خبر أخطار غياب المعيار...د.علي عقلة عرسان

الساعة 08:11 م|13 يوليو 2012

نحن والمرارة على وفاق، كأسها الدهاق ينسكب في الحلق، وينساب في أرجاء القلب انسياب ريق الأراقم ويتجدد دونما انقطاع، وتشيع في الخلايا تعباً لا يُخلف ميعاده على غير المعود في طبع "الحسان"، فهي معنا كل صباح، تنتظرنا مع رغيف الخبز عند شرائه، وفنجان القهوة عند احتسائه، وتتلطى لنا في الأسعار التي يعبث بها التجار، وفي أشكال الخراب والدمار، وفي زحمة المرور، وتفاصيل العمل، وتلاحقنا دون كلل ونحن نقرأ أو نفكر أو نكتب أو نتابع نزيف الدم وعبثيات من يتأكلهم الحقد أو يستولي عليهم الوهم. والبحث عن صبر وسلوى في ظل قرب تلك المرارة عسير بل مستحيل، وقد صرنا معها لا نجد حتى في قلب أيوب الزمان قطرة صبر تخفف عنا وطأة زماننا، وهذه التي علقتنا هي ابنة شرعية لوقتنا الذي أمرعت فيه الفوضى، وتكاثرت فيه الدِّمن، وتعاظمت شمرخة الاخضرار بلا خضار، وازدهت رؤوس الشر وتراقصت طرباً بما حملت، مصعِّرة خدودها للخلق والخالق.

وأرانا في هذا المناخ نذوي ونحن نحس دبيب الفساد في أحشاء السكون من حولنا، وفي تفاصيل السلوك وأصلاب القيم وأصلاب الناس. فالمعايير تختل وتسقط وتخلِّف بسقوطها فراغاً يسمح لكل حاطب في ليل الفساد وقتل العباد بأن يُعْمِل أدواته ويستنفد طاقاته في الترهيب والتخريب والتنكيل من كل نوع وعلى الصعد كافة. والحاطبون يوغلون في الغي ويلِغون في "دم" من المفتَرَض فيه أن يجدد الحياة في البشر والقيم والثقافة والحضارة، وهم يفعلون ذلك ليفسدوه ويستنزفوه، وليحيلوا كل بناء وحيوية وجودة إلى أثر بعد عين. ويعملون بكل الجد والحرص على استمرار هذا المناخ، وعلى أن يدْلَهم ليل الفساد والرعب والفوضى لأن فيه حياتهم، ولأنهم يُكشفون تماماً إذا ما أسفر صبح ورسخ معيار صحيح وارتفع حَكَماً، وإذا ما سادت قيمة سليمة وتراتب الناس على أسس من صلاح أمرٍ ورأي ودقة مقياس وتقويم سليم للخُلق والفعل والموقف والإنتاج والإبداع.

وإذا استمر هذا التخبط وتفاقم اختلال المعايير وسقوطها في مجالات السياسة والإعلام والاقتصاد والاجتماع عموماً والثقافة والإبداع خصوصاً، فإن كل ثقة معرضة للاهتزاز، وكل أمل إلى اضمحلال، وكل بناء يؤول إلى سقوط.. إذ كيف يُحكم في ظل غياب المعيار أو فساده؟! وكيف يطمئن الناس إلى قول أو فعل أو قيمة أو حكم، وهم يرون إلى الفصام بين المنطق والحكمة والحكم، بين المعيار والقيمة، بين القول المعلن والفعل المبتوت بكتمان، ويقفون صباح مساء على اختلال واضح بين صورة ما يقدم لهم أو تصويره وحقيقة ذلك الذي يقدم فعلاً ويستقر في الوعي وعلى أرض الواقع؟! ولم لا يداخِلهم الشك وهم يرون المواقف والأحكام والآراء تتغير مائة وثمانين درجة، حسب هوية الشخص وتبعيته الخارجية أو الداخلية، وانتمائه إلى "العشيرة الحديثة"، ومدى قربه أو بعده من الشخص "المعيار" صاحب القرار.؟! ومتى بحق الله كان هوى الشخص "معياراً" سليماً، أليس الأشخاص والأفعال والسلوك هي التي تُعرَض على المعيار الذي رسخ عبر التجارب وبجهد جماعي وتضحيات، ليأخذ قيمة ويصدر بموجبه حكمُ قيمة؟! أليس الأشخاص، لاسيما في فترة فساد الزمان وفقدان الأمان، عرضة لأقصى ما يمليه الهوى وتجر إليه المصلحة من زيغ في الرأي والرؤية والحكم، إذا لم تكن هناك معايير واضحة وسليمة ومحترمة ومستقرة، يستندون إليها فتعصمهم من الزلل وتعصم غيرهم من الظلم والخطل؟! إن كل شخص عرضة لتغير أهواء الآخرين أياً كان الشخص، بينما المعيار لا يتغير إلا بتغير معطيات موضوعية، وحسب أصول يتفق أولو القدرة والحكمة والخبرة والمكانة من الناس على أنها تقضي بتغيير المعايير أو تعديلها حسب أصول. ويكون ذلك لتحقيق مزيد من الدقة والسلامة والصلاح والشمول والفاعلية للمعيار الذي يستند دائماً إلى قيم وقواعد وأصول وقوانين، ثبت صلاحُها للحياة وصلاحُ أمر الحياة والناس وشؤونهم وإبداعهم بها.

