خبر السلطة الفلسطينية بين الحل أو الانهيار .. مؤمن بسيسو

الساعة 03:03 م|21 نوفمبر 2011

السلطة الفلسطينية بين الحل أو الانهيار  .. مؤمن بسيسو

هل يملك "أبو مازن" قرار حلّ السلطة الفلسطينية وفرط عِقدها وإعادة "الأمانة" إلى حِجْر الاحتلال من جديد، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، ومن خلال التلويح بنفض اليد من تجربة السلطة الفاشلة أو التحذير من انهيارها الذاتي بفعل تعنت وإجراءات ومخططات الاحتلال؟

 

تلويح أو تهديد "أبو مازن" بحل السلطة أو انهيارها بسبب فشل التسوية واستمرار الاستيطان وعدم الإقرار بدولة فلسطينية في حدود العام 67 ينكأ من جديد الجرح الفلسطيني المفتوح، ويعيد إلى الواجهة حقيقة الأزمة الخانقة وطبيعة المشكلة المستعصية التي يئنّ من شدة وطأتها الواقع الفلسطيني الراهن، والمتمثلة في استمرار وجود السلطة ككيان وظيفي خادم للاحتلال، وهيكل سياسي فاقد لكل مقومات البقاء وأشكال السيادة فلسطينياً.

 

ومع ذلك، لا تبدو الإجابة عن سؤال حل أو انهيار السلطة سهلة المنال في ظل التعقيدات والتشابكات التي رافقت نشأة السلطة كإفراز عن اتفاقات أوسلو، ومراحل عملها وسيرها، وطبيعة تعاطيها مع عناصر ومكونات المجتمع الفلسطيني، وأسس وخلفيات العلاقة السياسية والأمنية والاقتصادية التي تربطها ب"إسرائيل" والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل خاص، والمحيط الخارجي بشكل عام.

 

تجربة كارثية

 

منذ نشأتها وفقاً لاتفاقات أوسلو أدخلت السلطة الفلسطينية القضية الفلسطينية في منزلقات ومتاهات بالغة الخطورة، وجعلت منها ألعوبة بيد الشرق والغرب ومطية لأصحاب الأجندة الخاصة والأغراض الرخيصة.

 

ولم يكن الشعب الفلسطيني أفضل حالا؛ فقد تأثرت مختلف شرائحه وأطيافه الشعبية بألوان المعاناة التي تعاقبت عليها في مختلف الأصعدة والمجالات، ودفعت ثمن الارتهان للقرارات والأجندة الخارجية من جهة، وثمن الممارسات الفاسدة التي أدمنت عليها السلطة حتى اليوم من جهة أخرى.

 

مع وجود السلطة تشوهت المعادلة الفلسطينية التي "استوت" فترة من الزمن على سوق مواجهة الاحتلال، وتخللتها نضالات وانتفاضات مقدّرة، وأضحت حالة مأزومة في ظل هيمنة الاحتلال وسيادته، فلا هي تدرك توصيف نفسها ككيان يلتمس بناء مقومات دولته المستقلة وركائزها ويعمد إلى البناء الداخلي، ولا هي تمضي في مسار الكفاح والمقاومة لتحرير الأرض من دنس الاحتلال على وقع مخططات الاستيطان والتهويد التي تبتلع الأرض الفلسطينية دون هوادة.

 

الحقيقة التي لا مراء فيها أن تأسيس كيان فلسطيني يرعى شؤون واحتياجات الفلسطينيين أمر ملح للغاية، لكن هناك فارقاً -بداية- بين الكيان ذي الصبغة البلدية الذي لا يرتبط بسقوف والتزامات سياسية، وبين الكيان ذي الصبغة السياسية المحكوم بقيود وأثقال تفرغه من مضامينه الأساسية، وتجعل منه كياناً مسخاً ذا مهام وظيفية ليس أكثر، فكيف لو اجتمع ذلك مع استباحة هذا الكيان من قبل احتلال عسكري وحشي لا يتورع عن التغول على كافة المناحي الفلسطينية وسحق كل أشكال الكرامة والنهوض لديهم؟!

