخيم اليرموك .. تداعيات الاقتحام .. علي عقلة عرسان

الساعة 12:37 م|18 ديسمبر 2012

 

يحمل مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين بدمشق رمزية خاصة، فهو من أقدم محطات إقامة الفلسطينيين الهاربين من الإرهاب الصهيوني عام 1948، وأحد أهم مراكز انطلاق حركة المقاومة الفلسطينية "فتح" في ستينات القرن العشرين، وموقع نشوء ونمو وتطور فصائل فلسطينية مقاوِمة كثيرة تكونت بعد أيلول الأسود 1970، ومركز ثقل مقاومة فلسطينية باسلة خاض مقاتلوها معارك ضارية مع أشقائهم في لبنان ضد الاحتلال والاجتياح الصهيونيين، ومرتكزالفصائل الفلسطينية التي عارضت اتفاق أوسلو واستمرت على خيار المقاومة والتمسك بحق العودة غير منقوص.. وفي هذا المخيم العتيد تمت التخطط لعمليات داخل فلسطين المحتلة أقلقت العدو الصهيوني، وأخرى أسفرت عن إطلاق مئات الأسرى والمعتقلين من سجون الاحتلال.. وهو الدار التي يلتقي فيها فلسطينيون وسوريون على اختلاف توجهاتهم ومشاربهم ويعيشون معاً في وئام تام، أخوة شركاء في كل ما يبني الحياة ويبقيها في تجدد وتألق، ويتمتعون بحقوق وواجبات متساوية مع احتفاظ الفلسطيني بالجنسية الفلسطينية حفظاً لقضية فلسطين وقضية شعبها من الإذابة، وتمسكاً بحقين رئيسين جوهريين في مسارات النضال الفلسطيني: حق العودة وحق تقرير المصير بحرية تامة فوق تراب الوطن المحرر. والمخيم من قبل ومن بعد بيت من أهم بيوت فلسطين في الشتات من حيث الذاكرة الفلسطينية وتجسيد الوعي وتعميقه بتفاصيل النضال الفلسطيني، والنشاط الفلسطيني بكل أنواعه.

أذكر هذا اليوم من دون أن أخوض في تفاصيل حياتية كثيرة في تلك البقعة من جنوب دمشق التي تحمل الاسم التاريخي العريق " اليرموك"، وهي تفاصيل غنية ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وثقافية وإبداعية " أدبية وفنية" ونضالية فلسطينية، كان المخيم تربتها الخصبة ووسطها الحاضن وبوتقتها التفاعلية المؤثرة.. أذكر مخيم اليرموك اليوم وأنا أكثر من حزين، يصعقني انفجار القذائف، وتبادل إطلاق النار، وسقوط عشرات الضحايا، بينهم الكثير من الأطفال والنساء من فلسطينيين وسوريين، وتضج في أذني أصوات الاستغاثات وحركة نزوح كثيفة لآلاف من الأسر الملتاعة التي  تبحث عن مأوى آمن، وعن عزيز فقد أو جرح أو تاه، وبعضها يبحث أيضاً عن ابنة أو ابن فقد في هلع النزوح ولا بد من السؤال عنها/عنه.. في المشافي وأقسام الشرطة والمضان الأخرى الآمنة في دمشق العاصمة.!! أذكر مخيم اليرموك اليوم كما لم أذكره من قبل بإشفاق عليه وإشفاق منه بعد أن عسكر فيه الخوف والرعب والإرهاب والموت.

الدم والدمار والخراب في المخيم الذي كان آمناً وملجأً يقصده باحثون عن الأمن من أحياء قريبة منه ومحيطة به.. لقد دخله الرعب الآن ويفرخ فيه الدم، ويسعى فيه الخراب والدمار على قدمين، وتلطخ الدماء شوارعه وبعض جدرانه!؟ فلماذا يزج هذا المخيم الرمز في الصراع الذي ينخر جسم سورية، وهو البيت الفلسطيني المدخر لتحرير فلسطين، والمكان الذي شهد من المعاناة والآلام ما يكفيه منذ 1948 حتى يوم الناس هذا من جراء ما لحق ويلحق بالشعب الفلسطيني من مآس بسبب الاحتلال الصهيوني وممارساته الإرهابية المستمرة التي ترتد على الفلسطينيين في هذا الموقع وسواه من مواقع وجودهم أشكالاً من المعاناة والمكابدة المرة؟! لقد دخل المسلحون وعلى رأسهم عناصر من " جبهة النصرة" إلى الحي من أحياء مجاورة واجتاحوه، فتصدى لهم فصيل من الفصائل الفلسطينية أو أكثر، واشتعل الحي، ووقع العبء على المدنيين بالدرجة الأولى.!!

