خبر الأزمة المصرية – الإسرائيلية: مخاض توازنات جديدة

الساعة 12:02 م|29 أغسطس 2011

الأزمة المصرية – الإسرائيلية: مخاض توازنات جديدة

مركز الجزيرة للدراسات

شعب أُطلقت حريته بعد أن خلع قيوداً كبلته طويلاً، وسلطة انتقالية مقيدة بميراث مرحلة طويلة خلفت تركة داخلية ثقيلة وتوازنات خارجية معيبة ارتبطت بتخلي مصر عن دورها وتحول رئيسها إلى "كنز استراتيجي لإسرائيل" وفق الوصف الذي خلعه عليه أحد كبار مسؤوليها السابقين.

 

هذه هي المعادلة الصعبة التي تواجه مصر في مرحلة انتقالية مليئة بالصعوبات، وتفرض عليها مراجعة ترتيبات غير متوازنة تحكم علاقاتها الهشة مع "إسرائيل". أقيمت تلك العلاقات في إطار معاهدة مارس/آذار 1979 على أسس غير متكافئة. ولذلك قوبلت برفض شعبي أضعفها منذ البداية. وازداد هذا الرفض مع الوقت، وخصوصاً بعد أن بنى نظام حسني مبارك، في سنواته العشر الأخيرة بصفة خاصة، حساباته على إرضاء "إسرائيل" وأميركا لضمان دعمهما أو عدم معارضتهما مشروع توريث السلطة.

 

ولا يكفي زوال هذه الحسابات لإزالة كل ما ترتب عليها من توازنات وما كرسته من أنماط علاقات تعودت واشنطن وتل أبيب عليها. فهل يمكن أن تكون الأزمة الأخيرة التي نشبت بين مصر و"إسرائيل" وما اقترن بها من تصعيد بداية تغيير تلك التوازنات؟

 

هذا هو السؤال الذي يتطلب البحث عن إجابته تحليل موقف المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذي يدير شؤون المرحلة الانتقالية في مصر (وسيُشار إليه هنا باسم المجلس العسكري)، ومناقشة موقف إسرائيل انطلاقا من إدارتها للأزمة التي ترتبت على قتل قواتها ضابطاً وأربعة جنود أمن مصريين، واستشراف تداعيات هذه الأزمة.

 

المجلس العسكري: سياسة الاحتواء

 

فاجأت أزمة استشهاد خمسة مصريين بنيران إسرائيلية المجلس العسكري في لحظة تفيد المؤشرات المتوفرة من واقع طريقة إدارته للمرحلة الانتقالية أنه كان يتمنى تأخرها لما بعد قيامه بتسليم السلطة بشكل كامل عقب الانتخابات الرئاسية، أو على الأقل إلى حين انتخابات البرلمان الذي يُرجح أن يبدأ عمله قبيل نهاية العام الجاري.

 

ويرجع ذلك إلى سببين رئيسيين:

 

أولهما أن إعادة ترتيب الأوضاع الداخلية تحظى بأولوية في مراحل الانتقال والتحول من نظام سياسي إلى آخر. وتمر مصر الآن في مرحلة انتقال صعبة ومحمَّلة بميراث ثقيل ومشحونة بتوترات سياسية واجتماعية شتى.

 

أما السبب الثاني الذي يجعل إرجاء مراجعة السياسة الخارجية مفضلا لدى المجلس العسكري في الظرف المصري الراهن بصفة خاصة، فهو أن هذه المراجعة تنطوي على قضايا شائكة وملفات شديدة الحساسية. ولذلك فعندما بادر نبيل العربي أول وزير خارجية بعد خلع حسني مبارك إلى الإعلان بأن مصر لا تعتبر إيران عدواً وأن العلاقات معها ستُعاد، لم يتغير شيء في هذه العلاقات باستثناء أجوائها العامة التي أصبحت أفضل مما كانت عليه. وأعلن بعض أعضاء المجلس العسكري، رداً على أسئلة في هذا الشأن، أن مستقبل العلاقات مع إيران متروك إلى البرلمان القادم بعد انتخابه.

