خبر تحقيق : غزة مقبرة الأطفال الخدج!!

الساعة 08:33 م|15 أكتوبر 2012

حسن دويحان

يتذكر الشاب زياد أبو هداف ليلة 13 نيسان 2012 بأوجاعها وآلامها، وكأنها كابوس يطارده في يقظته ونومه.

فالمستشفى الاماراتي، واحد من سبع مشاف حكومية تحتوى على 114 حاضنة عاملة في أقسام التوليد التابعة لهذه المشافي في أخصب بقعة سكانية في العالم، يرفض المستشفى توليد زوجته وتوائمها الأربع قبل أوانها لعدم وجود مكان في حاضناته الست.

حالة من القلق بدأت تشتعل في جسد زياد بينما يزداد صراخ وآلام زوجته، أمسك بهاتفه المحمول واتصل بأصدقائه وأفراد عائلته طالبا اليهم مساعدته في البحث عن مشفى يحتوي حضانات فارغة تنقذ توائمه الأربعة.

وانطلق الجميع في سباق مع الزمن من المستشفى الأوروبي الى مستشفى ناصر الطبي.. الى مستشفى شهداء الأقصى في رحلة استغرقت أربع ساعات، قبل أن يتلقى اتصالا بأن مشفى الولادة في مجمع الشفاء الطبي بغزة سيستقبل الزوجة، لتقطع مسافة 40 كم من رفح الى غزة وحالتها تزداد سوءا.

ولم يكد زياد يتنفس الصعداء بعد انجاب زوجته لتوائمه الأربعة: محمد، محمود، أنس وعبد الرحمن بعد اجراء عملية طبية -زراعة أطفال الأنابيب-، ليتفاجأ بالأطباء يبلغونه بأن رئتي أطفاله لم يكتمل نموها، مخفين عنه حاجتهم الى ابرة «السيرفاكتنت» التي تساعد على نمو الرئتين لدى الأطفال الخدج.

يتضاءل الأمل، تتلاحق أنفاسه ويشحب لونه قبل أن يأتي الخبر المشؤوم بوفاة رضيعه الأول بعد ست ساعات على ميلاده لتتوالى على مدار 15 يوماً أخبار وفاتهم واحداً تلو الآخر، وتضيع عليه خمسة آلاف دولار جمعها خلال ثلاث سنوات لتغطية تكاليف عملية الزراعة (التلقيح) وتوابعها للمرة الثانية.

لاحقا فقط علم من الأطباء أن تلك الابرة يجب أن تعطى للأطفال في غضون 24 ساعة بعد الولادة على أقصى تقدير. ثمن الابرة الواحدة من هذا النوع-ان وجدت في صيدليات القطاع- ألف دولار، في بقعة يعيش 38.8% من سكانها تحت خط الفقر حسب جهاز الاحصاء المركزي الفلسطيني معتاشين على 12 دولارا يومياً لأسرة مكونة من خمسة أفراد بالمعدل.

كابوس أبو هداف (27 عاما) يشبه ما يمر به آلاف الأمهات والأباء الذين يحبسون أنفاسهم على مدار شهور الحمل، بانتظار مولودهم الجديد في قطاع يبلغ معدل الولادة فيه سبعة أفراد لكل أسرة فيما لا تحتوى مشافيه الخاصة على أي حاضنات.

أزمة في الحاضنات

وتتفاقم المشكلة أكثر في حال الولادة المبكرة نظرا لقلة الحاضنات حيث يحتاج قطاع غزة الى زيادتها بنسبة 300%، وتوقف وزارة الصحة في القطاع منذ عام 2004 عن جلب ابرة السيرفاكتنت مبررة ذلك بارتفاع تكاليفها، معطوفا على ذلك قلة عدد الأطباء والممرضين المتخصصين في أطفال الخداج والقادرين على التعامل مع متطلبات هذه الإبرة، وكذلك قدم الأجهزة وعدم صيانتها بشكل دوري، خصوصا أجهزة التنفس وأجهزة التشخيص والتصوير التلفزيوني ونقص الأدوية والمستلزمات الطبية الضرورية للولادة.

ويقول د. مدحت محيسن مدير عام المستشفيات في وزارة الصحة بقطاع غزة: ان أعداد الحاضنات زادت بنسبة 20% خلال العام الجاري لتصبح 114، نحن بحاجة عاجلة لأكثر من 50 حاضنة، وننتظر تبرعات المانحين من اجل ذلك، خصوصا أن موازنة وزارة الصحة بغزة ليس فيها أي مبالغ لاقامة مشاريع الا عبر المتبرعين».

واضافة الى تلك التحديات، يعقد أمر أطفال الخداج ضعف امكانية التنبؤ بحدوث الولادة المبكرة لتجهيز «طلبية ابر سيرفاكتينت»، خصوصا لعدم متابعة الأمهات الحوامل عند أطباء مختصين علما أن دراسات منظمة الصحة العالمية تؤكد بأنه يمكن تفادي حوالي 75٪ من الوفيات في الأطفال الخدج اذا قدم لهم العلاج والعناية اللازمتين.