لقد كان قول أرسطو وما زال سليماً وصحيحاً حيث قال: "خير للناس أن تحكمهم شرائع جيدة جداً من أن يحكمهم شخص جيد جداً". وإذا كنا نعاني الأمرين من خلل المعايير والقيم أو غيابها في شتى مناحي حياتنا وعملنا وتعاملنا، ونعلق أهمية على دور الكلمة والثقافة والأدب والفن في إشاعة المعرفة وترسيخ الوعي بأهمية المعايير والقيم وسلامتها، وبمركزية الوعي المعرفي وضرورته ليقوم به التجديد والتطوير على أسس معيارية ومعرفية سليمة، فإن غياب تلك المعايير والقيم والأحكام السليمة في مجالات الثقافة عموماً والأدب والفن خصوصاً، يغدو أشد شيء خطراً على الإبداع والإنسان، على المجتمع والدولة.. لأن قيمة المعيار وسلامته وحسن تطبيقه واحترامه، خلال هذه الفعاليات البشرية التي تؤثر في تكوين الفرد والجماعة والحضارة، يوازي سلامة القضاء وصلاح الحكم من حيث الضرورة والأهمية لمجالات الحياة العامة وللناس كافة في دولة تستحق هذا الاسم. وحين نجد هذا الداء، داء فساد المعيار، يستفحل في المجالات الأدبية والفنية، ويفسح في المجال أمام تقديم أحكام وآراء وتقويم على أرضية مريضة، ويعطي تصوراً تراتبياً غير دقيق للإنتاج وقيمته ومكانته ومن ثم للأشخاص، ويسيء، عن قصد أو عن غير قصد، فهم المضامين وسبل إيصالها وتقديم مسوغات الرأي ومستندات الحُكم، نشعر كم هي مشوهة صورتنا لدينا ولدى الآخرين وكم هي بحاجة إلى إعادة صوغ على أساس سليم ليقوم لدينا بناء متين.

إننا حيثما وأينما توجهنا نجد أولئك الذين يهمهم أن يسود الضياع ويدْلَهم ليل يحتطبون فيه، نجدهم أحرص ما يكونون على استمرار الفوضى والتشتت، لأنهم أعجز من أن يجدوا مكاناً لهم حين يسفر الصبح وتصحّ الرؤية، وهم يمارسون التقويم والنقد أو ينطلقون في ذلك من أرضية "حكم" يمليه الهوى والانتماء "للعشيرة الحديثة" بهشاشة قيمها ومعاييرها وتقاليدها وسوء أدائها، ويمارسون طقوس التعظيم والتقزيم والإنارة والتعتيم والتشويه والتشويش وكل ما يرون أنه يفيدهم في فرض من وما يمت "لعشيرتهم" الأقربين بصلة على الساحة الثقافية، دونما تفريق بين وسيلة ووسيلة، فالغاية لديهم تبرر الوسيلة، وخير الأداء ما نجح؟!. وعندما يكتفي المؤهلون القادرون بالتفرج على هؤلاء "البناة" على فساد، فإننا عندها لا نقف على أعتاب الكارثة بل نزحف إليها زحفاً، ولا نكون أمام عبث ضائعين بل أمام أخبث صنف من المخربين من الناس، وهو ذلك الذي يساوي بين المحاسن والمساوئ ويخلط الأوراق لتضيع الحقائق، حيث نراه يرفع المحسن والمسيء من أبناء "عشيرته" إلى مرتبة الاعتبار القصوى، ويهبط بالمحسن وبالمسيء من غير أبنائها إلى "الحضيض" الأقصى من وجهة نظره. وموقفه هذا يجر أبناء "عشائر" العصر الحديث الأخرى -وما أكثرها- إلى مواقف وآراء وأحكام مماثلة، وينعكس كل هذا سلبياً على المعايير والقيم والإنتاج والأشخاص وتضيع الأمور وتضطرب الأحكام، فكيف يصلح بذلك شأن الأدب وتغدو الكلمة منقذة وبانية وهي تُستنبَت في دِمَن النفوس وتشوِّه مواقعَها ومواقفَها ومراتبَها نفوسٌ دِمَن؟! إن الفاسد لا يُصلح نفسه ويحتاج إلى من يصلحه، وهذا ينطبق على الأحكام والآراء والأشخاص كما ينطبق على المعايير والمذاهب والتيارات والمعلومات والمؤسسات..إلخ

