خبر عندما بكى داغان/ زهير أندراوس

الساعة 11:45 ص|03 ديسمبر 2011

عندما بكى داغان/ زهير أندراوس

الزمان ليس مهمًا، كذلك المكان. التقيت معه عندما وصلت إلى بيت أحد الأسرى المحررين لتهنئة الأخير بفكّ قيده. رجل في أواخر الستين من عمره، فلسطينيّ من إحدى القرى المتاخمة لمدينة جنين. أسيرٌ محررٌ، خمسة من أولاده يقبعون في سجون الاحتلال الإسرائيليّ. وسرد لنا القصة:

 

عندما كان أحد أولاده في العاشرة من عمره، اقترب من إحدى المستوطنات، التي يسكنها لصوص الأرض والعرض، المسؤول عن الأمن، وهو ضابط سابق في جيش الاحتلال، قام بالاعتداء الوحشيّ على الطفل، لا لسبب، إنّما لأنّ ثقافة هذه الحثالات، التي ترّبى وترعرع عليها، تقول في ما تقول إنّ العربيّ لا يفهم إلا لغة القوّة. عاد الطفل البريء إلى بيته ينزف دمًا، ولكنّه لم يذرف دمعة واحدة، قال الوالد بعزّة وكبرياء وافتخار، ووعد والده بالانتقام من الاستعماريّ الذي عذّبه ونكّل به.

 

ولم يتأخر الرد، بعد مرور أقّل من يومين، تمكّن الطفل من استدراج الكلب المتوحش، الذي يملكه المعتدي، فجنّ جنونه، بحث عن الكلب فلم يجده. ودارت الأيام، وبات الطفل شابًا، وكان من الطبيعيّ، كما يقول الوالد، أنْ ينضم إلى كتائب شهداء الأقصى، الجناح العسكريّ لحركة فتح. لم ينس المقاتل والمناضل الشاب أنّه تعرض للتعذيب من قبل ضابط الأمن في المستوطنة، فقرر أنْ ينتقم، وبعد أنْ تدّرب وبات جاهزًا لتنفيذ عمليّة فدائيّة، اقترح على قائده قتل الضابط، وبدأ بالتحضير للعمليّة بصبرٍ وتأنٍ شديدين، وعندما حان الوقت المناسب خرج مع رفيقين له باتجاه المستوطنة ونصبوا كمينًا للضابط.

 

وأردف الوالد، الذي لم يُخف اعتزازه بابنه، وصل الهدف إلى المستوطنة برفقة صديقته في سيارة خصوصيّة، أفراد الخلية اعترضوا السيارة، فترّجل منها الضابط، الشاب، الذي كان طفلاً، أخرج بندقيته الأوتوماتيكيّة وأطلق وابلاً من الرصاص على الضابط فأرداه قتيلاً، ولم يتوقف عند ذلك، بل اقترب من السيارة وقتل صديقة عدوه، ومن ثمّ لاذ بالفرار مع رفيقيه. كان الشاب يعرف أنّ الثمن سيكون باهظًا، كما لكل فعلٍ على وجه هذه البسيطة يوجد ردّ فعل، ولكنّه كان على استعداد لدفع الثمن، اعتقل وزُجّ في السجن، وما زال يقضي فترة الحكم المؤبد التي فرضتها عليه المحكمة العسكريّة في معبر سالم.

 

***

 

خلال الأسبوع الجاري عرضت القناة الثانيّة في التلفزيون الإسرائيليّ شريطًا يُظهر عددًا من جنود الاحتلال وهم يُنّكلون بفتية فلسطينيين، الجنود، الذين ينتمون إلى أكثر الجيوش أخلاقيّة في العالم، كما يتبجح أركان دولة الاحتلال، قاموا بتوثيق عملية التعذيب التي تقشعر لها الأبدان بواسطة هواتفهم النقّالة، الصور تثير مشاعر الإنسان، أيّ إنسان ما زالت إنسانيته نابضة وحيّة، أرسلوا الواحد للأخر والأخر للثالث وهكذا دواليك شريط استئسادهم على فتية عُزّل. أحد الفتيان الذي تعرض للضرب المُبرح على رأسه من قبل الجنود صرخ من شدة الألم، فكان الصراخ مُحفزًا لهؤلاء البرابرة أنْ يُمعنوا بالتنكيل به، أمّا الطفل الثاني فبكى وصرخ، ونزف دمًا ودموعًا من شدة الألم، وطلب من الجنديّ أنْ يفك قيده، وهو مصنعٌ من مادة البلاستيك وصرخ: أنا أتألم، الشمس حارقة، أرجوكم ساعدوني، لم أفعل شيئًا، قال الطفل الفلسطينيّ، ولكن الردّ كان مزيدًا من الضرب والتعذيب والتنكيل.

