خبر قراءة فى المشهد السياسى الراهن..د. حسن نافعة

الساعة 04:23 م|09 سبتمبر 2012

 

فى ختام هذه السلسلة من المقالات ربما يكون من المفيد تقديم إطلالة على السيناريوهات المحتملة لتفاعلات المشهد السياسى الراهن فى مصر، الذى أفرزته التطورات التى طرأت على نمط العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين، من ناحية، والمجلس العسكرى، من ناحية أخرى، منذ اندلاع ثورة يناير ٢٠١١.

 وقد أوضحنا، فى مقالين سابقين، أن نمط العلاقة بين الجماعة والمجلس العسكرى غلب عليه الطابع التعاونى فى البداية، ثم راح يأخذ منحى صراعياً، وصل ذروته مع قرار الجماعة خوض الانتخابات الرئاسية، قبل أن يحسم فى النهاية لصالح جماعة الإخوان بعد أن تمكن مرشحها ليس فقط من الفوز بالمقعد الرئاسى، وإنما أيضا من إنهاء الدور السياسى للمجلس العسكرى. واختتمنا مقال الأسبوع الماضى بالتأكيد على أن الوضع الراهن يثير مخاوف مشروعة لدى كثيرين، ويطرح تحديات ومخاطر لا يجوز التقليل من شأنها، لكنه يتيح، فى الوقت نفسه، فرصاً يمكن، إذا ما أُحسن استغلالها، أن تساعد على إخراج البلاد من أزمتها المركبة الراهنة.

لقد كشفت تفاعلات الأشهر القليلة الماضية عن مجموعة من الحقائق السياسية يمكن، فى تقديرى، إجمال أهمها على النحو التالى:

١ـ وجود تيار سياسى إسلامى قوى، تشكل جماعة الإخوان المسلمين نواته الصلبة، من المتوقع أن يظل يشكل أحد أهم مكونات المعادلة السياسية فى مصر لسنوات طويلة قادمة حتى وإن لم يتمكن من الاحتفاظ بثقله التصويتى الحالى.

٢ـ ليس من المحتم أن يتمكن هذا التيار، الذى قد لا يقل ثقله التصويتى فى جميع الأحوال عن ٢٥% من إجمالى الناخبين، من الهيمنة المنفردة على الحياة السياسية فى مصر إلا فى ظروف استثنائية مثل الظروف التى تمر بها مصر حاليا.

٣ـ ليس من المتوقع فى الوقت الراهن، أو فى المستقبل القريب، ظهور حزب أو تيار سياسى قوى وقادر على إحداث توازن فى معادلة سياسية تبدو الآن مختلة إلى حد كبير، لكن ليس من المستبعد قيام تحالفات سياسية ظرفية، فى المستقبل القريب أو البعيد، قادرة على الحد من هيمنة تيار الإسلام السياسى على الساحة، وربما إلحاق الهزيمة به فى معارك سياسية بعينها إذا ما توافرت ظروف أو أوضاع سياسية واجتماعية معينة.

٤ـ ستظل المؤسسة العسكرية المصرية، بحكم الموازين الحقيقية لبنية القوى والمؤسسات السياسية والاجتماعية، أحد أهم مكونات المعادلة السياسية فى مصر، ولفترة طويلة قادمة، بصرف النظر عما جرى خلال المرحلة الانتقالية، وبالتالى ستظل قادرة على ممارسة تأثير مباشر، وإن كان من وراء ستار، على مجمل تفاعلات مصر السياسية، خاصة فى أوقات الأزمات.

وتأسيساً على هذه الحقائق، يبدو لى أن النظام السياسى المصرى سيواجه، خلال الشهور القليلة القادمة، معضلتين أساسيتين يتعين عليه إيجاد حلول حاسمة لهما، وإلا فسيدخل لا محالة مرحلة من عدم الاستقرار قد تفضى إلى حالة من الفوضى الشاملة:

المعضلة الأولى: تخص تيار الإسلام السياسى بتشكيلاته وفصائله المختلفة والذى تسوده الآن حالة مزاجية تصور له أن الفرصة باتت سانحة أمامه للهيمنة على جميع مفاصل الدولة ولاستخدام ما تتيحه من آليات وأدوات سلطوية لإعادة صياغة بنية المجتمع ونظامه القيمى وفقا لرؤيته الأيديولوجية الخاصة.

المعضلة الثانية: تخص قوى وتيارات سياسية ذات مرجعية فكرية مختلفة تماما، ترى فى الصعود المرحلى لتيار الإسلام السياسى دليلا على درجة الانحطاط التى قادت إليها سياسات النظام القديم، وتعتقد أن المجتمع لن ينهض أو يتقدم إلا باستئصال هذا التيار أو بتهميشه.