ليس من الحكمة في شيء، ولا من العقل والعدل ومسوِّغات المواجهات الدامية ومقوماتها تلك المستمرة بفظاعة وجنون على الساحة السورية بين الجيش العربي السوري وقوى حفظ النظام من جهة والمسلحين ذوي المشارب والمآرب والمراجع المختلفة من جهة أخرى.. ليس من الحكمة ولا المصلحة في شيئ زج الفلسطينيين ومخيماتهم والمدنيين فيها على الخصوص في هذا الصراع الدامي الذي يسيل بؤساً وتعاسة وقصرنظر وقصوراً شاملاً بكل المقاييس.. وتبقى نتائجه أياً كانت، مدمرة للبلد والشعب والأمة وقضاياها العادلة إلى مدى بعيد، وليس من مصلحة أي طرف من أطراف الصراع جعل الفلسطينيين ينخرطون في قضية لا شأن لهم بها، ويدفعون ثمن ذلك الانخراط دماً وتكاليف باهظة، وليس من مصلحة الفلسطينيين أنفسهم أن يدخلوا حلبة الصراع لأن النتيجة ستكون وبالاً عليهم وعلى سواهم وعلى قضيتهم في الوقت ذاته، ولأن ذلك سيضعفهم أكثر أمام عدوهم المحتل لأرضهم، الزاحف بكل جوره وفجوره وشروره على حقوقهم ومقومات وجودهم.. يجب أن يبقى الفسطيني، وأن تبقيه الأطراف المنخرطة في صراع التعس والبؤس الدامي هذا، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بعيدأ عنه وعن مضاعفاته.

لقد دخلت العناصر المسلحة وعلى رأسها عناصر من "جبهة النصرة" المخيم، وهجره حسب بعض التقديرات 85% من سكانه، في حركة نزوح بعد نزوح ونزوح وبعد لجوء ثانٍ سبقه اللجوء الأول، ولنا أن ندرك أبعاد ذلك في نفوس المتضررين ومن يتابع مآساتهم ومعاناتهم التي تنتج وتفرخ كل يوم.. والهدف من وراء ذلك الاجتياح يتكثف، حسبما أرى، في شقين رئيسين مع وجود شعب وفروع ليست هي الأهم: الهدف الأول أو الشق الأول من الهدف: وضع الجهات الرسمية السورية في موقف حرج، إذ ستوضع بصورة ما في مواجهة الفلسطينيين كلهم ومن يناصرهم في العالم، بذريعة أنها مسؤولة عن الوضع سواء أتدخلت بالقوة أو تركت الأمر لسطوة القوة الأخرى من دون أن تتدخل.. وسيكون لذلك انعكاساته على فصائل فلسطينية متحالفة مع سورية من خلال خيار المقاومة وعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني والتمسك بحق العودة..إلخ مما هو معروف جيداً من ثوابت. وسوف يستثمر هذا الوضع سياسياً وإعلامياً لمزيد من الضغط على النظام وعلى بعض فصائل المقاومة الفلسطينية.

أما الهدف الثاني أو الشق الثاني من الهدف الرئيس فيقع في فرعين أو شعبتين: سلوك الطريق من ريف دمشق إلى دمشق العاصمة، حيث يتمكن المسلحون من التسلل عبر منطقة مخيم اليرموك وشارع فلسطين وشارع الثلاثين إلى أحياء دمشق ويتحصنون فيها بعد تحصنهم في المخيم، تمهيداً لما يسمونه دخول دمشق أو تحرير دمشق. والفرع الثاني التخلص من منطقة ضاقت عليهم، حيث يحاصرهم فيها الجيش العربي السوري ويقصفها، وهي منطقة حي التضامن والحجر الأسود ومناطق أخرى من ريف دمشق.

