خبر حملة « عمود السحاب »:- « مفترق الشرق الاوسط »

الساعة 11:55 ص|21 نوفمبر 2012

ترجمة خاصة

حملة "عمود السحاب":- "مفترق الشرق الاوسط"

اختبار أول لمعادلات القوى الاقليمية بعد الربيع العربي

بقلم: البروفيسور عوزي رابي

(المضمون: في ظل غياب اختراق سياسي ذي مغزى، من غير المستبعد ان في المدى القصير أو المتوسط ان ينهي معسكر ابو مازن وكل ما تمثله فتح بفروعها المختلفة دورهما التاريخي، فتبتلعا في نطاق الاسلام السياسي لحماس - المصدر).

ليست حملة "عمود السحاب" المواجهة الاولى بين اسرائيل وحماس، غير أنها هذه المرة تجري في محيط استراتيجي مختلف عما كان في الماضي ولهذا فان لها معنى سواء على طبيعة سلوك المشاركين المباشرين في المواجهة أم على طريقة موقف اللاعبين الاقليميين. وأكثر مما تدل التطورات على المواجهة الاسرائيلية – الحماسية المباشرة ، فانها تدل على طبيعة الظروف الاقليمية المتغيرة وعلى معادلات القوة الجديدة الناشئة في اعقاب الربيع العربي.

كحركة تنتمي  الى التيار الاسلامي السياسي استمدت حماس تشجيعا من الثورات العربية من تعزز الحركات التي عملت في شكلها وفي صورتها. والتغيير الاكثر اهمية، في صورة مصر ما بعد مبارك، وكذا المغازلات من جانب تركيا وقطر وتفضيلهما الواضح لحماس على ابو مازن، خلقت في اوساط الحركة الاحساس بان قواعد اللعبة تغيرت بشكل عميق يهدف اهدافها بشكل افضل مما في الماضي. واعتبرت حماس اسرائيل، بقدر كبير من الحق، كلاعب قوي من ناحية عسكرية، ولكنه محدود جدا من ناحية قدرة المناورة الدبلوماسية والسياسية لديه. وبالتالي فقد غضت النظر أو دعمت ضمنا اطلاق الصواريخ من جانب المنظمات الاخرى في غزة نحو الجنوب الاسرائيلي بل وساهمت في اعمال مختلفة كاطلاق الصاروخ على باص الاطفال في نيسان 2011 وحفر النفق المتفجر الذي تفجر قبل نحو اسبوعين. التجلد الاسرائيلي المستمر في ضوء هذه الاعمال اكد في نظر حماس جزءا هاما من استنتاجاتها المسبقة: اسرائيل لا ترغب في التورط مع مصر ما بعد مبارك؛ والرئيس اوباما في ولايته الثانية لن يمنحها التأييد ومن هنا معقول الافتراض بانها ستمتنع عن الهجوم على غزة.

حملة "عمود السحاب" وتصفية احمد الجعبري، القائد الفعلي للذراع العسكري لحماس، كتائب عز الدين القسام، حبست حماس في مفترق اشكالي. فبعد الصدمة الاولى انتعشت الحركة وردت بثلاثة اشكال: معنويا – اعلنت حماس عن استعدادها وقدرتها لان تمتص وتحتمل عبء الهجوم الاسرائيلي؛ دبلوماسيا، اطلقت الحركة دعوة الى مصر للرد بحدة على اسرائيل، بما في ذلك قطع العلاقات الدبلوماسية معها؛ عملياتيا – اطلاق مكثف ومتواصل للصواريخ على بلدات الجنوب بل وعلى مدن المركز، وعلى رأسها تل أبيب على أهميتها الرمزية في نظر حماس بصفتها العاصمة الحقيقية للكيان الصهيوني.

اما اسرائيل من جهتها فقد رأت في أحداث الاشهر الاخيرة تآكلا حقيقيا في قوة الردع لديها. وقد ولدت حملة "عمود السحاب" كما أسلفنا بعد فترة طويلة من ضبط النفس في ضوء تشويش حياة نحو مليون مواطن في جنوب اسرائيل بشكل منهاجي ودائم. ويخيل أن اسرائيل أعدت الارضية جيدا، وأساسا على المستوى السياسي – الاعلامي، في ضوء الاجماع الواسع في أوساط دول مختلفة في العالم لادعائها بان دولة سيادية لا يمكنها أن تسمح بوجود وضع كهذا على مدى الزمن.

