خبر رد غير صهيوني... هآرتس

الساعة 12:13 م|09 ديسمبر 2012

بقلم: شلومو افنيري

(المضمون: ان تصرف الحكومة الأخير الذي جاء ردا على توجه الفلسطينيين الى الامم المتحدة يُظهر ان القادة الاسرائيليين تخلوا عن التراث الصهيوني السياسي الذي كان يحسب حسابا لرأي العالم ودعمه - المصدر).

ان اجراءات الحكومة الاخيرة تناقض مناقضة تامة كل تراث السياسة الصهيونية والاسرائيلية، التي استطاعت ان تفهم دائما ان مفتاح احراز أهدافها كامن في تجنيد دعم دولي لسياستها: فالحديث عن وسائل مجتمعة. وحينما تحظى اسرائيل بدعم دولي أوسع وأعمق تستطيع ان تحرز أهدافها، وحينما تكون معزولة تفشل في احرازها.

ان ما تنجح الحكومة الآن في فعله ليس تحدي القيادة الفلسطينية بل الخصام والنزاع مع أنصار اسرائيل في العالم الديمقراطي – الولايات المتحدة والدول الاوروبية. لا يكفي ان تعتقد أنك عادل وان تقنع مؤيديك: ففي العالم القاسي للسياسة الدولية يستطيع شعب صغير ان يحرز أهدافه فقط اذا استطاع ان يجد طرقا الى مراكز القوة العالمية ويضمن تأييدها – لا حباً لاسرائيل بل لأنها اقتنعت بوجود تلاؤم بين مصالح القوى العظمى أو تقديرات زعمائها وبين أهداف الصهيونية ودولة اسرائيل.

غرس هرتسل هذه الحقيقة القاسية في المورثات الجينية للصهيونية السياسية، بازاء غير قليل من المعارضة من قبل زعماء صهاينة آخرين اعتقدوا انه يكفي ان تقنع نفسك بأنك عادل. ولهذا راود هرتسل – من غير نجاح – القيصر الالماني وليام الثاني، وراود بنجاح نسبي وزير الداخلية الرجعي والمعادي للسامية الروسي فياتشيسليف بلفا. وما لم ينجح فيه هرتسل نجح فيه حاييم وايزمن حينما نجح في 1917 في ان يجمع بين أهداف الصهيونية والمصالح البريطانية باجراء كانت نتيجته تصريح بلفور وتبنيه في كتاب الانتداب البريطاني على ارض اسرائيل من قبل عصبة الامم.

في السنتين الحاسمتين 1947 – 1948 استطاعت السياسة الصهيونية لا ان تحرز فقط دعم أكثر الجمعية العامة للامم المتحدة لانشاء دولة يهودية بل حظيت – لاسباب متضاربة – بدعم الولايات المتحدة برئاسة ترومان والاتحاد السوفييتي برئاسة ستالين. وكان ذلك انجازا مدهشا يصعب ألا نبالغ في أهميته بازاء حقيقة انه وقع في سنة كانت فيها قوتان عظميان في بدء الحرب الباردة وتمت بينهما مواجهة شبه عنيفة حول قضية برلين.

كان ذلك معنى الصهيونية السياسية لهرتسل: فقد أدرك لأنه كان صحفيا سياسيا عرف التاريخ الاوروبي وتاريخ الحركات القومية في القرن التاسع عشر جيدا ان شعوبا صغيرة كاليونان أو الصرب حظيت بالاستقلال لا بفضل الاصوات الليبرالية في العالم المسيحي الاوروبي فقط التي هبت بسبب الاضطهاد العثماني المسلم الذي كان واقعا عليها بل لأنه كان لبريطانيا وروسيا مصلحة في إضعاف الدولة العثمانية وان تتبوآ لأنفسهما مكانا في البلقان.

ان هذا التوجه الواقعي – السياسي هو الذي كان يدفع عمل القيادة الصهيونية برئاسة وايزمن وبن غوريون الى قبول فكرة التقسيم. ففي الجدالات المريرة في الحركة الصهيونية في السنوات العشر بين اقتراح لجنة بيل في 1937 تقسيم البلاد وبين قرار التاسع والعشرين من تشرين الثاني 1947 – صدرت عن مؤيدي التقسيم تعليلات معقدة. وقد زعموا في الأساس ان من الواضح، الى مسألة حقنا في البلاد، ان الحركة الصهيونية لن تحظى أبدا بدعم دولي اذا أصرت على طلب اقامة دولة يهودية في ارض اسرائيل كلها في حين كان عدد سكان الاستيطان العبري قريبا من نصف مليون نسمة وعدد السكان العرب قريبا من مليون نسمة: لن تؤيد أي دولة ديمقراطية تسليم السلطة في البلاد الى أقلية يهودية تحكم أكثرية عربية.

وفي مقابل هذا كانت نتيجة الرفض العربي لبحث اقتراح مصالحة ما تشجيعا دوليا كاسحا لاسرائيل في حرب الاستقلال – برغم عداوة بريطانيا، في حين أصبح عرب ارض اسرائيل والدول العربية التي غزتها يُرون معتدين وغير مستعدين لأية مصالحة عادلة.