 

كما أن التوقعات الكبيرة التي صاحبت إعادة فتح ملف المصالحة الفلسطينية في مارس/آذار الماضي لم تلبث أن تراجعت، سواء على صعيد دور مصر الإقليمي أو علاقاتها مع حركة "حماس". فقد تحسنت هذه العلاقات في أجوائها أكثر مما تغير واقعها. عاد معبر رفح إلى العمل بطاقة أعلى من أي وقت منذ سيطرة "حماس" على قطاع غزة عام 2007، ولكنه لم يُفتح بعد للعبور الحر. وتم تخفيف القيود الأمنية المفروضة على الجانب المصري من هذا المعبر، ولكن دون إلغائها. وظل التحفظ قائما في العلاقة مع حركة "حماس" التي لا يوجد أي مكتب لها في مصر. ولذلك بدا التغيير في الموقف المصري الرسمي تجاه قضية الانقسام والمصالحة على الصعيد الفلسطيني أقل مما كان متوقعا.

 

وهكذا تفيد المؤشرات المستقاة من طريقة إدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية أنه يفضل إرجاء أية مراجعة أساسية للسياسة الخارجية في ملفاتها الأشد حساسية لكي تقوم بها السلطة المدنية بعد انتهاء هذه المرحلة، وبصفة خاصة حين يتعلق الأمر بقضايا وعلاقات ترتبط بالسلام والحرب.

 

ولذلك، فالأرجح في ضوء هذه المؤشرات أنه عندما فوجئ المجلس العسكري بالأزمة التي ترتبت على اعتداء إسرائيلي جديد أسفر عن استشهاد خمسة من رجال الأمن المصريين، لم يكن لديه إلا خيار واحد هو السعي إلى احتواء هذه الأزمة التي جاءت مبكرة.

 

فإلى جانب رغبته في التركيز على معالجة الأوضاع الداخلية وإعادة ترتيبها وترك القضايا الشائكة في السياسة الخارجية للسلطة المدنية، يبدو موقفه حساساً للغاية في ملف العلاقات مع "إسرائيل" من زاوية الخط الفاصل بين دوره السياسي المؤقت ووظيفته العسكرية الدائمة.

 

وقد كان تحديد هذا الخط الفاصل ولا يزال يمثل إحدى المشاكل في العلاقة بين المجلس العسكري وأطراف عدة في مصر. غير أن أي نتائج تترتب على الخلط بين دور المجلس السياسي داخليا بصفته من يدير شؤون البلاد بدلاً من رئيسها وبرلمانها ووظيفته العسكرية في قيادة الجيش تختلف تماماً عن تلك التي يمكن أن تنتج عن مثل هذا الخلط في قضية خارجية شديدة الحساسية والتعقيد مثل العلاقات مع "إسرائيل".

 

ولعل هذا يفسر عدم إصدار المجلس العسكري أي بيان بشأن الأزمة. فقد تولت الحكومة المؤقتة مهمة التعبير عن الموقف الرسمي المصري عبر الأطر الدبلوماسية المعتادة إلى جانب لجنة وزارية شكلتها لهذا الغرض وعقدت اجتماعا طويلا أسفر عن بيان قصير بدا بعيداً عن المشاعر الغالبة في الشارع بالرغم من أنه جاء أقوى من أي موقف اتخذه النظام السابق في أزمات مماثلة. فقد ارتكبت "إسرائيل" خمس عمليات من هذا النوع منذ عام 2004 راح ضحيتها 23 مصرياً بين جنود أمن ومدنيين. ولم يزد رد الفعل المصري الرسمي في أي منها على احتجاج روتيني من باب رفع العتب.

 

فهذه هي المرة الأولى التي يصدر فيها عن مصر ما يمكن اعتباره إدانة قاطعة مصحوبة بطلب اعتذار إسرائيلي بالرغم من أن الإحجام عن استدعاء سفيرها من تل أبيب للتشاور أضعف هذا الموقف.

 

"إسرائيل": الأسف بدل الاعتذار

 

طريقة إدارة "إسرائيل" للأزمة لم تساعد في وضع حد لردود الفعل الشعبية الغاضبة التي رسمت مشاهد احتجاجية سلمية ستظل مسجلة في التاريخ، وفي مقدمتها مشهد الشاب أحمد الشحات عندما تسلق جدار البناية المرتفعة التي يوجد مقر سفارة إسرائيل في قمتها وإنزاله العلم الذي ظل مرتفعا فوقها منذ مايو/أيار 1980 ووضع علم مصر في مكانه.

