خبر ملاحظات حول الحراكات داخل إسرائيل../ علي بدوان

الساعة 07:01 ص|03 سبتمبر 2011

ملاحظات حول الحراكات داخل إسرائيل علي بدوان

جاءت ولادة حركة الاحتجاج الاجتماعي في "إسرائيل" مؤخرًا لتثير مجموعة من الأسئلة المتعلقة بفحوى تلك الحراكات ومضمونها، وإمكانية تصاعدها أو تطورها، والاحتمالات المفتوحة أمامها لجهة تداخلها مع الموضوع السياسي وتجاوزها لسقف المطالب الاجتماعية. ولم تقدم حركة الاحتجاج لائحة مطالب سياسية على سبيل المثال، وإنما مجرد مطالبات بإحداث تغيير جذري شامل في سياسات الحكومة الاقتصادية الاجتماعية، حيث دعت التصريحات المتكررة لقادة الحركة الاحتجاجية إلى تقليص الهوة بين شرائح "المجتمع الإسرائيلي"، وإلى خلق تماسك اجتماعي متين قائم على الاستجابة للحقوق الاقتصادية والاجتماعية للطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة والضعيفة. وطالبت كذلك بمحاربة الغلاء وفرض رقابة حكومية على أسعار المواد الأساسية، وجعل الإسكان في متناول شرائح المجتمع المختلفة ورفع مستوى الحد الأدنى للأجور.

 

ومن المعلوم أن شرائح من الطبقة الوسطى في "إسرائيل" هي التي بادرت وقامت بحركة الاحتجاج الراهنة، بخلاف حركات الاحتجاج "الإسرائيلية" السابقة التي قامت بها الشرائح المسحوقة من اليهود الشرقيين (السفارديم) ومعهم يهود (الفلاشمورا) على خلفية التمييز ضدهم.

فالحركة الاحتجاجية الحالية ترجع إلى تآكل قدرة الطبقة الوسطى على مواجهة الأعباء المالية للحياة نظرا لارتفاع تكاليف المعيشة بصورة حادة في مختلف متطلبات الحياة الأساسية والضرورية المتعلقة بالمسكن والمأكل والملبس والمشرب والمواصلات والاتصالات والكهرباء والبنزين والسيارات والمواد الاستهلاكية الأخرى الضرورية.

 

وتوجت تلك الحراكات والتحركات داخل "إسرائيل" بخروج أكثر من ثلاثمئة ألف متظاهر إلى الشوارع في تل أبيب ومدن مختلفة داخل فلسطين المحتلة عام 1948 منها الخضيرة ونتانيا والقدس وحيفا وبئر السبع والعفولة إضافة إلى ايلات وديمونا، وموديعين، وبتاح تكفاه، ورمات هشارون، وهود هشارون، ونتانيا، وبيسان... الخ، مطالبين بـ"العدالة الاجتماعية" في هبة كبيرة تلامس في ملامحها الثورات الاجتماعية التي هبت على بعض البلدان العربية في الفترات الأخيرة.

 

وبالطبع، هناك فوارق هائلة عند الحديث عن حراكات تجري في البلدان العربية تحت سقف المطالب الاجتماعية والاقتصادية مضافًا إليها بشكل رئيسي وأساسي المطالب السياسية والبحث عن الحرية والديمقراطية، وبين ما يجري في "إسرائيل" الآن من حراكات وتحولات ما زالت بعيدة عن المضمون المتعلق بالعناوين السياسية.

 

فـ"إسرائيل" بالفعل هي دولة استثنائية في المنطقة، واستثنائيتها لا تعني فرادتها بالقوة مثلًا أو الاقتصاد، أو بوجود حياة مؤسساتية ديمقراطية ووجود تبادل ديمقراطي حقيقي للسلطة، بقدر ما يعني أن هناك مجموعة من الخصائص "الفريدة" التي تميز تلك الدولة، التي ولَّدت بشكل غير طبيعي أساسًا وبقرار دولي هو قرار التقسيم (181) لعام 1947، مما يجعل إمكانية حدوث تحولات ثورية هائلة داخلها من نمط (الانقلاب) على تلك الأيديولوجيا الصهيونية التي وضعت الأساس الأيديولوجي التبريري لقيام تلك الدولة داخل أوساط يهود العالم وبنت مداميكها عليها، أمرًا صعبًا وبعيد المنال في الوقت الراهن وفي المديات المنظورة على الأقل.