ولا جدال فى أن الصراع المحتدم بين هذين التيارين، الاستبعاديين بطبيعتيهما، كان من بين أهم الأسباب التى أوصلت مصر إلى حالة الاستقطاب الراهنة بكل ما تنطوى عليه من خطورة. ولأن تيار الإسلام السياسى، خصوصا بعد التمكين للدكتور محمد مرسى، أصبح الممسك بزمام السلطة والمتحكم فى صياغة قواعد النظام الجديد، فمن الطبيعى أن تقع على عاتقه مسؤولية خاصة فى وضع حد لهذا الصراع وإنهاء حالة الاستقطاب الراهنة.

لو أن المجلس العسكرى كان قد أدار المرحلة الانتقالية بحس وطنى متجرد من المصالح الذاتية والفئوية، لكانت هذه المرحلة قد انتهت ببناء نظام سياسى مكتمل المؤسسات والقواعد والآليات وصالح لإدارة شؤون الدولة والمجتمع. غير أن سوء إدارة هذه المرحلة أفضى فى النهاية، وبصرف النظر عن الأسباب والدوافع الحقيقية، إلى تسليم مقادير البلاد إلى الدكتور محمد مرسى، الذى تم انتخابه بأغلبية تقل عن ٥٢% من أصوات ناخبين لم يذهب نصفهم إلى صناديق الاقتراع أصلا، وفى غياب دستور يحدد اختصاصات الرئيس المنتخب، وبعد حل مجلس الشعب عقب تدخل المحكمة الدستورية العليا، ومن ثم راح رئيس الدولة الجديد يمارس صلاحياته فى ظل أوضاع سياسية أقل ما يقال عنها إنها مرتبكة وعشوائية. وكان من الطبيعى، فى ظل لحظة استثنائية كهذه، أن يصبح مرشح الإخوان المسلمين ليس فقط رئيسا للدولة ولكن مسؤولا أيضا عن إدارة ما تبقى من مرحلة انتقالية لا يمكن لها أن تكتمل إلا باستكمال بقية مؤسسات النظام.

تقضى دواعى الإنصاف بأن أعترف بأن الحس السياسى المرهف الذى ظهر به الدكتور مرسى كان مفاجأة سارة لى، وربما لكثيرين غيرى. وقد تجلى هذا الحس السياسى بوضوح تام فى مناسبات كثيرة، منها: دوره فى قيام الجبهة الوطنية قبيل إعلانه رئيسا، وفى طريقة أدائه اليمين فى ظل إعلان دستورى مكبل، وفى خطب سياسية عديدة ألقاها فى مناسبات مختلفة، لكنه بلغ ذروته فى الطريقة التى أنهى بها الدور السياسى للمجلس العسكرى، والتى حفظت للمؤسسة العسكرية كرامتها وجنبت البلاد مصاعب كثيرة. ورغم أن هذه الطريقة، التى جمعت بين الحنكة والحسم، تحسب لصالح المؤسسة العسكرية أيضا، فإنها كشفت عن مواهب مبشرة فى شخصية مرسى تبدو مطلوبة حاليا وبإلحاح.

غير أن دواعى الإنصاف تقضى أيضا بضرورة البوح بأن الأداء السياسى الإجمالى للدكتور مرسى منذ توليه المنصب لم يكن مرضيا. فالحكومة التى شكلها تبدو ضعيفة، ومعايير اختيار المحافظين الجدد و«الفريق الرئاسى» لم تكن مقنعة، فضلا عن أنه لم يتمكن من الوفاء بالالتزامات التى كان قد قطعها على نفسه وتضمنها إعلان فيرمونت، خاصة ما يتصل منها بالسعى لإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية.

فى سياق ما تقدم، يبدو لى أن الأشهر الأربعة القادمة ستكون حاسمة فى تحديد ما إذا كان النظام السياسى المصرى يتجه بخطى ثابتة نحو الاستقرار، أم بخطى مرتبكة نحو الفوضى الشاملة. وسوف يتوقف ذلك، فى تقديرى، على مدى نجاح أو فشل الدكتور مرسى فى إنجاز:

١ـ دستور يليق بالثورة وينص بوضوح على تمتع جميع المصريين بحقوق المواطنة كاملة، ويتضمن آليات تكفل صونها وحمايتها.

٢ـ قانون انتخابى لا تحوم حوله شبهة عدم الدستورية، تجرى على أساسه انتخابات تضمن تشكيل برلمان يعبر تعبيرا صحيحا عن إرادة الناخبين. ولن يكون بوسع الدكتور مرسى إنجاز أى من هذين الهدفين ما لم ينجح فى تحقيق شراكة وطنية حقيقية تضم العقلاء والمعتدلين من كلا الطرفين.

ستشهد الشهور الأربعة القادمة، لا محالة، تطورات بالغة الأهمية، قد يكون بعضها دراميا، لكن إذا استطاعت مصر أن تعبر بسلام عقبة الدستور والانتخابات البرلمانية المقبلة، فسيكون بوسعها أن تتطلع بأمل نحو المستقبل. وتلك ليست مسؤولية تيار الإسلام السياسى أو الدكتور مرسى فقط، وإنما تقع مسؤولية العبور الآمن على الجميع. حمى الله مصر وشعبها من كل سوء.