خبر كتب حلمي موسى : التهدئة في غزة: انتصار سياسي لحركة الجهاد

الساعة 11:04 ص|14 مارس 2012

فلسطين اليوم

في اللحظة الأخيرة، وتقريبا بعد منتصف الليل، وبعد مشاورات مكثفة أدى فيها المصريون دور الوساطة، تم التوصل إلى إعلان وقف لإطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين. ويشكل هذا الإعلان نوعا من العودة إلى ما قبل الحرب الإسرائيلية على غزة، والتي انتهت بمعادلة جديدة فرضتها إسرائيل، وهي «التهدئة مقابل التهدئة»، ومن دون اتفاقات. ولكن ليس هذا هو العنصر الوحيد الذي ميز اتفاق «التهدئة الشاملة» الأخير، فقد كان هذا بامتياز اتفاق الجهاد الإسلامي.

وكان واضحا أن إسرائيل بدأت عدوانها على غزة باغتيالها قائد لجان المقاومة الشعبية، وهي تدرك أنها بذلك ترسخ قواعد اللعبة القديمة: أنا أضرب ومسموح للفلسطيني أن يقول «آخ»... ولكن من دون «طاخ». وقد بنت إدراكها هذا على أساس أن لحكومة حماس في غزة ما تخسره جراء انفلات الأمور، وعليها بالتالي ضبط ردود الفعل في القطاع بحيث لا تكسر قواعد اللعبة المعهودة. ولكن إسرائيل، الخبيرة في لعب دور «مجنون الحارة»، لم تحسب أن الوضع في غزة قد جعل منها بأسرها «حارة مجانين».

وما ان بدأت المعركة حتى ارتفع المزاج الشعبي من حالة السكينة إلى حالة الهيجان القصوى. وكان رد فعل الجمهور، وليس بالضرورة الحكومة وبعض الفصائل، هو وجوب الرد مهما تكن العواقب. وكثرت التعليقات في الشارع وعلى صفحات الـ«فيسبوك» بأنه «إذا ما خربت ما رح تعمر». وترددت هذه الأصوات في صفوف المتحدثين في الإذاعات المحلية، ما خلق إحراجا للحكم ولأصحاب الرأي المغاير، فالغالبية ترى في السلوك الإسرائيلي عنجهية لا يصلح التعامل معها سوى بمثلها.

وكان أن التقطت حركة الجهاد الإسلامي هذا المزاج وحاولت تجسيده في تعاملها مع الأمر. وفي العادة كانت هذه الحركة التي لم تشارك لا في السلطة ولا في الانتخابات تنأى بنفسها عن لعب دور المتمرد في الحلبة، وكثيرا ما وافقت على ما يخالف رأيها إذا كان في ذلك ما يحقق التوافق أو يمثل غالبية، وعلاوة على ذلك فإنها القوة العسكرية الأهم في قطاع غزة بعد حركة حماس، وكثيرا ما تحدثت الصحف الإسرائيلية عن امتلاك الحركة قدرات صاروخية كبيرة، ثمة من يبالغ ويقول إنها تتخطى قدرات حماس.

ومن الطبيعي أن الجهاز العسكري لأي فصيل فلسطيني، وخصوصا حركة الجهاد، ينتظر لحظة الحقيقة ليبرر وجوده. فهو ليس موجودا فقط للتدرب على تخزين الأسلحة أو صيانتها وإنما لهدف أسمى. وهكذا توافرت لحركة الجهاد فرصة إثبات الذات هذه المرة، ليس فقط عسكريا بل سياسيا. فهذه هي المرة الأولى التي تتحمل فيها الحركة عبء القتال من ناحية وعبء إدارة المفاوضات لوقف القتال من ناحية ثانية.

ووجدت حركة الجهاد في كلمة «الكرامة» مفتاح حركتها. فهي تقاتل هنا لأن الإسرائيلي، بمعزل عن أي شيء آخر، يحاول ترسيخ الإذلال للفلسطيني عبر إشعاره بأنه عاجز حتى عن استخدام السلاح الذي يملكه. وحركة الجهاد قالت هذه المرة كلمتها أنها لن تقبل بترسيخ هذه القاعدة وليكن الثمن ما يكون. وهكذا خلال أربعة أيام كانت من أطلق القسم الأكبر من أكثر من 200 صاروخ أبعدها مدى ذاك الذي وصل إلى «غاني يبنا» شمالي أسدود.

ومنذ اللحظة الأولى بدأت حركة فلسطينية مصرية لوقف القتال. وكان الموقف الإسرائيلي هو «تهدئة مقابل تهدئة». لذلك فإن حركة الوسيط المصري تجسدت في تحديد ساعة لوقف القتال ونيل الموافقة عليها من الجهات المعنية وكفى الله المؤمنين شر القتال. وبالفعل تم إبلاغ الجهاد الإسلامي في غزة أنه تم الاتفاق على وقف النار في تمام الثانية عشرة ظهر يوم الاثنين، وأن إسرائيل بعد ذلك سترد بشدة مفرطة على أي صاروخ يطلق من القطاع.

كان الإنذار واضحا وحمله هذه المرة شريك فلسطيني. ولكن حركة الجهاد رفضت الإنذار وأبلغت حاملي الرسالة أن من يملك القوة على وقف إطلاق الصواريخ يمكنه أن يبادر ليفعل ذلك. وهنا بدأت الاتصالات أشد كثافة مع قيادة الجهاد في دمشق عبر ثلاثة خطوط: الخط المصري، خط حماس، وخط القيادة الفلسطينية في رام الله. وكان الرد من جانب الجهاد واحدا: لا مجال للعودة إلى قاعدة التعامل التي فرضتها إسرائيل، والقتال لن يتوقف إلا باتفاق يضمن على الأقل وقف الاغتيالات.

وخلال المفاوضات تم إبلاغ قيادة الجهاد بأن «إسرائيل لا تفاوض على أمنها» وكان الرد: أن «الفلسطيني لن يفاوض على أمنه». وجاء التهديد بأن إسرائيل ستوسع نطاق عملياتها وستشدد حملتها على المقاومة في القطاع. وجاء رد الجهاد في مؤتمر «سرايا القدس» وعلى شاشة تلفزيون «فلسطين اليوم» أن الحركة ستوسع مدى إطلاق صواريخها إذا واصلت إسرائيل عدوانها.

وعلى الأغلب فهمت إسرائيل الرسالة. ومنذ شهور والاستخبارات الإسرائيلية تتحدث عن امتلاك حركة الجهاد وحماس أيضا صواريخ يزيد مداها عن 70 كيلومترا ويبلغ نطاقها مشارف تل أبيب. بل ان الدفاع المدني في تل أبيب تدرب مؤخرا للمرة الأولى على مواجهة احتمال تساقط صواريخ على المدينة انطلاقا من غزة.

بعدها جاء الرد الإسرائيلي للوسيط المصري بقبول أن يتضمن الإعلان المصري عن التهدئة الشاملة إشارة إلى وقف الاغتيالات. وبالفعل أعلنت مصر بعد الساعة الثانية بعد منتصف الليل سريان وقف النار بأثر رجعي من الساعة الواحدة. ولم تنزعج إسرائيل صباح أمس لاستمرار تساقط قذائف الهاون على بعض مستوطناتها في محيط غزة، لأن المهم لها أن التصعيد سيتوقف، ولو إلى حين. وكان هذا أول انتصار سياسي تسجله حركة الجهاد، التي طالما نأت بنفسها عن السياسة، لنفسها.