 

وانطلاقًا من ذلك، يرى البعض أن أفق حركة الاحتجاج "الإسرائيلية" ينحصر في الحالة "اليهودية الصهيونية الإسرائيلية". فهي كحركة نابعة من مجتمع تشكل تاريخيًّا من هجرة واستيطان، وبنى ذاته على حساب الغير وتسود فيه روح العنصرية وعدم الإحساس بآلام ومعاناة ضحاياه، ولا يزال يخوض صراعا مباشرا ضدهم. وبذلك حصرت حركة الاحتجاج نفسها في مجتمعها وبنت بينها وبين الفلسطينيين أصحاب الوطن الأصليين جدارًا في مخيلتها ليحجب عنها رؤيتهم والتطرق إلى معاناتهم، في وقت تطالب بالعدالة والمساواة والرفاهية لمجتمعها وفي الإطار الصهيوني.

 

بل إن بعض ما يرفعه المتظاهرون اليهود من مطالب كإيجاد حل سريع لأزمة السكن سيكون على حساب العرب الفلسطينيين داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948ومصادرة المزيد من أراضيهم لبناء تجمعات سكنية لليهود. فقد سارع نتنياهو وفي إطار احتواء أزمة السكن إلى الإعلان عن بناء آلاف الوحدات السكنية في القدس المحتلة. إذًا العدالة الاجتماعية والإصلاحات التي يطالب بها الشارع اليهودي ستكون على حساب الشارع العربي.

 

ويلحظ بأن نتنياهو وحكومته يتجنب المواجهة المباشرة مع حركة الاحتجاج الاجتماعي، بل وقدم لها لهجة تصالحية عبر ترحيبه "بالدليل على حيوية الديمقراطية الإسرائيلية" معتبرًا بأن تلك الاحتجاجات تحمل "سمة أصيلة"، وعاملًا على احتوائها، متذرعًا بالأزمة المالية العالمية في مواجهة مطالب الحركة له بتقديم تنازلات تتعلق بوقف الخصخصة والحد من الضرائب غير المباشرة وإطلاق برنامج شامل للمساكن بأسعار مقبولة والتعليم المجاني ابتداءً من سن صغيرة، وزيادة الإنفاق الاجتماعي، وإجراء تخفيضات كبيرة في ميزانية الاستيطان وميزانية الحرب، ومطالبها بالحصول على عشرين أو ثلاثين مليار شيكل (أربعة إلى ستة مليارات يورو) ضرورية لتمويل الإصلاحات الاجتماعية.

 

ومع ذلك تبقى حركة الاحتجاج مهمة، وتشكل تحديا مهما لحكومة نتنياهو واليمين المتطرف، وتحمل بين ثناياها إحداث تغييرات داخلية في المجتمع الإسرائيلي قد تقود إلى تبلور اصطفافات سياسية وحزبية في إسرائيل تؤدي إلى إضعاف تحالف الليكود والمستوطنين والحريديم وحزب ليبرمان، إلى درجة تمكن المعسكر المناوئ لهم من الفوز في الانتخابات المقبلة. ويعتمد هذا على قدرة الحركة في الاستمرار في احتجاجاتها والحفاظ على تماسكها والاستمرار في أخذ زمام المبادرة.

 

وخلاصة القول، علينا أن لا نبالغ في الحديث عن الحراكات الأخيرة التي جرت وتجري في "إسرائيل"، كما علينا أن لا نعول عليها كثيرًا لجهة ولادة تحولات سياسية عميقة داخل الدولة العبرية. لكن بالمقابل علينا أن ندرك أن هناك حجمًا متزايدًا من التناقضات داخل المجتمع الصهيوني على أرض فلسطين، وأن تلك التناقضات لا بد لها في نهاية المطاف من أن تطفو على السطح في دولة وكيان عنصري بني ظلمًا وعدوانًا على حساب شعب أخر.