وزارة الصحة بغزة والمسؤولية

وتبدأ المشكلة عند وزارة الصحة في غزة، فهي، خلافا لوزارة الصحة في الضفة، قررت عدم توفير ابر السيرفاكتنت ووضعتها على لائحة «الأدوية المكملة» التي تحتاج الى موافقة لجنة خاصة لجلبها، هذا ان طلبها الأطباء وهو ما لا يحدث الا في حالات نادرة، بعكس صيدليات الضفة التي تبيعها، فأن صيدليات القطاع لا تجازف بجلبها لارتفاع ثمنها وعدم رغبتهم في المجازفة.

وأمام هذا الوضع، لا يبقي حل أمام من يرزقه الله بطفل خداج الا الاستنجاد بالصليب الأحمر الدولي لتوفير الابرة من الضفة أو تحويل الأم نفسها الى مشافي الضفة المزودة بحاضنات، لتبدأ بعدها عملية تخطي الاجراءات البيروقراطية لكسر الحصار الاسرائيلي المفروض على القطاع وجلب الابرة من رام الله أو تحويل المريض وهي عملية تستغرق شهرا كاملا في بعض الأحيان.

الواسطة

المحظوظ هو صاحب الواسطة؛ فالأطباء لا يصارحون سوى أصحاب النفوذ وأقاربهم بحاجة المواليد الخداج للسيرفاكتنت، بينما يخفون تلك المعلومات عن بقية المواطنين، كما حدث مع أكثر من عشرين حالة التقيناها خلال اعداد هذا التحقيق.

فبعكس توائم أبو هداف، تمكن المواطن احمد الغلبان (34 عاماً) من الحصول على تحويلة علاجية لزوجته لمشفى المقاصد بالضفة، لتتكلل عملية التلقيح الاصطناعي بالنجاح وينجو أربعة من توائمه الخمسة من الموت بعد اعطائهم ابرة السيرفاكتنت اللازمة لنمو الرئتين.

وتشير رئيسة قسم الحضانة في مشفى ولادة الشفاء الأخصائية حنان الوادية الى أن الأطباء قاموا بابلاغ نجل احد أصحاب النفوذ بضرورة جلب علاج «سيرفاكتنت»، وبالفعل جلب الابرة عن طريق الأنفاق على الحدود الفلسطينية المصرية من مصر مما ساعد في الحفاظ على حياة مولوده.

وتمر عملية التحويل الى مستشفيات الضفة من القطاع باجراءات معقدة، تبدأ بحصول المريض على نموذج رقم(1)، ثم الحصول على موافقة دائرة التحويل للخارج، يليها الحصول على تصريح اسرائيلي للمرور للضفة يستغرق أياما أو أسابيع أو يواجه الطلب بالرفض.

ابرة باهظة الثمن

ويشير مدير مستشفى الولادة في مجمع الشفاء الطبي د. حسن اللوح الى أن «ابرة السيرفاكتنت» باهظة الثمن «فحتى وان وصلت بطريقة ما الى غزة، فان الفقراء لن يكون بمقدورهم شرائها لارتفاع سعرها في الصيدليات، حيث تباع الواحدة بألف دولار» بينما تبلغ تكلفتها على وزارة الصحة في الضفة 500 دولار».

ويقول د. عبد الكريم البواب، رئيس قسم الحضانة في مشفى الولادة بمجمع ناصر الطبي بأن السبب وراء عدم ابلاغ أهالي أطفال الولادات المبكرة بوجود نقص في ابر السيرفاكتنت هو الخشية من الوقوع في مشاكل مع أهل الطفل أو الحاحهم على نقله للعلاج في الخارج. وتعد العناية المركزة والحضانة في مستشفى الشفاء الأكبر من حيث عدد الأسرة والاتساع حيث تتسع ل 38 حاضنة لكن نسبة الدخول للحضانة أعلى من قدرتها الاستيعابية ما يضطر الأطباء الى وضع الأطفال الخدج في حضانة أخرى لا يوجد بها خدمة العناية المركزة.

غياب الاحصائيات

ويعد الحصول على أرقام رسمية لوفيات الخداج عملية معقدة؛ فوزارة الصحة في القطاع لا تسجل وفيات الخدج وتكتفي باحصاء المواليد بشكل عام.

وبحسب التقرير السنوي لوزارة الصحة، بلغ عدد المواليد العام الماضي 57.804 مواليد احياء. وتشير دراسات منظمة الصحة العالمية حول الولادة المبكرة لعام 2012 الى وجود «تفاوت في معدلات البقاء على قيد الحياة للأطفال الخدج وفق البلد»؛ ففي البلدان المنخفضة الدخل حال قطاع غزة، فان نصف الأطفال الذين ولدوا في الأسبوع 32 (شهرين في وقت مبكر) يموتون بسبب نقص الرعاية الممكنة بينما في البلدان ذات الدخل المرتفع، تكتب الحياة لجميع أطفال الولادات المبكرة تقريبا.