 

لم تقدم إسرائيل اعتذارا بالمعايير الديبلوماسية المعهودة ولم يستخدم أي مسؤول فيها كلمة الاعتذار أو مشتقاتها صريحة. فقد أعرب وزير الدفاع أيهود باراك عن الأسف الذي لا يمكن اعتباره نوعا من الاعتذار. ولم يختلف ما صدر عن الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز كثيراً عن معنى الأسف الذي لا ينطوي – بخلاف الاعتذار – على إقرار بالذنب أو الجرم. كما أن الأسف يمكن أن يصدر عن جهة لا علاقة لها بالأمر. فهناك أحداث وأمور مؤسفة بطابعها. ولكن الاعتذار لا يصدر إلا عن الفاعل أو الجاني.

 

ولم تعط الحكومة الإسرائيلية للمجلس العسكري ورقة يمكن أن تدعم موقفه داخلياً وقد تساعد في تهدئة الغضب الداخلي في مصر جزئياً. فلم يصدر عنها مثلاً ما يفيد استجابتها له، أو لمصر، عندما وافقت على وضع حد للتصعيد الميداني الذي كان ينذر بشن حملة عسكرية موسعة على قطاع غزة.

 

غير أن حقن دماء الفلسطينيين في قطاع غزة لا يكفي، في كل الأحوال، للحد سريعاً من الغضب الشعبي لإراقة دماء المصرين في سيناء، وخصوصاً في وضع يتيح للمرة الأولى التعبير عن هذا الغضب إلى أقصى مدى. فقد أصبح في إمكان مصريين غاضبين أن يحاصروا السفارة الإسرائيلية ومنزل السفير ويعتصموا أمامهما ويعبروا عن غضبهم الذي ظل مكبوتاً لفترة طويلة.

 

والمجلس العسكري أمام خيارين. الأول، يراهن على انحسار الاحتجاجات يوماً بعد يوم بدون اتخاذ موقف أقوى تجاه "إسرائيل"، ويتمنى عدم حدوث أزمة جديدة على الحدود إلى أن يتم انتخاب البرلمان. الثاني، أن يضطر إلى اتخاذ إجراء ما لتهدئة الغضب الداخلي وخصوصاً إذا حدث اعتداء إسرائيلي آخر قبل انتهاء المرحلة الانتقالية.

 

مصر و"إسرائيل": سياسة المراوغة

 

ربما تظل تداعيات الأزمة مؤجلة إلى ما بعد تسليم السلطة إلى حكم مدني إذا تمكن المجلس العسكري من احتوائها، أو قد تبدأ في الظهور في حالة اضطراره إلى اتخاذ إجراء ما لتهدئة هذا الغضب أو حين يصبح الاحتواء بعيد المنال في حال إطلاق النار مجدداً على جنود مصريين خلال أية عملية عسكرية تقوم بها "إسرائيل" ضد مسلحين على الحدود. وهذا احتمال يصعب استبعاده في ظل استمرار الاستنفار العسكري الإسرائيلي على الحدود. وفي هذه الحالة، لابد أن تتخذ مصر إجراء يُتوقع أن يتراوح بين استدعاء سفيرها لدى تل أبيب للتشاور وطلب تعديل معاهدة 1979 (اتفاقية السلام المصرية – الإسرائيلية) بما يسمح بإدخال قوات مسلحة رسميا في (المنطقة ج) التي ينص البروتوكول الأمني لهذه المعاهدة على وجود قوات شرطة فيها بالإضافة إلى 750 جندياً فقط من قوات حرس الحدود.