إن مخيم اليرموك سيكون مصيدة دموية وسياسية وإعلامية، وسيحرك العالم، وينال من أطراف الصراع، ولن تنجو منه المقاومة الفلسطينية وفصائل بعينها منها مستهدفة بصورة خاصة وبأشكال مختلفة من العدو الصهيوني ومن يتحالف معه. وفي هذه البقعة وهذا الحدث وهذا الفعل فخ للنظام في سورية، وفخ للمقاومة الفلسطينية، وفخ للعلاقة السورية الفلسطينية، وفخ للمعارضة المسلحة و"نصرتها".. والخاسر أو من يقع في الفخ المنصوب هو سورية والمقاومة والشعب الفلسطيني، أما الذين يحاربون بالوكالة في سورية ومن يرسلون المحاربين إلى سورية وينتظرون منهم الفظاعات والانتصارات فهم: رابح بالمطلق وخاسر بالضرورة، أما الرابح بالمطلق فهو الصهيوني والغرب الاستعماري المتحالف معه الذي يستهدف العروبة والإسلام، المقاومة والأرض، المنطقة وثرواتها وشعوبها وموقعها الاستراتيجي.. إلخ، وأما الخاسر فعرب ومسلمون في المنطقة يخوضون معركة الآخرين ضد أنفسهم، قُطراً قُطراً ومرحلة فمرحلة.. إنهم  يرون أنهم يخسرون المال ويربحون الأهداف الأخرى؟! ولا يعنيهم أن يخسروا المال "ما دامت تشتفي الأنفس مما تجد، وما تجد قريب، وتتحقق أهداف قريبة، بينما يغيب عن البال ما يستهدف الجميع من بعد؟! ولكن ما يدريك لعل الرياح تسير بغير ما تشتهي السفن، ولعلها إن سارت كما تشتهي تحقق غايات مقابل دولارات، والمال يعوَّض، والأهداف القريبة لا تلغي الأهداف البعيدة التي قد تغيب أو تغيَّب.!! ولكن المال قد يغري المترف بإتلاف غيره ثم لا يلبث أن يرتد تلفاً مباشراً عليه، أو يتلف ما يغيب عنه من قضايا وأهداف كبرى يخال أنه يخدمها في تدميره لغيره بينما يدمر نفسه وغيره، ويصل في حقيقة الأمر إلى تدمير تلك الأهداف إن صح أنه ينشدها.. ويقف شبح الدمار المهول على بابه يطرقه بقوة.. ويجره إلى ما هو أسوأ وأفظع وأوسع تدميراً، مصداق قوله تعالى: ﭽ ﯯ  ﯰ  ﯱ  ﯲ  ﯳ  ﯴ  ﯵ  ﯶ  ﯷ      ﯸ  ﯹ  ﯺ  ﯻ  ﯼ  ﯽ  ﭼ الإسراء: ١٦

إن من الحكمة والشجاعة وعظيم المسؤولية والمواقف الأخلاقية والإنسانية.. أن يبادر كل من له دور ونفوذ وكلمة وتأثير على كل طرف من الأطراف المنخرطة في معركة مخيم اليرموك القائمة والقادمة، وفي اقتحامه من طرف المسلحين " حبهة النُصرة وغيرها"، أن يبادر بسرعة وحرص وحسن نية وشرف لوضع حد لهذه المواجهة، وأن يعمل على إخراج المسلحين من المخيم، واجتثاث أسباب العنف والمواجهة العسكرية بين فصائل المقاومة الفلسطينية ومن قد يساعدها من الجانب السوري الرسمي وبين العناصر المسلحة وعلى رأسها " جبهة النصرة" ومن معها من المسلحين، وأن يتم إخلاء المخيم من المظاهر المسلحة واستخدام القوة ومن المسلحين الذين اقتحموه، تمهيداً لعودة سكانه إليه. إن تلك مسؤولية كل الأطراف الفلسطينية " أعني الفصائل كلها ودولة فلسطين" والأطراف السورية والعربية والإسلامية والإقليمية، كما هي مسؤولية المنظمات الدولية العليا المسؤولة عن السلم والأمن العالميين وعن حقوق الإنسان.. هذا إذا بقيت للإنسان حقوق ومنظمات محايدة وموضوعية تهتم بها. ولا نعلق أهمية في هذا المجال على دور إيجابي من أي نوع تقوم به سائل إعلام عربية وغير عربية نذرت نفسها لغير هذه الأهداف والأغراض، وسائل تعمل بوصفها "ميليشيات"، تحتطب بليل وتلقي الحطب والزيت على النار المشتعلة لتزيد الحريق اشتعالاً، فيزداد شغفها بالكلام والمال.. فتلك جهات أقنعتنا من خلال المتابعة الطويلة بأن لا شأن لها بما نتطلع إليه.

إن الأمر عاجل ويتصف بالخطورة ولا يتوقف عند حدود معركة المخيم فقط، ويتصل بأهداف عربية وإنسانية وأخلاقية، وبأوضاع وقضايا ونتائج قريبة وبعيدة تتصل بتداعيات الاقتحام المسلح لمخيم اليرموك من جهة ولاستمرار العنف وتوجه أطرافه نحو المزيد منه والتوسع فيه، فلا نستهينن بذلك كله، ولا بما يمكن أن يسفر عنه جهدنا المبذول بإخلاص وشرف ونزاهة من نتائج إيجابية على طريق وقف العنف كل أشكال العنف في مخيم اليرموك أولاً وفي سورية التي تنزف منذ أشهر ثانياً، وإعادة الأمل للإنسان في أمن من جوع وخوف في ربوع شلها الجوع والخوف.

والله من وراء القصد