خبر حاذروا.. علي عقلة عرسان

الساعة 09:27 ص|20 نوفمبر 2012

 

"حاذروا الهائمَ في الحُب، ومصبوغَ القلادَة،

أن يصيرَ الحُبّ نوعاً من عِبادَة،

أن يصير الغدرُ أخلاقاً وعادَة،

أن يموت المرءُ حياً، ويلي النذلُ قيادَه،

حاذروا موتَ الإرادَة..

حاذروا موت الإرادة.".

ذاك ما عاجلني من قول وأنا أستمع إلى بعض خطباء الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب المخصص لغزة التي يستهدفُها العدو الصهيوني بأنواع حقده وأسلحته وناره وحصاره.. وحين أصغيت إلى نفسي وأنا أعيد عليها ما عاجلها من قول وأستذكر هول ما سمعت من قول، وجدتني أثبت ما عاجلها في مطلع مقالي هذا ربما لأثبت حالة مرت بي وربما لأصل بها إلى شركاء في الهم والمصير.. ولكن ما من شك في أنني أردت بذلك أن أؤكد على أن إرادة المقاتلين في غزة خاصة وفي مواقع المقاومة العربية ضد الاحتلال الصهيوني والأميركي عامة، وضد الاستعمر الغربي في أرجاء الوطن العربي، كانت وما زالت أكبر وأعظم وأشد سطوعاً من أن ينال منها ما أريد إيصاله إليها بطريقة ما في الوقت الذي تزف فيه شهداءها وأطفال غزة إلى المقابر، ولأقول لمن يعنيه أن يستمع ويدكر: "إن المقاومين في غزة على الخصوص، وهم بين حصاري العدو الصهيوني وبعض أمتهم، أقوى إرادة وأشد عزماً وأكثر ثباتاً على الحق والمبدأ، من أن يزعزع عزيمتهم رأي وأن يشل إرادتهم حصارٌ جديد أو عزلٌ يستهدف إرادتهم بصورة خاصة، وإنهم أكبر من أن ينال منهم من يريد أن يبلغهم، من منبر الجامعة العربية وفي وقت الشدة والمحنة، أن مقاومتهم معزولة، وأنهم وحدهم، وأنه لا مجال لمناصرتهم بالسلاح والرجال، فالعرب اختاروا " السلام أولاً وأخيراً ولا شأن لهم بالحرب"، وأن الإسرائيليين "ليسوا ذئاباً.."؟! في حين أن معظم العرب " نعاج"؟! ومضمون الرسالة تشي به مفرداتُها ودلالات تلك المفردات وتوقيتُها والموقعُ الذي قيلت فيه وما يرتبط بذلك أو يغنيه مبنى ومعنى بصورة ما.. أما خلفياتها البعيدة فيُسأل عنها أصحابُها، وتُسأل عنها الحركة الصهيونية وأدواتها مثل "تسيبي ليفني" وأخواتها.!!. 

لن يفتَّ ذلك في عضد المقاومة الفلسطينية خاصة والعربية في أقطار من وطننا عامة، ولن يجعلها ترمي السلاح وتستسلم للعدو أو تختار الخيارات التي تقود إلى الاستسلام المزخرف بكلمات " سلام" مجردة من فلسطين "الأرض والتاريخ والذاكرة والمقدسات"، ومن حق عودة الشعب الفلسطيني إلى وطنه التاريخي وتقريره لمصيره بحرية تامة فوق ترابها المحرر مهما طال الزمن.. وأنا أعرف جيداً ثوابت المقاومين الفلسطينيين وغيرهم ممن عركتهم رحى الحرب وثبتوا على الحق والمبدأ والهدف منذ تأسيس المقامة في ستينات القرن الماضي وحتى اليوم، وأعرف الجذور العميقة والأهداف البعيدة للمؤسسين الكبيرين الشيخ أحمد ياسين والدكتور فتحي الشقاقي رحمهما الله اللذين يتجذر تنظيمهما في غزة مع فصائل المقاومة الأخرى، وأعرف بعض من سلَك دربهما ومن ينتظر وما بدل تبديلا.. وأعرف بالمقابل بعض ما يمكن أن يدرج في باب الأمراض وأعراض الأمراض وما يشكل قوام بعض الحقائق الحياتية، وأكثر ذلك شروراً ما يصيب الأحول السياسية المرتبطة بحياة الناس ومصالحهم ومصائرهم، ومما أعرف من ذلك "أن الهوى غَلَّاب"، وأنه يجعل صاحبه قد يُردي صاحبه ويجعله يتردى فيرى ما لا يُرى ويحكم بما لا يجوز الحكم به، ويميل به حاله إلى حيث يمميل قلبه وتشاء عواطفه ودواخله وأمانيه وتتحكَّم وتحكم، وأن الهوى يلجمه عن قول ما ينبغي أن يُقال في مواقف ومواقع تحتم على الرجال أن يقفوا مواقف الرجال.. وربما لهذا السبب عَذَرت العربُ من غلب الهوى على أمره ولكنها لم تسلمه قيادها وسَوْسَ أمورها وقرار إرادتها.. وجذور العذر وأبعاده وآفاقه مكثفة في قوله تعالى: ﭽ ﭶ  ﭷ  ﭸ  ﭹ      ﭺ  ﭻ  ﭼ    ﭽﭾ   ﭼ الأحزاب: ٤