 

ما بين ائتلاف النقيضين الذي اختلطت فيه مساعي البناء الداخلي بجهود التحرر الوطني، شهد الواقع الفلسطيني اختراق كثير من المحرمات والخطوط الحمراء الوطنية التي جعلت من الالتزامات الأمنية مع الاحتلال -وفقاً لاتفاقية أوسلو وملحقاتها- تكأة لتبريرها؛ فالاعتقال السياسي وخنق الحريات العامة وقمعها، وضرب المقاومة ومحاولة استئصالها، وعسكرة المجتمع، وسيادة سلوكيات الفلتان الأمني، والتعاون الأمني مع الاحتلال الذي كانت ثماره المرّة اغتيال واعتقال المقاومين، شكلت -وما زالت- مظاهر سوداء في سجل ممارسات السلطة الفلسطينية طوال المرحلة الماضية، وما زالت تجد صداها وشرعية اقترافها في قمة الهرم السياسي السلطوي الفلسطيني، وبقرارات وسياسات رسمية معتمدة.

 

أدارت السلطة الشأن الوطني الفلسطيني، وعملت على بناء مؤسسات وهياكل رسمية من أجل تنسيق شؤون الناس وإرساء الأرضية المواتية والقواعد الصلبة لإقامة الدولة الفلسطينية الموعودة، وأجرت انتخابات رئاسية وتشريعية في إطار الحراك المتبلور نحو العمل الديمقراطي، وتشكّل لذلك برلمان عتيد وحكومات متعاقبة تحت أسماء براقة وألقاب لامعة، فماذا كانت النتيجة في نهاية المطاف؟ لا شيء. هذه خلاصة ما بلغناه من وراء كل العمل وكل الجهد في مرحلة ما بعد نشأة السلطة حتى اليوم.

 

لم تخدم السلطة شعبها وفق المأمول، وكل ما فعلته أنها حشدت جيشا عرمرماً من البطالة المقنعة في إطار وظائف السلطة التي تنتظر راتبها نهاية كل شهر، ولم تبنِ مؤسسة حقيقية واحدة تصلح للاستفادة منها بصورة حقيقية باعتبارها ركيزة من ركائز الدولة، والنتيجة أننا عايشنا فصولا من الإخفاق المدقع في تأسيس تجربة ديمقراطية حقيقية تشكل نواة صلبة لمرحلة الدولة الموعودة.

 

رئيس السلطة ليس له حصانة، ويحتاج كأي مواطن عادي إلى تصريح للمرور من سلطات الاحتلال، وهو غير بعيد عن سوط العقاب والاستهداف فيما لو خرج عن لعبة الالتزامات المفروضة، وتجربة الراحل عرفات خير شاهد وعنوان، ولا حصانة للوزراء والنواب وكبار المسؤولين الذين احتضنتهم -وما تزال- سجون الاحتلال وزنازينه أسوة بغيرهم من أبناء الشعب الفلسطيني، ولا قيمة سياسية أو اعتبارية للسلطة في مناطق عملها ونطاق إدارتها، والجيش الإسرائيلي جاهز للاستباحة والاقتحام في أي لحظة، ولا.. ولا.. والقائمة تطول!

 

لم يكن "أبو مازن" يتخيل في أسوأ توقعاته أن يتحول إلى رئيس شكلي دون أي سلطة حقيقية، وأن تدير إسرائيل ظهرها لكل الالتزامات ونصوص المعاهدات التي أبرمتها مع السلطة سابقاً، وأن تتهرب الإدارة الأميركية من مسؤولياتها تجاه مسيرة التسوية، وتعجز عن ممارسة أي ضغط حقيقي على حكومات الاحتلال باتجاه وقف أو تجميد الاستيطان ولو جزئياً لفترة زمنية محدودة.

 

لذا فإن تجربة السلطة في ظل الاحتلال تجربة مأساوية ذات نتائج كارثية بامتياز، فقد وضعت الفلسطينيين وبناهم ومؤسساتهم تحت رحمة الاحتلال، وأعادت القضية الفلسطينية سنوات طويلة إلى الوراء، وحرفت الفلسطينيين عن أولويات التحرر الوطني، وأشعلت نيران التناقضات الداخلية، وهدمت القيم والمبادئ والأخلاقيات الوطنية، ونزعت من الصدور حب الوطن لصالح الانحياز للرتب والوظائف والامتيازات والمصالح الشخصية الضيقة، وأهملت المواطن العادي غير المؤطر تنظيميا أو غير القريب من الدائرة الفصائلية.

