خبر جريمة رفح والشراكة الإستراتيجية مع إسرائيل ..د‏.‏ محمد السعيد إدريس

الساعة 11:48 ص|15 أغسطس 2012

ـ الأهرام المصرية ـ 14/8/2012

الشئ المهم الذي لم يستطع الإسرائيليون نسيانه أو تجاهله منذ حرب عام‏1948‏ التي انتهت بقرار صدر عن الأمم المتحدة يقر بقيام دولة اسمها إسرائيل علي الجزء الأكبر من أرض فلسطين التي كانت تخضع للانتداب البريطاني منذ نهاية الحرب العالمية الأولي هو أن وجود هذه الدولة الإسرائيلية سيبقي استثنائيا ومؤقتا لأنه وجود غير شرعي وغير طبيعي اقتلع شعبا من أرضه وفرض نفسه مكانه بقوة السلاح وبقوة الدعم الدولي.

كان هناك سبب آخر لا يقل أهمية هو الرفض الفلسطيني والعربي الاعتراف بالدولة الإسرائيلية, ولكي يتخلص الإسرائيليون من هذه المخاطر فقد اتبعوا إستراتيجيتين متكاملتين; الأولي, تركز علي امتلاك كل عناصر القوة والتفوق العسكري المطلق علي كل الدول العربية. أما الثانية فتركز علي حتمية الحصول علي الاعتراف الفلسطيني والعربي بشرعية الوجود الإسرائيلي عبر وسائل الترهيب والترغيب, والاعتماد في ذلك بدرجة كبيرة علي الحلفاء الغربيين وعلي الأخص الصديق الأمريكي.

من يقرأ مسار تطور الصراع العربي الصهيوني منذ عام1948 حتي الآن سيجده تعبيرا دقيقا عن التزام إسرائيلي مطلق بهاتين الاستراتيجيتين اللتين تنافستا لتحقيق نتائج مبهرة كل في مجالها. وكانت مصر هي الساحة الأهم في تنفيذ شديد الدقة لكل من هاتين الاستراتيجيتين, ابتداء من عدوان عام1956 وما تلاه من عدوان يونيو1967 وغيره من هذه الاعتداءات. ما أراد الإسرائيليون تأكيده من هذه الاعتداءات. هو فرض الاستسلام علي العرب وإجبارهم علي الاعتراف بالدولة الإسرائيلية والدخول في شراكة استراتيجية معها.

من هنا يمكننا أن نفهم الدور الأمريكي شديد الخطورة في أثناء حرب أكتوبر1973 وبعدها مباشرة. فقد حرص الأمريكيون علي عدم تمكين مصر من تحقيق انتصار كامل ضد إسرائيل ينتهي بتحرير كل سيناء, فكان التدخل العسكري الأمريكي غير المباشر في هذه الحرب بالأسلحة المتفوقة وبالمعلومات مما اضطر الجيش المصري علي التوقف غربي الممرات الاستراتيجية في سيناء, وتمكين القوات الإسرائيلية من العبور غربي قناة السويس عند مفرق الدفرسوار وفرض ما عرف بـ الثغرة التي كانت بمثابة مسمار جحا لإجبار مصر علي الجلوس علي مائدة تفاوض مع إسرائيل انتهي بتوقيع معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية عام.1979

كانت هذه هي بداية تشبيك المصريين بالإسرائيليين عبر الوسيط الأمريكي, والتشبيك قاد إلي التفاوض المباشر ثم إلي العلاقات المشتركة التي قادت ضمن عملية شديدة التعقيد إلي تحويل مصر من دولة قائدة للصراع العربي ضد الكيان الصهيوني إلي دولة حليفة لهذا الكيان, وإلي وسيط يقود الفلسطينيين والعرب نحو المصير ذاته, وهذا هو الواقع المؤلم الذي نعانيه الآن والذي جعل من رئيس مصر المخلوع كنزا استراتيجيا لإسرائيل, وهو أيضا الواقع الذي تحدث عنه عاموس يادين رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية السابق في أكتوبر2010 بقوله أن ما فعله الإسرائيليون في مصر منذ عام1979 من تخريب لن يجعل أي رئيس مصري يأتي لهذا البلد بعد حسني مبارك قادرا علي أن يصلح أي شئ.