 

الشرطة العسكريّة الإسرائيليّة، قالت مراسل التلفزيون، لم تتمكّن حتى الآن، بعد مرور أكثر من سنة على الحادث، من العثور على زمرة المجرمين، وعبّر الصحافيّ عن استهجانه من تصرف الشرطة العسكريّة.

 

***

 

لا أعرف الأطفال، الذين تعرضوا لهذا التعذيب الساديّ، ولا أعرف الأطفال الفلسطينيين الذين يتعرّضون بشكلٍ يوميّ للضرب من قبل جنود الاحتلال، ولكن، إذا أخذنا بعين الاعتبار، القصة التي أوردناها في البداية، فإنّ هؤلاء الأطفال، الذين سيكبرون يا غولدا مائير، ولكنّهم لن ينسون، سيسرون بطبيعة الحال بحسب نظرية الجريمة والعقاب، في أغلب الأحوال سينتقمون على إذلالهم وعلى تعذيبهم، ولن نشفع لقادة السلطة الفلسطينيّة التصريحات الناريّة التي تشجب المقاومة المسلحة وتنعت صواريخ المقاومة من غزة هاشم بأنّها بدائيّة، ذلك أنّ الشعور بالانتقام هو شعور أكثر من طبيعيّ، خصوصًا إذا كان الطفل ضحية، وتحديدًا إذا كان في موقع ضعف، ألمْ يشاهد الإسرائيليون صورة الطفل الفلسطينيّ وهو يتحدى دبابة الاحتلال بحجرٍ؟ إنّه يتحداها وهو على علم بأنّه خلال ثواني معدودات سيتحوّل إلى شهيدٍ، ولكنّه على استعداد لدفع الثمن لإيمانه العميق بعدالة قضيته، فجبروت الاحتلال لا يخيفه، وهذا ما لا يرغب الشعب في "أرض صهيون" من فهمه وتذويته: للقوة هناك حدود، ذلك أنّ قوة الإيمان أشد من قوة الدبابة والبندقيّة والأسلحة المحرّمة دوليًا.

 

***

 

رئيس الموساد السابق، مائير داغان، أدلى يوم الخميس، الفاتح من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، بحديثٍ خاصٍ للقناة الثانية في التلفزيون الإسرائيليّ، الصحافيّة إيلانا دايان، بدت متأثرة جدًا عندما ذرف هذا المجرم بامتياز الدموع على رفيقه الذي قُتل في إحدى حروب الدولة العبريّة، الكاميرا اقتربت من وجهه المتجهم وهو يذرف الدمعة لتعظيم المشهد. حتى المجرمين يبكون، هذا الرجل الذي قضى أكثر من أربعين عامًا في قتل العرب، لم ينس البكاء، هذا الرجل، إذا جاز التعبير، اشتهر بفصل رؤوس الفلسطينيين عن أجسادهم. في العام 2009 حصل على شخصية العام من القناة العاشرة في التلفزيون الإسرائيليّ بسبب بطولاته في قتل العرب والفلسطينيين، الجرائم والفظائع التي ارتكبها بإمرة قائده وصديقه شارون أربكت حتى علماء النفس، الذين لم يجدوا كلمة مناسبة لتوصيف الحالة فاضطروا للاكتفاء بالساديّة.

 

***

 

الضابط من المستوطنة، والجنود الذين وثّقوا عملية تعذيب الأطفال، وداغان، ينتمون إلى نفس المدرسة الإسرائيليّة: العربيّ الجيّد هو العربيّ الميّت، إنّهم ترّبوا على ثقافة الغاب واستحدثوا مصطلحًا جديدًا: ما لا يُمكن السيطرة عليه بالقوة، يُمكن تحقيقه بالمزيد من القوة، ولكن، كما أسلفنا، حتى للقوة هناك محدوديات، حبذّا لو فهم الشعب في إسرائيل هذا الأمر.