 

قد يطلق الكثيرون على واقع السلطة الراهن نعوتا من قبيل "السلطة الورقية" أو "السلطة الكرتونية"، ويستدلون على ذلك بانعدام كافة مقومات سيادتها على أرض الواقع، لكن القول الأصح الذي ينبغي إطلاقه على حقيقة الكيان المتشكل حاليا هو لفظ "اللاسلطة"، فهو ليس مجرد سلطة ورقية أو كرتونية، وليس حكما ذاتيا محدودا، بل إن تشخيص حاله يجزم بوقوعه في دائرة "اللاسلطة" وانتفاء أي مظهر سلطوي فيه.

 

من هنا فإن جرداً بسيطاً لحساب الأرباح والخسائر الوطنية الفلسطينية منذ تأسيس السلطة حتى اليوم يؤكد أن الفلسطينيين لم يخسروا -في ظل وجود السلطة- الكثير فقط، بل إنهم خسروا بصورة دائمة ومتواصلة، وإن قضيتهم وكينونتهم ودورهم الفلسطيني إلى تراجع وانكسار.

 

باختصار، أضحت السلطة -بصورتها وهياكلها ودورها الحالي- عبئاً كاملاً على شعبنا الفلسطيني وقضيته الكبرى ومشروعه الوطني، فلا سلطة ولا ديمقراطية تحت الاحتلال.

 

على مفترق طرق

 

لم يكن خيار حلّ وتفكّك السلطة -تحت أي صورة كانت- مطروحا في الأروقة السلطوية والفتحاوية القيادية إبان المرحلة التي أعقبت تأسيس السلطة وحتى وقت قريب، لكن التلميحات والتسريبات الأخيرة التي صدرت عن شخصيات قيادية في السلطة وحركة فتح فعلت فعلها، وأرخت ظلالاً من الشك حول مدى وطبيعة استعداد "أبو مازن" وقيادة السلطة وفتح للاستمرار في مشروع السلطة وفق المعايير والمواصفات والمعطيات الحالية.

 

يدرك "أبو مازن" -ومن ورائه قيادة فتح- أن مشروعهم الوطني المطروح قد فشل إثر عقدين أعجفين من العمل التفاوضي الهزيل، وأن خياراتهم الوطنية قد تم استنفادها عن بكرة أبيها، وخصوصا إثر فشل خيار اللجوء إلى الأمم المتحدة لتحصيل العضوية الكاملة للدولة الذي شكل الخيار الأخير لدى "أبو مازن" لتحقيق أي إنجاز وطني فلسطيني، والمحاولة الأخيرة لإنقاذ مشروعه السياسي والوطني الذي شهد انتكاسات بالغة طيلة الأعوام الماضية التي تلت اعتلاءه سدة الرئاسة في السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير وحركة فتح.

 

اليوم، يجد "أبو مازن" نفسه على مفترق طرق حاسم في مواجهة التحديات الكبرى، فإن استمر فسيستمر رئيساً لسلطة متهافتة ذات وظائف أمنية خادمة للاحتلال بعيداً عن أي نفس وطني، وسيسقط تماماً في بؤرة الغضب والرفض الشعبي الفلسطيني.

 

ومن هنا يمكن تفسير شروع "أبو مازن" في تغيير قواعد اللعبة بشكل تدريجي مدروس مع "إسرائيل" والإدارة الأميركية، وحرصه البائن على إنجاز مشروع المصالحة الفلسطينية والتنسيق مع حماس بهدف إرساء إستراتيجية فلسطينية جديدة لإدارة الملف الفلسطيني داخلياً وخارجياً خلال الأيام المقبلة.

 

متواليات الأحداث تعطي مؤشرا واضحا لذكاء "أبو مازن" سياسياً، ولكنه ذكاء متأخر على أية حال، ومع ذلك يمكن البناء عليه لجهة ترتيب الأولويات الوطنية الفلسطينية من جديد، ورسم ملامح موقف فلسطيني موحد في مواجهة الاستلاب الإسرائيلي للفلسطينيين، أرضاً ووطناً وإنساناً وسلطة وقضية، خلال المرحلة القادمة.

 

مشكلة "أبو مازن" أنه أدرك متأخرا أن سلطته وهمية، وأنْ لا سلطة حقيقية تحت الاحتلال، فالمسألة هنا لا تتعلق برغبة نظرية يسهل تبنيها بقدر ما تتعلق بحالة معقدة وأخلاط متشابكة، داخلياً وخارجياً، يصعب تفكيكها أو القفز عنها بسهولة كما يتصور البعض.

