خبر الثورة التصحيحية لتاريخ الجمهورية المصرية ..بشير نافع

الساعة 11:22 ص|23 أغسطس 2012

ـ القدس العربي ـ

أثارت التحولات الجارية في مصر بعض الجدل حول توصيف الجمهورية الوليدة، بعد إطاحة نظام مبارك في واحدة من أكبر الثورات الشعبية في زماننا وأكثرها ملحمية. لم يكن جدلاً واسع النطاق بالتأكيد؛ بمعنى أن طابعه لم يكن شعبياً، وظل محدوداً في أوساط المثقفين والنشطين السياسيين؛ ولكن هذا لا يقلل من أهميته ودلالاته. يصف قطاع من المثقفين العرب والمصريين القوميين جمهورية ما بعد الثورة بالجمهورية الثالثة، على اعتبار أن الجمهورية الثانية كانت تلك التي قادها الرئيسان السادات ومبارك، في انحراف عن الثوابت القومية والاستقلالية للجمهورية الأولى التي قادها الرئيس جمال عبد الناصر، ولسياسات العدالة الاجتماعية وتوسيع القاعدة الصناعية التي انتهجتها مصر الناصرية. ولكن قطاعاً آخر من المثقفين والنشطين السياسيين، ليبراليين وإسلاميين على وجه الخصوص، يصفون مصر الجديدة بالجمهورية الثانية، بدون أن يقدوموا دائماً المسوغات الواضحة لهذا التوصيف. ما يمكن أن يستشف في موقف هؤلاء أنهم يرون الجمهورية الأولى، من عبد الناصر إلى مبارك، في ضوء الخلفية العسكرية لقادتها، والدور واسع النطاق الذي لعبه الجيش في إدارة شؤون الدولة والبلاد. الجمهورية الثانية، في نظر هؤلاء، هي جمهورية الإرادة الشعبية الحرة، وعودة الشعب لاستلام مقاليد أمور البلاد والدولة.

لم يكن الانتقال من النظام الملكي إلى النظام الجمهوري، والذي استمر طوال عامين قلقين، من 1952 إلى 1954، سلساً. الأرجح أن مجموعة الضباط الأحرار، التي خططت وقادت حركة الجيش فجر يوم الثالث والعشرين من تموز/يوليو، لم تكن تقصد إطاحة النظام الملكي وإحداث تغيير شامل في بنية الحكم المصرية. على خلفية من اضطراب كبير في الحياة السياسية، وتضعضع أحوال البلاد وأوضاع العسكرية المصرية، أراد الضباط استخدام قوة الجيش لفرض إصلاحات سياسية وعسكرية واجتماعية. لم تكن مبادرة الضباط فريدة وغير مسبوقة. أغلب الضباط الأحرار جاء من دوائر عروبية إسلامية، كانت تعي وتراقب تطورات المحيط العربي والإسلامي، والكيفية التي تطور فيها دور الإنتلجنسيا العسكرية خلال حقبة ما بين الحربين في دول مثل تركيا والعراق وسورية. ولكن الضباط فوجئوا بالسرعة التي انهار بها النظام السابق، سواء المؤسسة الملكية أو الطبقة السياسية؛ وهذا ما جعلهم يمضون إلى خطوات أبعد مما ظنوا أن بإمكانهم أن يذهبوا إليه أو أن يحققوه. وفي النهاية، وبعد أقل من عام على الانقلاب، أعلن الضباط إلغاء الملكية وإقامة النظام الجمهوري في حزيران/يونيو 1953. بهكذا خطوة، وحتى قبل تبين جدية التوجهات الاستقلالية والاجتماعية، وقبل أن تتضج السياسة القومية العربية للحكم الجديد، كان الانقلاب قد أصبح ثورة.