التخريب الذي يتحدث عنه عاموس يادين هو ذلك التخريب الممنهج والمتكامل الذي جعل مصر دولة غير قادرة لا ماديا ولا معنويا علي أن تكون مصدرا لتهديد الأمن والوجود الإسرائيلي, تخريب بدأ بالاقتصاد المصري بعد ربطه بالمعونة الأمريكية, وبيع القطاع العام للسماسرة من رجال الأعمال المصريين والأجانب, ثم امتد إلي مجالات السياسة والإعلام, لدرجة أن رئيس الدولة ورجاله كانوا هم شركاء إسرائيل المعتمد عليهم, وكان إعلامه ورجاله هم جسر العبور الإسرائيلي إلي العقل والضمير الوطني المصري.

وجاءت ثورة25 يناير لتقلب هذا كله رأسا علي عقب, ومنذ ذلك الوقت والشغل الشاغل لإسرائيل هو كيف يمكن إبقاء مصر علي حالها حليفا استراتيجيا للدولة الإسرائيلية علي حساب مصالح مصر الوطنية والقومية, وكيف يمكن الحيلولة دون تمكين حكام مصر الجدد من العودة بها مرة أخري لتكون مصدر قلق وتهديد للأمن وللوجود الإسرائيلي.

من هنا بالتحديد نستطيع أن نفهم دور إسرائيل في الجريمة البشعة التي ارتكبها الإرهابيون ضد أبناء الجيش المصري في رفح المصرية مساء الأحد الخامس من أغسطس الحالي, ونستطيع أن نفهم الاتجاه الذي تريد إسرائيل توظيف هذا الحدث وتداعياته نحوه. فقد كشف هذا الحادث بعض الحقائق الأليمة التي يمكن أن تفضح وتجيب عن كل الاستفسارات بهذا الخصوص. فقد كشف الحادث أن الجيش المصري كان بعيدا بل كان غريبا عن سيناء التزاما بنصوص الملحق الأمني لمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية, وكم كانت صدمتي هائلة وأنا أقرأ ما نقلته إحدي الصحف المصرية من موقع أدمن( الصفحة الرسمية للمجلس العسكري علي فيس بوك) وهو يقول بافتخار غريب ما نصه: عبرنا مرة أخري إلي أرض الفيروز(!!) هل يمكن لجيش أن يعبر داخل أرضه!. الواقع المر والمؤلم يقول إن سيناء ليست تحت سيطرة الجيش المصري, الذي قدر له أن يبقي بعيدا عن حدود وطنه, ولذلك لم يستطع أن يدافع عن حياة جنوده علي تلك الحدود.

كما كشفت الجريمة أن المخابرات الإسرائيلية وليست المخابرات المصرية هي صاحبة اليد الطولي في سيناء بدليل ما تحصل عليه الجيش الإسرائيلي من معلومات عبر جهاز الشاباك الإسرائيلي حول تلك العملية الإجرامية منذ يوم الجمعة(3 أغسطس2012), أي قبل يومين من جريمة رفح, ما جعل الجيش الإسرائيلي مستعدا للتعامل الفوري والفعال مع الإرهابيين لحظة وصولهم إلي منطقة عمليات الجريمة في بوابة عبور كرم أبو سالم بين مصر وإسرائيل عكس حال الجيش المصري.

لكن أهم ما كشفت عنه هذه الجريمة هو استمرار التنسيق الأمني بين مصر وإسرائيل بعد الثورة, وهو التنسيق الذي أسس له نظام مبارك. أما ما هو أخطر فهو ذلك الحرص الإسرائيلي علي توظيف الجريمة في اتجاهين الأول: إجبار الحكم الجديد والرئيس الجديد علي تجديد التزامه بمعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. والثاني, تجديد وتعميق الشراكة الأمنية المصرية الإسرائيلية في المستقبل, وهي الشراكة التي تقود إلي الشراكة السياسية والتحالف السياسي, أي تحول مصر الثورة مجددا إلي دولة خاضعة للهيمنة الإسرائيلية وسمسار سلام مخادع ضد كل مصالح مصر الوطنية والقومية, وهي نفسها الشراكة التي فرضت أن تبقي سيناء دون تعمير وأن تظل نقطة الضعف الكبري للأمن المصري.