من الأمور المؤسفة أن تتهافت مؤسساتنا القومية ويتهافت خطابنا السياسي العربي في وقت نحن أحوج ما نكون فيه لمؤسساتنا قوية ولخطابنا السياسي متيناً شاملاً واضحاً معبراً عن وجدان الشعب وحال الأمة وتطلعاتها، ومشتملاً على كل العناصر التي تجعله مسموعاً ومؤثراً ومستجاباً، ولا سيما في مواقف مثل هذه المواقف.. ومن أسف أن لسان حال البعض منا ينال منا ويعبر عما يريده الآخرون فتاكاً بنا وعما يريدون إيصاله إلينا فعالاً بطرق شتى، ومن أسف أن يرتفع بيننا الصوت الذي لا يحمل نضجاً ليصبح لسان الحال ودليل الأعمال والغاية والمآل، ومن أسف أيضاً أنه إذا ما ارتفع صوت ناضج بحق وبمسؤولية في مواقف وأوقات لم تواكبه الأفعال وتخلت عنه الممارسات، فيصبح لقيطاً لا يعترف به أحد ويتنكر له الجميع.!!. إننا بأمس الحاجة إلى مؤسساتنا القومية قوية ومعافاة ومبرأة من الأمراض والانحياز والهوى وغير محكومة بسياسة آخرين من خارج البيت العربي أو بمصالحهم وتحالفاتهم، وأياً ما كان وضعنا اليوم وتمزقنا المؤسف المسبب لضعفنا فإنه ينبغي ألا يستمر الحال على هذا المنوال لأن مثل هذا الوضع مدمر من جهة ومنافٍ لحقائق الحياة التي هي حركة يواكبها التغيير، ولأن كلاً منا يحتاج إلى الآخر في كل مجال ابتداء من الأمن المتبادل والاستقرار البناء إلى التنمية الشاملة والآفاق التقنية والعلمية والحضارية الأبعد، فلا يعقل أن تقدم الأمة لأجيال من أبنائها البطالة والجهل ومواريث من الضغائن والأحقاد وانسداد الأفق واليأس وتطلب منهم البناء والتقدم والتحرير والتفوق وممارسة " الديمقراطية والحرية بمسؤولية"؟!.. كل منا يحتاج إلى الآخر لأن أياً منا لن ينهض ويحقق اكتفاء ذاتياً بمفرده، وأن يعتمد على أخيه في ذلك أفضل من أن يعتمد هو وأخوه على آخرين قد يكون بينهم أعداء ألداء لهما، ونحن أحوج إلى ذلك لأننا جسد واحد، كيان عضوي تتكامل أعضاؤه في هيئة واحدة.. وإذا ما وضع أحدنا مقدراته ومقومات حمايته بيد غريب فإنه يسلمه رقبته وقياده ويتنازل له عن الإرادة والكرامة.. فما الذي سيبقى منه يا ترى إذا بقي عصفوراً مقروراً ذاوياً في قفص آخرين غرباء، ولم لا يغرد هو وأخوته بحرية وأمن على شجرة عملاقة تنشر ظلالها على بيتهم؟! إن الوطن العربي باقٍ والساسة يمضون، والخلافات لا يمكن أن تتأبد ولا بد من أن تزول ليحل محلها وفاق أو اتفاق أو تبادل مصالح واعتماد متبادل يقوم على أسس من الثقة أو يتم شيء من ذلك بسبب من الاضطرار والحاجة وحماية الوجود.. هذا إذا لم نصل إلى وعي عميق شامل يجعلنا ننصاع لمتطلبات المصلحة العربية العليا بإرادة شعبية عليا ستفرض نفسها على الساسة في يوم من الأيام.. فهل نؤسس اليوم لما سيبقى أم ترانا نؤسس لما هو إلى زوال؟! إن المتأمل في الأحوال والمآل يقرأ المشهد العربي جيداً ويستشف صورة المستقبل ببعض وسائل الاستدلال.