ان الحركة التصحيحية آنذاك لم تفهم هذا الجانب من السياسة الدولية: فلم تنجح خطابة جابوتنسكي المدهشة في حضوره الدراماتي أمام لجنة بيل في اقناع أحد، وأصبح الحد الاقصى التصحيحي ("توجد ضفتان للاردن واحدة لنا والاخرى كذلك ايضا") يُرى غير مقبول. وفشل جابوتنسكي ايضا في محاولاته اقناع قادة السياسة البريطانية بأن الاستيطان اليهودي هو الحليف المخلص لبريطانيا في نضالها في العالم العربي، وسيكون طليعتها الاستعمارية في المنطقة. فقد أقنع جابوتنسكي ومؤيدوه أنفسهم، لكن البريطانيين اعتقدوا أنهم يعرفون مصلحتهم بصورة أفضل.

فهم بن غوريون في المقابل جيدا في الأوقات الصعبة من الحرب العالمية الثانية خصوصا التأليف المركب بين الشراكة وتضارب المصالح بين الاستيطان اليهودي وبريطانيا، ومقدار الحنكة التي يجب الالتزام بها للقيادة في السبيل الضيق بين المصالح المشتركة والمتضاربة. وفي فترة متأخرة صاغ هذا الموقف من الولايات المتحدة ايضا حينما أثنى في خطبة في الكنيست في 1951 على التعاون الذي كان قد أخذ يُنسج بينها وبين اسرائيل لكنه حذّر قائلا: "ينبغي ألا ندعي ان امريكا تماهت أو ستتماهى في المستقبل مع دولة اسرائيل لأنه لا يوجد تماهي مصالح بين قوة عالمية عظيمة وغنية وبين أمة صغيرة ضئيلة في زاوية بعيدة في الشرق الاوسط... وبرغم انه لا يوجد تماهي بين مصالحنا توجد شراكة واسعة ومتسعة".

أدرك مناحيم بيغن برغم انه جاء من مدرسة مختلفة – زمن ولايته لرئاسة الوزراء – أدرك الحقيقة الأساسية لهذا الواقع الدولي. فلا شك في ان استعداده للتنازلات المفرطة في سيناء قد نبع لا من رغبته في التوصل الى سلام مع مصر فقط بل لأنه فهم انه في الواقع الجديد الذي نشأ مقابل خطوة أنور السادات الدراماتية ان اسرائيل ستحظى بدعم امريكي ودولي اذا خطت فقط خطوة مهمة تقترب فيها من الموقف المصري وان تساعد الولايات المتحدة بذلك على تعميق موطيء قدمها في الشرق الاوسط ومضاءلة موطيء قدم الاتحاد السوفييتي أكثر. وقد فعل بيغن ذلك بشجاعة مدهشة مع تنكر لمواقفه السابقة ومواقف حركته ومع استعداد للمخاطرة بقطيعة مؤلمة مع جزء كبير من مؤيديه.

هذه هي بالضبط الصفات الناقصة كثيرا في اجراءات حكومة نتنياهو الحالية. ولن ندخل الآن الى سؤال هل كان يمكن منع الهزيمة السياسية في الجمعية العمومية. ان ما تفعله الحكومة الآن ليس مضاءلة أضرار بل تعميقها وتوسيعها. بعد بضعة اسابيع فقط من اظهار الولايات المتحدة والدول الاوروبية الديمقراطية تفهما لاجراءات اسرائيل في مواجهة حماس في غزة، تتخذ الحكومة قرارات لا تُعمق القطيعة مع الفلسطينيين فقط بل القطيعة ايضا مع أكثر الدول صداقة لاسرائيل وعلى رأسها الولايات المتحدة ودول في اوروبا كبريطانيا وفرنسا والمانيا.

من الممكن جدا ان مواقف الحكومة الحازمة التي تُبين أنها "تقف على حقوقنا" ستساعدها في الانتخابات، ومن المنطق ان نفترض ان نتنياهو يخشى صعود المتطرفين في حزبه ويحاول ارضاءهم. لكن من يسمع وزراء الحكومة يُسوغون قرارات الحكومة المتهيجة يجب ان يعترف بأن أكثرهم يعيشون في فقاعة فروع أحزابهم ولا يرون العالم حولهم ولا يرون حاجة دولة اليهود العميقة الى ان تحظى بدعم دولي وألا تترك الساحة للفلسطينيين.

ان ما يُسمى بلغة الحكومة باسم "رد صهيوني مناسب" يعارض كل اجراءات الصهيونية السياسية وتعوزه الحنكة والحكمة السياسية اللتان صاحبتاها من هرتسل الى وايزمن وبن غوريون – وبيغن ايضا آخر الامر. ان التضحية بهذه الانجازات على مذبح تأييد هذا الفرع أو ذاك في الليكود أو اسرائيل بيتنا معناها عدم مسؤولية كبير – فلم يكن مقود الدولة قط في أيدي قادة يُظهرون عدم مسؤولية كهذا عن الوديعة الصهيونية التي سُلمت اليهم.