واستعدت اسرائيل للحملة الحالية بعناية وأخرجت الى حيز التنفيذ سلسلة من العمليات "الجراحية"، التي جبت اصابات قليلة في الطرف الاخر. وبهذا تكون حاولت اسرائيل التشديد على التفوق التكنولوجي والعسكري لديها، واطلاق رسالة مصممة اكثر من الماضي عن نواياها في تصفية التهديد المستمر. وعلى اي حال ففي "عمود السحاب" ايضا مثلما في المواجهات غير المتماثلة الاخرى قبلها (رصاص مصبوب، حرب لبنان الثانية وسلسلة من الحملات السابقة في لبنان) من شأن استمرار المواجهة أن يسحق مخزون الشرعية الذي تتمتع به اسرائيل في هذه اللحظة وتضعها في ضوء سلبي في العيون الدولية. ومفاهيم مثل "بنك الاهداف" و "صعود درجة" جاءت لتأكيد الاحساس بان اسرائيل تعمل بصيغ تكتيكية واستراتيجية منهاجية مخطط لها مسبقا. وستظهر الايام القادمة كم هي اسرائيل بالفعل خرجت الى الحملة مزودة بالحكمة اللازمة كي توصلها الى خط النهاية والحسم المرغوب فيه. وليس مثلما في المواجهات السابقة، فان "عمود السحاب" تجري في محيط استراتيجي جديد، في شرق اوسط مختلف تماما عن ذلك الذي عرفناه، وهذه هي عمليا الحكمة المركزية.

ولما كانت اسرائيل وحماس على حد سواء تفهمان بان الحسم هو على مستوى الوعي، فان ثمن الاتفاق على وقف النار من ناحيتهما أعلى من اي وقت مضى. من الصعب الافتراض بان حماس ستنهي المعركة بالاعتراف بان يدها كانت هي السفلى أو ان تعترف اسرائيل بان الاهداف التي من أجلها انطلقت الى المواجهة لم تتحقق. وفضلا عن طلب وقف نار الصواريخ من جانب كل الفصائل الفلسطينية ستركز اسرائيل على طلب التهدئة لفترة زمنية طويلة على نحو خاص والوقف الفوري لتهريب السلاح الى القطاع. وتأمل اسرائيل ان في نهاية المواجهة ستترك حماس باعتراف في أنها اذا ما غيرت عملها، فسيجر الامر بالتأكيد الى نتائج هدامة من ناحيتها. السيناريو الاسرائيلي المرغوب فيه في هذه الحالة هو أن تعترف حماس بخطأها مثلما حصل في حالة حزب الله بعد حرب لبنان الثانية، وبالتالي تفكر في المستقبل بخطاها بعناية قبل ان تسمح باطلاق الصواريخ على بلدات الجنوب. اضافة الى ذلك فان اداء ناجعا في "عمود السحاب" سيبث رسالة رادعة من ناحية اسرائيل الى حزب  الله بل والى سوريا التي تصاعد التوتر على الحدود المشتركة معها مؤخرا.

سترفض حماس على ما يبدو وقف نار يتضمن شروط لعب جديدة تقيد مجال عملها. من ناحيتها، فان استمرار نار الصواريخ، وبالاساس اظهار القدرة على اطلاق الصواريخ نحو وسط البلاد، يشكل انتصارا من حيث الوعي. وبالتالي، فان وقفا للنار يوقع عليه بينما تواصل الحركة "الوقوف على قدميها" سيشكل بالنسبة لها انتصارا حقيقيا، وذلك وفقا للمبادىء الاساسية لمعسكر المقاومة الذي تنتمي اليه الى جانب منظمات اخرى وعلى راسها حزب الله. وعليه فان كل صاروخ اضافي تطلقه حماس أو المنظمات الاخرى يثبت التصدي الناجح للتحدي الاسرائيلي. والامر سيستوجب من اسرائيل رفع درجة والهجوم على أهداف قد تجر اصابة اوسع للمدنيين، في ظل الفهم بان معدلات أكبر من الخسائر في الارواح ستبعث احتجاجا اقليميا ودوليا. في ضوء ذلك، وفي غياب وسيط مسيطر في هذه الاثناء، من غير المستبعد أن تستمر المعركة لزمن آخر. وحتى اذا ما تبلور وقف نار سريع بسبب رغبة الطرفين بانهاء جولة القتال الحالية، واضح أن المواجهة المتجددة هي مسألة وقت فقط.