ليس ثمة رواية نهائية للتاريخ، الذي هو بطبيعته عملية مستمرة، مفتوحة على الحاضر. وستظل الخلفية السياسة للضباط الأحرار، ومواقف القوى المختلفة، داخل وخارج البلاد، من ثورة تموز/يوليو محل جدل بلا شك. ولكن قلة يجادلون الآن في جملة من الحقائق: 1- أن عدداً ملموساً من قيادات الضباط الأحرار كان من الإخوان المسلمين، بما في ذلك عبد الناصر نفسه؛ وأن أحد روافد التنظيم كان مجموعة من الضباط المرتبطين بتنظيم عسكري للإخوان المسلمين. بعض الضباط الأعضاء في الإخوان، مثل خالد محيي الدين، ترك صفوف الإخوان مبكراً، وانتهت به رحلة البحث إلى إحدى التنظيمات الشيوعية. آخرون، مثل عبد الناصر، تركوا الإخوان لأسباب أمنية بحتة بعد العودة من أداء الواجب في حرب فلسطين واغتيال حسن البنا وتعقد وضع الإخوان السياسي والقانوني. بعض الضباط لم ينتظم في صفوف الإخوان فعلاً، ولكنه كان قريباً منهم أو وثيق الصلة. 2- المؤكد حتى الآن أن الإخوان المسلمين، الذين كانوا قد عادوا إلى العمل الشرعي في 1951، بعد قرار الحل الشهير في نهاية 1948، كانوا الجهة السياسية الوحيدة التي أبلغت مسبقاً بحركة الضباط، وطلب منهم مساندة الحركة، سياسياً وبعناصر مسلحة، لحماية مدخل القاهرة الشرقي من تحرك بريطاني محتمل. الذين قاموا بالاتصال بالإخوان والتباحث معهم، كانوا بين كبار قادة الحركة، بما في ذلك عبد الناصر. كل الإشارات حول قيام الضباط بالاتصال بالشيوعيين أيضاً، تفتقد الأدلة القاطعة، أو أنها توحي بمجرد تسريب قام به أحد الضباط الشيوعيين ضمن تنظيم الضباط الأحرار، الذين لم يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة. 3- أن الضباط أظهروا وفاء واضحاً للإخوان المسلمين عندما أخذوا في تسلم مقاليد الحكم. لم تحل جماعة الإخوان المسلمين كما حلت الأحزاب السياسية للعهد الملكي؛ لم يمنع أحد من الإخوان من ممارسة العمل السياسي، كما منع الآخرون من سياسيي النظام القديم؛ دعي الإخوان للمشاركة في وزارة الثورة الأولى، بغض النظر عن موقف قيادتهم من المشاركة؛ وبالرغم من التوترات المتقطعة في العلاقة بين الإخوان ومجلس قيادة الثورة، ظلت الاتصالات بين الطرفين، على مستوى أو آخر، مستمرة حتى قطيعة 1954 الشهيرة.

ليس من السهل توصيف العلاقة بين الإخوان وحركة الضباط؛ ولكن، إن كان هناك ثمة شريك للضباط بين القوى السياسية فقد كان هذا الشريك هو الإخوان المسلمين. ما جرى بعد ذلك في سياق العلاقة بين الطرفين، يجعل هذا التقدير عسيراً على الإدراك. ولكن هذه هي حقيقة 1952؛ وهي الحقيقة التي لا يجب أن تدعو للاستغراب والدهشة. ولد كبار الضباط الأحرار قبل زهاء عشر سنوات من ولادة الإخوان المسلمين، وقد نشأوا في مناخ ثقافي سياسي ساهمت الحركة، بتوجهاتها الإسلامية - الإصلاحية والعروبية في تشكيلها، في وقت كان الصراع على روح مصر وتوجهها محتدماً بين الإسلاميين العروبيين، الليبراليين - العلمانيين الموالين للثقافة والسياسة الغربية، والوطنيين - الفرعونيين، الذين لا يقلون عن الليبراليين تقبلاً للثقافة والقيم الغربية. وبالرغم من الأساطير التي وضعت لاحقاً حول تاريخ الحركة الشيوعية المصرية، فقد كانت الحركة الشيوعية هامشية التأثير، وخارج دائرة التطاحن الفكري والسياسي. قطاع من الضباط كان حدد خياراته قبل حرب فلسطين، وبين أولئك عبد الناصر وكمال الدين حسين وعبد اللطيف البغدادي وعبد المنعم عبد الرؤوف. وآخرون، سيحددون خياراتهم في خضم الحرب أو بعدها. وكتلة ثالثة، كانت من الضباط الوطنيين، بصورة عامة وبدون أجندة فرعونية أو غربية، شاركوا في الحركة احتجاجاً على حالة الفساد وانهيار مقدرات الدولة والبلاد. العلاقة، شراكة كانت أو مجرد تحالف أولي، بين الإخوان وحركة الضباط، كانت طبيعية ومنطقية، فرضها المناخ السياسي والفكري الموضوعي، إلى جانب علاقات عدد ملموس من ضباط الحركة بالإخوان.

كان وضع الإخوان في ظل النظام الملكي قد تعرض لضربات بالغة منذ وقت مبكر. دخل الإخوان الساحة السياسية بعد عشر سنوات على تأسيسهم، وربطتهم علاقات وثيقة بشخصيات نافذة في النظام، تنتمي مثلهم للمعسكر العروبي الإسلامي، مثل الشيخ مصطفى المراغي، شيخ الجامع الأزهر في نهاية الثلاثينات وصاحب التأثير على الملك فاروق، ورئيس الوزراء لمرة واحدة في العهد الملكي، علي ماهر، وعبد الرحمن عزام وعزيز علي المصري، اللذين توليا مناصب وزارية لفترة قصيرة. ولكن الإطاحة بهؤلاء بعد حادثة شباط/فبراير 1942، جعلت الإخوان، بالرغم من قوتهم الشعبية المتزايدة، خارج دائرة المؤسسة. في 1948 1949، دفع الإخوان إلى صدام دموي مع الدولة، بدأ بقرار حل الجماعة وانتهى باغتيال قائدها ومؤسسها، حسن البنا، على يد عصابة مدفوعة من رئيس الوزراء ووزارة الداخلية. عندما جاءت اللحظة الحاسمة لحركة الضباط، كان الإخوان، إحدى أكبر القوى الشعبية آنذاك، على استعداد للتماهي مع الحركة وأهدافها، لدعمها، ولدعم أغلب خطواتها التالية، بما في ذلك إعلان الجكهورية.