 

ولا يبدو أن القوى الكبرى التي رعت إنشاء السلطة كمشروع دولي في وارد التضحية بها والاستغناء عن خدماتها، على الأقل في هذه المرحلة، فالإدارة الأميركية التي تتزعم الضغوط على السلطة راجعت حساباتها بوضوح تجاه تهديداتها بقطع الدعم المالي عن السلطة في ظل مؤشرات انهيارها، ولا يُتوقع أن تنحو منحى عقابياً للسلطة على الصعيد المالي والاقتصادي مستقبلاً.

 

وعلى المستوى الداخلي، فإن الارتباط المعيشي لشرائح واسعة من الفلسطينيين بالسلطة وراتبها يجعل من الشروع في بحث أمر حل السلطة دون بدائل سليمة وحقيقية أمراً متعسفاً بعيداً عن المنطق والواقعية.

 

لذا، يجوز لنا التأكيد أن مفتاح حلّ السلطة، ولو عبر بوابة التحذير من انهيارها، ليس بيد "أبو مازن" وحركة فتح، وأن السلطة يصعب أن تأخذ طريقها نحو الحلّ عبر المراجعة الفلسطينية الذاتية حالياً، وأن إمكانية انهيارها تبقى أحد الاحتمالات الواردة خلال المرحلة المقبلة.

 

ما الحل؟

 

حلّ وتفكيك السلطة لا يشكل أولوية وطنية في هذه المرحلة، وينبغي أن تتصدر المصالحة وجهود إنفاذ آلياتها الأجندة الوطنية الفلسطينية، بموازاة الانخراط في ورش عمل وطنية تشارك فيها فصائل الشعب الفلسطيني وكافة شرائحه الاجتماعية، وتبحث بشكل شامل ومعمق في ماهية الخيارات والبدائل الوطنية، بهدف استنقاذ القضية الفلسطينية ومواجهة التحديات والمخططات الإسرائيلية، وإقرار أفضل الصيغ لإدارة الشأن الفلسطيني الداخلي في إطار مسيرة التحرر والانعتاق من الاحتلال.

 

تهديدات "أبو مازن" اليوم بحل السلطة أو التحذير من انهيارها تبقى في الإطار النظري المجرد، ولا يُتوقع –على الأرجح- أن تترجم على أرض الواقع لاعتبارات وظروف مختلفة، يتعلق بعضها بضعف نفوذه وتأثيره الداخلي الذي أحال الضفة الغربية إلى قطاعات سياسية وممالك أمنية ذات ولاءات وامتدادات خارجية ارتبطت مصالحها ووجودها بمصالح واستمرار الاحتلال، ويتعلق بعضها الآخر بسطوة التدخل والتأثير الدولي على السلطة الفلسطينية.

 

المنظومة السلطوية الراهنة بحاجة اليوم إلى علاج جذري وإعادة صياغة شاملة، ولن يتأتى ذلك إلا عبر ولوج بوابة التوافق الوطني، وطيّ صفحة الانقسام البغيض بشكل نهائي، وتطبيق اتفاق المصالحة الفلسطينية الذي تم إقراره في القاهرة شهر مايو/أيار الماضي، والشروع في إعادة قولبة النظام السياسي الفلسطيني من جديد، ورسم رؤية وطنية فلسطينية شاملة تتناول إدارة الواقع الداخلي كما إدارة الصراع مع الاحتلال، وذلك بهدف تقويم العوج والانحراف الذي أصاب المسيرة الوطنية الفلسطينية طيلة العقدين الماضيين، ومواجهة أخطار وتحديات المرحلة القادمة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى سيرتها الأولى، سيرة الشرف والطهر والإجماع الوطني.

 

من هنا تكمن أهمية اللقاء المرتقب بين عباس ومشعل خلال الأيام القادمة لجهة بحث آفاق المستقبل الفلسطيني وآليات إنفاذ المصالحة الفلسطينية، وهو لقاء حاسم وأساسي ومفصلي كما تشير إلى ذلك معظم المعطيات والتوقعات، وربما يؤسس -حال نجاحه- لمرحلة تاريخية جديدة في حياة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.

 

الجزيرة نت