في هوامش الصورة تبرز في شحوبها زعامة ابو مازن. فـ "عمود السحاب" والاحداث التي سبقتها هزت بقدر أكبر من ذلك مكانته كزعيم لكل الفلسطينيين. فقد جاءت زيارة أمير قطر الى غزة والتفضيل المعلن من جانب مصر وتركيا لحماس بصفتها الجهة الرائدة في الساحة الفلسطينية، لتقلص مدى صلة ابو مازن. وفي ظل عدم وجود مخرج وبسبب الحاجة لعرض موقف حازم تجاه اسرائيل، سيضطر ابو مازن على ما يبدو الى التمسك أكثر فأكثر بورقة التوجه الى الامم المتحدة لطلب الاعتراف بفلسطين كدولة مراقبة غير عضو. ومع أفول المواجهة، أو ربما في اثنائها، سيتعين على اسرائيل أن تبلور موقفا موحدا بالنسبة للنصف الثاني، الاكثر اعتدالا، للعملة الفلسطينية، وان تخلق حياله صيغة عمل سياسية. مثل هذه الصيغة كفيلة بان تنسجم وتوقعات الدول الغربية التي منحت اسرائيل تأييدها وأبدت تفهما لاحتياجاتها الامنية في اثناء الحملة. في ظل غياب اختراق سياسي ذي مغزى، من غير المستبعد ان في المدى القصير أو المتوسط ان ينهي معسكر ابو مازن وكل ما تمثله فتح بفروعها المختلفة دورهما التاريخي، فتبتلعا في نطاق الاسلام السياسي لحماس.

تكشف حملة "عمود السحاب" أبعاد المشهد الجغرافي – السياسي الجديد في الشرق الاوسط وتؤدي الى عدد من الاستنتاجات في مسائل الوساطة والزعامة الاقليمية. فتركيا تفقد الارتفاع وروافعها الدبلوماسية محدودة جدا. ومنذ بداية الحملة وان كانت تطلق صوتها بفظاظة تجاه اسرائيل، ولكن ليس لديها قدرة حقيقية للتوسط والتأثير. فالتأييد غير المتحفظ الذي منحه اردوغان لحماس والتصاقه الطويل للخط المناهض لاسرائيل بوضوح كلف دولته فقدان ذخائر جغرافية سياسية. بخطواته هذه فقد اردوغان اوراق المساومة التي كان يخيل أن تركيا حصلت عليها، وعلى رأسها مكانة القيادة الاقليمية على خلفية ضعف الدول العربية وعلى رأسها مصر.

في ضوء ضعف تركيا هذا، فان مصر مرسي بالذات تحصل على فرصة لان تتبوأ من جديد دورا هاما في الفراغ السياسي الناشيء. لقد فرضت "عمود السحاب" على الرئيس المصري اختبار زعامة في زمن حقيقي السلوك الناجح فيه كفيل بان يمنحه هو ومصر مرابح اقليمية ودولية. عندما تكون العيون في الداخل وفي الخارج تتطلع الى ما سيصدر عن لسانه، فانه توجد بالتالي للنظام المصري مصلحة واضحة في أن يري بان بوسعه ان يحقق الهدوء. فالتصعيد المتواصل يتعارض والمصلحة المصرية وذلك لانه سيشدد الانتقاد في الداخل ومن صفوف الاخوان المسلمين وسيستدعي من مرسي خطوات أكثر تطرفا من اعادة السفير، كالغاء اتفاق السلام مثلا. وستجبي مثل هذه التطورات بالضرورة ثمنا اقتصاديا وسياسيا باهظا من مصر في الساحة الدولية. وعليه فان مصر مرسي تسير على حبل دقيق والى جانب التأييد الصاخب ومسرحيات التأييد للفلسطينيين (زيارة رئيس الوزراء قنديل الى غزة، فتح معبر رفح لعبور الجرحى) امتنع مرسي عن خطوات من شأنها أن توجه ضربة شديدة للاقتصاد المصري. ينبغي الافتراض بالتالي بانه سيكون لمصر دور مركزي في كل وقف للنار، وذلك لانه في معادلة القوى الجديدة في المنطقة هي الوحيدة القادرة على ضمان الاتفاق.

في ظل غياب دور أمريكي نشط أو دور اوروبي ناجع، وفي ضوء وجود محور مشاورات حماسي – مصري (بدور محدود من قطر وتركيا) نشأ وضع تجري فيه مفاوضات في قناتين منفصلتين لا تلتقيان حاليا. في هذه الظروف، فان الوصول الى اتفاقات وصياغة شروط مقبولة لوقف النار يصبح مهمة صعبة على نحو خاص. هذا السلوك المتمثل بخطوط وساطة طويلة ومعقدة تمر بين القدس، واشنطن ومنها الى القاهرة وبالعكس، يوفر أيضا طول حياة أطول للمواجهة. اما إنهائها الاسرع فكفيل أن يبشر بعملية تشاور منسقة وأكثر نشاطا يشارك فيها لاعبون اقليميون ودوليون على حد سواء.