وكما أن علاقة الإخوان بحركة الضباط محل جدل تاريخي، كذلك هي الأسباب والسياقات التي أدت إلى صدام الطرفين القطعي والنهائي في 1954. يدور بعض هذا الجدل حول الأخطاء التكتيكية للإخوان، أو سعيهم للاستيلاء على الحكم والقرار من خلف ظهر الضباط الأحرار؛ ويدور بعضه الآخر حول موقف القوى الدولية، مثل الولايات المتحدة الأميركية، القريبة من الضباط آنذاك، والتي لم تكن تريد رؤية دور ما لقوة إسلامية سياسية في الحكم. ولكن المسألة، في النهاية، لا تتعلق بتقدير صواب أو خطأ هذه المقاربات، بل بالتوجه الغالب في مجلس قيادة الثورة، الذي أصبح في 1954 أكثر تعرفاً على مقاليد الدولة وأقدر على تحريك أجهزتها، إلى جانب سيطرته شبه الكاملة على الجيش. فسواء من الأيام الأولى للانقلاب، أو أن رؤيته للأمور تطورت تدريجياً بعد ذلك، لم يكن عبد الناصر في 1954 يتحرك من أجل إقامة حياة سياسية ديمقراطية، وأصبح هدفه بالتأكيد إقامة حكم مركزي، يقوده تنظيم سياسي واحد ومجموعة صغير متفاهمة. وليس ثمة شك أن عبد الناصر، القاريء النهم للتاريخ والسياسة، والمدرس الجيد لعلوم الحرب، كان يدرك أن مثل هذا التصور لمستقبل البلاد لم يكن ممكناً بدون إخراج الإخوان المسلمين من الساحة السياسية، كما أخرجت كافة القوى السياسية الأخرى قبل ذلك. مشكلة الإخوان في نظر عبد الناصر أنهم ليسوا جمعية دينية وحسب، بل تياراً سياسياً أيضاً. لو أنهم جمعية دينية، مثل الجمعية الشرعية وأنصار السنة، أو حتى الشبان المسلمين، ما كان هناك ما يستدعي الإطاحة بهم.

خلال السنوات الخمسين القادمة، ستمر علاقة الجيش بالدولة والحكم بعدد من المنعطفات الهامة. لم يكن عبد الناصر يريد أن تتحول مصر إلى ساحة للانقلابات العسكرية وصراعات الضباط، وحاول بالفعل إخراج الجيش من السياسة، بتعيين عدد كبير من الضباط الأحرار في مواقع وزارية ومواقع أخرى مختلفة في أجهزة الدولة. ولكن ما ظنها صفقة نهائية، أدت في واقع الحال إلى تعميق الروابط بين الجيش والحكم والدولة، سيما أن صديقه في قيادة الجيش، عبد الحكيم عامر، كان يتحول سريعاً إلى مركز قوة بالغ التأثير. بعد هزيمة 1967، أطاح عبد الناصر بمركز القوة في قيادة القوات المسلحة، وعمل على بناء جيش أكثر احترافاً. ولكن عبد الناصر لم يتعامل مع، ولا كان لديه من الوقت أو الهامش السياسي ما يجعله يتعامل مع اعتقاد الجيش بأنه حارس الجمهورية والوصي على مقدراتها، ولا مع الروابط الوثيقة بين الدولة والجيش. وقد أقر السادات هذا الوضع وتعايش معه سعيداً؛ أولاً، لأن الشرعية الهائلة التي وفرتها له حرب تشرين الاول/أكتوبر قد حققت على يد الجيش؛ وثانياً، لأن سياسة نهاية الحروب التي تبناها تركت الجيش لتوسيع نطاق قاعدته الاقتصادية الإنتاجية، وبحث ضباطه الكبار عن أفضل المواقع المدنية في أجهزة الدولة وإداراتها المختلفة. خلال عهد مبارك، تفاقمت اهتمامات الجيش الصناعية - التجارية؛ ولم تبدأ العلاقة بين النظام والمؤسسة العسكرية في التوتر إلا في العشرية الأخيرة من عهد مبارك، بفعل السياسات الاقتصادية الراديكالية للنظام ومشروع التوريث.

ثمة ما يشير إلى أن مصر تبدأ الآن حقبة جديدة من تاريخ الجمهورية، ومن علاقة الجيش بالدولة ونظام الحكم. أفتتحت هذه الحقبة بالثورة الشعبية في كانون الثاني/يناير 2011 وتعزز اتجاهها بجملة الإجراءات التي اتخذها الرئيس محمد مرسي في 8 12 آب/أغسطس الحالي. في الحالتين، ثمة انقلاب شعبي حاسم على سياسات ومناهج وخيارات تتعلق بمواريث الرؤوساء الثلاثة السابقين للجمهورية، وليس كلها على أية حال؛ بغض النظر عما إن كانت هذه بداية للجمهورية الثانية أو الثالثة.