لو أننا كنا على غير هذا الحال من التبعية والتمزق والشقاق والاقتتال والائتمار أحدنا بالآخر لما جرؤت " إسرائيل" على العدوان على غزة وإحكام الحصار عليها لسنوات وأهلها يصرخون ولا من مجيب، ولما وقف لبنان وحده في تصديه للعدوان الصهيوني الهمجي مرات ومرات، ولما رفض الكيان الصهيوني باحتقار مهين، منذ عقد من الزمان، مبادرة عربية هي التنازل المذل بعينه للعرب والانكسار بذاته أمامه!!.. مبادرة بإجماع عربي تكرسه جزءاً من المنطقة وهو المغتصب لفلسطين بالإرهاب، وتعترف به دولة، وتتكفل بحمايته، وتعطيه أكثر من 70% من فلسطين التاريخية التي لا يستحق شبراً واحداً منها.. ولما بقيت أرض عربية محتلة، ومعظم شعب فلسطين وجزء من الشعب في الجولان وجنوب لبنان في حالة تشرد، ولما استشرى الاستيطان الصهيوني، و مُسَّت القدس في الصميم، وهُدِّد الأقصى، واستُنزِفت أقطار عربية بعد أقطار، وبقيت الأمة كلها بلا قطار يحملها إلى المستقبل.. ولما.. ولما.. ولما.. إلخ، نحن يأكل بعضنا بعضاً ونتباهى ونحن في أحضان الآخرين قططاً أليفة بأننا نمور ضد بعضنا بعضاً؟!.

إن في هذه الأمة كل الإمكانيات التي تجعل منها أمة متقدمة وقادرة على أن تحمي نفسها وأرضها ومصالحها وثرواتها، وأن تستعيد مكانتها الحضارية بين الأمم، وتؤسس لأركان نهضتها بكفاءة وجدارة وسرعة.. ولكن العيب في السياسات والقيادات والإرادات، ولا شك أنه موجود في قطاعات أخرى منها ثقافية واإعلامية واجتماعية فتك فيها الفساد والإفساد.. وإذا ما راودنا شك في ذلك الذي نزعم أنه قدرات وكفاءات وطاقاتفي الأمة فلننظر إلى ما حققته ثورات ومقاومات وإرادات شعبية على أرض الواقع، وإلى صمود في وجه العدو الصهيوني ومؤامرات الغرب الاستعماري منذ عقود وعقود من الزمن، ونحن ندرك أن لدينا إمكانيات وطاقات وكفاءات، ولدينا شباب وشابات لا تنقصهم الشجاعة والإرادة والكفاءة ولكن ينقصهم أن يزجوا بمنهجية وتنظيم في البنَّاء من المشاريع والأفعال والتصرفات، وينقصهم أن تستثمر طاقاتهم وأن تنمى بالتعليم والتدريب وفق منهجية علمية ليكونوا إداة بناء لا أدوات هدم، وسياجاً للوطن لا خروقاً في سياجه، وليكونوا شوكة في عين الأعداء لا خناجر في خواصر بعضهم بعضهم ورماحاً في صدر أقطارهم ومدنهم وإخوانهم!!.. إن ما لدينا من قوى وإمكانيات وإرادات وثروات وأموال أكثر بكثير مما يلزم لنهضة شاملة متكاملة ولكن المصابين بالخلل والعلل والهوس والهوى والميول المريضة والأمراض الاجتماعية والروحية المستعصية، وبالتبعية المزمنة من بيننا، لا سيما في الميدان السياسي، هم أساس الداء ومصدر البلاء وسبب الابتلاء.. إنهم يتصدرون المشهد، ويحكمون بلا خبرة ولا حكمة ولا اقتدار، ويتنطع بعضهم لمهام ل شأن له بها، وفي حالات كثيرة يوظف الكبار ما لا يُحد من الأموال والطاقات للاقتتال الداخلي والهدم وإذلال بعضهم بعضاً ولا يكادون يوظفون شيئاً يذكر من تلك الأموال والطاقات من أجل تحسين ظروف الإنسان والعمل والإنتاج وإقامة المشاريع القومية الكبرى تاسيساً للنهضة العربية الشاملة!! إنهم يؤسسون الجيوش ويستنفرون الجيوش ويبتكرون المقاتلين ويستبد بهم الاقتتال بشراسة لا نظير لها حين تشتعل شراراة النار فيما بينهم ويركبون رؤوسهم حتى النفس الأخير.. ولكنهم حيال أعداء الأمة يعطون ظهورهم للعدو والحدث المتصل به!! هذا عجيب وغريب في بابه؟! ليس هذا بسبب نقص في الرجولة والشجاعة والكفاء والقدرة وعدد الرجال بل هو سوء توظيف وسوء سياسة وسوء إدارة وارتباط مشبوه أو إئتمار على الذات العربية إرضاء لمن لا ترضيه أمة العرب إلا إذا كانت ميتة أو خانعة أو تطفئ نار داحس والغبراء لتشعل نار صفين وكربلاء وأخواتهما؟!