لقد أثر فساد المعايير بل غيابها عن حياتنا الثقافية في فعالية الكلمة ومستوى الإبداع تأثيراً سلبياً، وأصبحت الدعاوى "الإعلامية" التي تمارس نوعاً من أحكام القيمة، دون مستند من معرفة أو أهلية أو قيمة، أو حتى اطلاع في حالات.. أصبحت "تعلي" شأناً و"تحط" شأناً، تحجب "شمسَها" أو تجعلها تشرق، على أساس من هوى ومصلحة وانتماءات عشائرية حديثة وقديمة معاً، وعلى أسس أكثر ضيقاً وأشد بؤساً من ذلك أحياناً، وأضحى لا يتهيّب أشخاص من الافتراء والاختلاق والتشويه، ويصل ببعضهم الأمر بكل بساطة إلى حد حذف أقوالك وما أنت ووضع أقوال لك لتغدو ما يريدون منك ولك أن تكون، كل ذلك يتم في وضح النهار، وتحت سمع الناس وبصرهم.. ويمارس بعض أبناء "العشائر الحديثة" رقابة من نوع تبدو معها الديكتاتوريات الفكرية غاية في الديمقراطية والحرية، في حِمى تعود السيادة فيه شكلاً إلى "رقابة" تنسب إلى الدولة و"تُجرَّم" من قبلهم بسببها بينما يقومون هم بالفعل الناجز ويمسحون أفعالهم بها، وينفذون في أحيان كثيرة ما هو ضار بمصلحة الثقافة القومية والهوية والانتماء لأمة في تربة تاريخ وجغرافية ومقومات شخصية ثقافية متمايزة.. ويمارسون الغزو والقتال والقتل من الداخل، ويقبعون تحت ستار من الأمن والأمان والاطمئنان، حيث يتربعون في حضن السلطة، ويضربون بسيفها، ويأكلون خيرها، ويصفون سواهم بأنه من "أزلامها" وينتفون ذقنها، ويدّعون أنهم ضدها، ويضحكون بعد ذلك كله وقبل ذلك كله عليها، بل على أنفسهم وعلى سواهم ممن يخاف أو يستكين أو يجهل. حيث يفترضون: غباء السلطة، وغباء الذين يعبثون بهم ويوجهون لهم الخطاب، ويمثلون أمامهم الأدوار؟!. ومن عجب أو رَهب أو "رَغَبة" أن يسير الجميع في هذه "الزفة" المزيفة التي انعكست على مصداقية القول والعمل والإنسان، على مصداقية الأدب والفن والثقافة والإعلام، ومن ثم على تربية أنتجت مرارات، وأصبحت وطأتها ثقيلة ونتائجها وبيلة على حياتنا وحيويتنا ومعاني الصحة والسلامة والنقاء في كل ما نريده وما نحققه وما نكونه وما نتطلع إليه. إن الوجه (الإعلاني- الإعلامي- الحزبي ـ العشائري ـ الطائفي ـ المذهبي..إلخ) الذي يقدم لأدبنا وفننا وثقافتنا ولإعلامنا، بل لحياتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية، أصبح زائفاً ومضحكاً ومدمراً بشكل لا يحتمل، وتستدعي ظروف الإنقاذ والاستنقاذ، وظروف مواجهتنا في جبهة ثقافية، داخلياً وخارجياً، أن نرفع الأقنعة والزيف ونعيد النقاء لكل شيء، وأن يلبس كل من يريد الثوب الذي يريد.. ولكن بوضوح وعلنية وشرف، حتى يأخذ الرأي والموقف ومن ثم المعيار مكانته واحترامه، ويعرض عليه القولُ والعمل والموقف والإنتاج والإبداع برضا وثقة، في ظل استقرار القيمة واحترامها والإخلاص لها والاطمئنان في الاحتكام إليها.. وفي ضوء الانتماء السليم للأمة وقضاياها ونضالها ومعاناة جماهيرها ولثقافتها وهويتها في مقوماتها الرئيسة، وفي ظل احترام لحريات الإنسان وحقوقه وممارسته التامة لتلك الحقوق، على أرضية مواطَنة ووطنية صحيحة وسليمة فيها الاحتكام للحقيقة الثابتة عبر التاريخ ألا وهي "لا وطنية خارج حدود التاريخ والجغرافية لأمة من الأمم".

 

دمشق في 11/7/2012