 

وربما يكون خيار السعي إلى تعديل المعاهدة، وتحديداً بروتوكولها الأمني، هو الأكثر انسجاماً مع ميل المجلس العسكري إلى عدم التصعيد ضد "إسرائيل" خلال المرحلة الانتقالية التي يدير فيها شؤون البلاد. فرد فعل "إسرائيل" المتوقع في حال اللجوء إلى هذا الخيار يختلف عما قد تلجأ إليه إذا قررت مصر استدعاء سفيرها لدى تل أبيب للتشاور. والأرجح أن يكون رد الفعل على استدعاء السفير حادا على نحو قد يدفع الأمور نحو تصعيد متبادل في ظل الضغط الشعبي المتزايد على المجلس العسكري والحكومة المؤقتة. وهذا هو ما يسعى المجلس إلى تجنبه حتى انتهاء المرحلة الانتقالية.

 

أما طلب تعديل المعاهدة فيمكن ل"إسرائيل" أن تناور بشأنه، أو حتى أن تقبله بالرغم من أن الاتجاه الذي يبدي استعداداً لذلك في حكومتها لا يزال محدوداً حتى الآن. ولكن تعديل المعاهدة يمكن أن يكون مقبولاً في حال التفاهم مسبقاً مع مصر على حدود هذا التعديل قبل إبداء الاستعداد للتعامل إيجابياً معه.

 

والأرجح، وفق هذا السيناريو، أن يأتي التعديل محدوداً لا يتجاوز إدخال ما بين ثلاث وأربع كتائب مشاة من القوات المسلحة المصرية إلى (المنطقة ج)، سواء بكل منشئاتها العسكرية وأسلحتها أو ببعضها بحيث تظل القوات الإسرائيلية الموجودة في المنطقة الحدودية (المنطقة د) في وضع عسكري أفضل (توجد فيها أربع كتائب مشاة بكامل منشئاتها وتحصيناتها الميدانية وأسلحتها بما في ذلك صواريخ أرض – جو بالرغم من أن المعاهدة تحرم مصر من حق إدخال طائرات حربية وإنشاء مطارات عسكرية في سيناء كلها).

 

وبالرغم من أن تعديلاً بهذا الحجم في معاهدة 1979 لا يغير كثيراً في الوضع غير الطبيعي الذي فرضته هذه المعاهدة في سيناء، فالأرجح أن يؤدي إلى تهدئة الغضب الشعبي ولكن إلى حين. كما أنه سيكون سابقة تفتح الباب أمام طلب تعديلات أخرى في فترة تالية بعد المرحلة الانتقالية.

 

غير أنه حين تنتهي هذه المرحلة بكل جوانبها بعد انتخاب رئيس جديد للبلاد في منتصف العام المقبل أو في نصفه الثاني حسب الوقت الذي سيستغرقه إصدار الدستور الجديد، ستدخل مصر حقبة جديدة يمتلك فيها الشعب للمرة الأولى حقه في تقرير مستقبله من خلال سلطة منتخبة يرجح أن تشرع في مراجعة السياسية المصرية الخارجية في مجملها بما في ذلك ملفاتها الأكثر صعوبة وعلى رأسها ملف العلاقات مع "إسرائيل".

 

وسيتوقف حجم هذه المراجعة، والمدى الذي يمكن أن تبلغه، على عاملين: أولهما تركيب البرلمان الذي سينُتخب قبيل نهاية العام الجاري، وطبيعة الحكومة التي ستُشكل بعد انتخابه انسجاماً مع الأغلبية فيه، وستكون على الأرجح ائتلافية تضم عددا من الأحزاب لصعوبة حصول أي حزب على أغلبية مطلقة منفرداً؛ ثم على توجهات الرئيس القادم، وما يقترن بذلك من تغيير داخلي في مصر.

 

أما العامل الثاني فهو التطورات الإقليمية خلال الأشهر القادمة حيث لا تزال المنطقة حبلى بتغيير في بلدين اثنين على الأقل إلى جانب الدول الثلاث التي حدث فيها فعلاً، وربما بما هو أكثر من ذلك إذا تواصلت رياحه وشملت بلاداً أخرى. وسيكون التغيير في سورية بصفة خاصة، إذا حدث، مؤثراً بعمق في تشكيل الصورة الجديدة للمنطقة والتي سيكون لها أثرها الكبير على كيفية مراجعة مصر لسياستها الخارجية وحجم هذه المراجعة والوقت الذي يمكن أن تستغرقه والمدى الذي ستصل إليه في النهاية.

 

مركز الجزيرة للدراسات