إننا في خضم المعاناة اليوم وما يزيد في الطنبور نغماً أن ما يحدث اليوم يؤسس لما هو أدهى وأمر غداً، حيث يحفر " المسؤولون والمكتوون بالنار والكاوون غيرهم بها، ومن يتآمر على الجميع، ومن يبيعهم في السوق ويشتري بهم.." كل منهم يحفر خنادق لغد، وتلك الخنادق تحفَر في الأنفس والقلوب، تحفرها فئات ضد فئات، وشيع ضد شيع.. أفما يكتفي أهل الفتن السياسية والثارات والشهوات والمقامات بحطب اليوم يشعلونه حتى يحتكروا حطب المستقبل لتبقى النار مشتعلة في أثواب الأمة وأبنائها، بينما المستقبل تصنعه أمم وأجيال؟!

لا بد من خروج من الأزمة، أزمة غزة، أزمة فلسطين، الأزمة السورية، الأزمة في لبنان، في الصومال، في السودان، في العراق، في الكويت، في الأردن.. في.. في.. كلٌ في أزمة أو شبه أزمة؟! ومن ليس لديه أزمة في قطره أو في قطرٍ جارٍ له.. يعيش أزمة الأمة كلها إن كان ممن رزقوا أو " رزئوا" بهذا الإحساس.. ولكن لا بد من أمل ولا بد من مخرج أو مخارج من الأزمات، والمخارج المجدية يصنعها الوعي والانتماء بشرف لأمة تشرِّف من ينتمي إليها، إذا ما عرف ما لها وما عليها معرفة موضوعية شاملة أو شبه شاملة.. فلنحاذر أن تستشري الأزمات ويغمرنا صناعها والمتاجرون بها بفيض جاهليتهم وجهالتهم وتطرفهم وحقدهم وقصر نظرهم.

أما عني فإن لدي فوق ما أشرت إليه من أزمات الأمة أزمة أضيق ولكن بعدها الإنساني أوسع، وهي أزمة تتصل بالأزمة السورية ونتائجها وبأزمات أخرى قد لا تكون مثلها.. ففي هذا الشتاء هناك من يعانون في مخيمات داخل سورية وخارجها، وفي غزة والسودان والصومال وحتى الروهنغا.. وغيرهم من بلدان عربية وإسلامية، ذلك لأن الناس هجَروا بيوتهم أو هجِّروا منها، وبعضهم يبني خيمة فوق أنقاض بيته أو تحت شجرة، وبعضهم يعيش في مخيمات بعيدة وينظر إلى داره والحسرة والدمعة في الصدر والعين، فلا بارك الله في من يتسبب في هذا البلاء للناس، ولا بارك الله في من لا يسعى إلى إيجاد حل عاجل وشامل لهم، فهم منا وإلينا، لحمنا ودمنا، إنسانيتنا وأخلاقنا أولاً وآخراً.. فهل نقبل أن تذبل أرواحنا وأخلاقنا مثلما تذوي أجسادهم ونفوسهم؟!

ذبُل النباتُ وأصحرَ الحقلُ                  

                      وغدت خدودُ بناتنا صُفْرُ

وقوافل منهن في ضَنَكٍ

                        وقوافلٌ في " الزَّعْتري" تَجْرُ

وتنافرَت أرواحُنا  شيعاً

                       ومن الرِّقاب سيوفُنا حُمرُ

نسقي بأيدينا صنوف الردى

                           أندادَنا، والفائزُ القبرُ

لا بارك الله زماناً غدا

                       قتل الأخوِّة غِبَّه النصرُ

 

دمشق في 20/11/2012