وتقدر منظمة الصحة العالمية عدد الولادات المبكرة في 184 دولة ب 15 مليون طفل كل عام (قبل 37 أسبوعا من انتهاء الحمل)، ويتوفى منهم 1.1 مليون طفل نتيجة لمضاعفات الولادة المبكرة، دون تقديم احصائية دقيقة عن عدد الوفيات منهم في كل دولة..

الا أن جولة ميدانية قام بها معد التحقيق شملت اربعة من سبعة مشافي تستقبل الولادات كشفت عن نسب تقريبية تفيد بوفاة نحو 25% من أجمالي عدد الأطفال الخدج المولودين.

وتشير الاحصائية التي جمعتها د. حنان الوادية رئيسة قسم الحضانة في مستشفى الشفاء، الى دخول 1367 حالة ولادة للقسم عام 2011، نصفهم تقريبا حالات ولادة مبكرة، توفي حوالي ربعهم. بينما دخل الحضانة خلال السبعة شهور الأولى من العام الجاري 457 حالة ولادة مبكرة توفي منهم 132 طفل.

وفي مجمع ناصر الطبي بخانيونس جنوب قطاع غزة لم يتم ادراج تصنيف الولادات المبكرة سوى في النصف الثاني من العام الجاري حيث تظهر أرقام المشفى استقبال الحضانة 57 حالة ولادة مبكرة خلال أشهر حزيران، تموز، آب 2012 توفي منهم 14 حالة أي بنسبة تقترب من 25%. أما في المشفى الأوروبي، فقد تفرغ الطبيب المسؤول ماجد حسنين لعمل احصائية يدوية أظهرت دخول 49 حالة طفل خداج خلال الثمانية شهور الأولى من العام الجاري 2012 توفي منهم 20 طفلاً بنسبة تزيد عن 40%، وبينت احصائية الثمانية شهور الأولى من العام الجاري في حضانة مستشفى النصر دخول 35 حالة طفل خداج محولة من المستشفيات المجاورة والعيادات الخاصة توفي منهم أربعة حالات.

السيرفاكتنت والمستودعات

وبدورها رفضت وزارة الصحة في قطاع غزة توفير تبريرات مقنعة لشطب ابرة السيرفاكتنت عن لائحة الأدوية التي توفرها مجانا. ويقول مدير عام المستودعات في وزارة الصحة بغزة د. زكري أبو قمر بأن إبر «سيرفاكتنت» ليست ضمن القائمة الرئيسية للأدوية والبالغ عدد أصنافها فوق ال 500 صنف في غزة والتي لم يجر تعديلها منذ عام 2005. لكنها توجد ضمن قوائم تسمى «بالمكملة» أي غير الأساسية والتي تحتاج لجنة خاصة لطلبها بناء على توصية اللجنة المختصة.

ويضيف أبو قمر «ليس لدينا القدرة على شراء الأدوية بشكل مستقل عن مناقصة وزارة الصحة في رام الله، ونحن نعتمد على الأدوية التي يتم توريدها لنا من رام الله وهناك عجز كبير في الأدوية الرئيسية (...) وخصوصا المرتفعة الثمن».

ويشير الى أنهم منذ منتصف العام الجاري قاموا بطلب عشرة ابر من السيرفاكتنت من وزارة الصحة في رام الله، وكل شهرين يجددون الطلب، ولكن هذه عجزت عن توفيره نتيجة نفاده من مستودعاتها، «استطعنا توفير خمسة ابر منها كتبرع من الصليب الأحمر لكنها نفدت» ينوه أبو قمر.

ويشير المسؤول، الى ما وصفه «بعدم التنسيق بين لجنة غزة ولجنة الضفة الخاصة بتوفير الأدوية الأساسية أو المكملة نتيجة حالة الانقسام لرفض رام الله التعامل معنا». وأكد بأن منظمة الصليب الأحمر الدولي ومنظمة الصحة العالمية تقومان بدور الوسيط بين وزارتي غزة ورام الله. لكن المدير في مستودعات وزارة الصحة برام الله الدكتور رزق عثمان، يرفض هذه الاتهامات ويقول بأن ابر السيرفاكتنت موجودة لكنها لا تصل غزة لعدم طلبها من قبل المختصين.

وفي الأثناء تصر د. حنان الوادية بأن مشفى الشفاء «وضع حقن السيرفاكتنت ضمن قائمة الأدوية التي تحتاجها». أما المشفي الأوروبي فلا يزال ينتظر وصول ستة حقن سيرفاكتنت شهرياً لدورها في التقليل من نسبة الوفيات بين الأطفال الخدج منذ عدة شهور.

وتستمر معاناة الأهل الذين يترقبوا مواليدهم خوفا من ملاقاة مصير ابو هداف، وسليم أبو دية (45 سنة)، والذي حاول الاستنجاد بالصليب الأحمر لتوفير الحقنة من الضفة لانقاذ توائمه الخمسة، لكن الابرة وصلت متأخرة، فقد كانت يد الموت أسرع اليهم.