أميركا والزعامة العالمية والتأثير في الأحداث .. منير شفيق
أميركا أخذت ترتفع إلى مستوى الدولة الإمبريالية الكبرى عمليا منذ دخولها في الحرب العالمية الأولى، لكن بريطانيا بقيت، عمليا، حتى بداية الحرب العالمية الثانية تلعب دور الدولة الإمبريالية الكبرى.
استخدام كلمة "عمليا" في الحالين جاء نتيجة الفارق بين المقوّمات الأساسية التي تقرّر موقع الدولة الكبرى من جهة والممارسة الفعلية-العملية لدور الزعامة من جهة ثانية.
فقراءة المقوّمات الأساسية ترتكز على مجموعة القوّة والإمكانات الاقتصادية والمالية والعسكرية والسياسية من حيث الصعود والهبوط، فيما تقوم قراءة الموقع والدور على أساس ما هو جارٍ في السياسات الدولية من حيث الظاهر والموروث التاريخي.
صحيح أن الحرب العالمية الثانية، وقبل أن تضع أوزارها، صعدت بأميركا إلى موقع الدولة الإمبريالية الكبرى "رقم واحد"، إلاّ أن ترجمة ذلك عمليا، من حيث الدور الظاهر والزعامة المسّلم بها، لم يتحققا إلاّ مع نهاية الخمسينيات من القرن العشرين.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية كانت القراءة النافذة والعميقة لموازين القوى تحسم بانتهاء عهد الزعامة البريطانية العالمية لحساب الزعامة الأميركية العالمية. لكن الوعي السياسي العام تأخرّ خمسة عشر عاما قبل التسليم بهذه الحقيقة، إذ ظلّ هنالك من يرون أن بريطانيا هي اللاعب الأول في السياسة الدولية، وقد وصل الأمر بالبعض إلى حد المجادلة بأن بريطانيا هي التي تلعب بأميركا وتسيّرها. ويا لبلادة الوعي حين تجد، ربما إلى يومنا هذا، قلة تصرّ على أن بريطانيا هي التي تسيّر السياسات الأميركية.
الأمر نفسه يحدث ويتكرّر في هذه الأيام، حين يتخلف الوعي عن قراءة حقيقة التراجع الذي حلّ بالمقوّمات التي رفعت أميركا إلى موقع الزعامة العالمية لتهبط يوما بعد يوم من ذلك الموقع هبوطا صارخا، بما يشبه، مع الفارق، ما حدث للمقوّمات التي رفعت بريطانيا لذلك الموقع حين أخذت بالتراجع حتى الهبوط الصارخ.
تكفي ملاحظة الصراع الداخلي الذي نشب بين الرئيس الأميركي أوباما والجمهوريين حول معالجة أزمة الديون الأميركية، التي اقتربت من سقف خمسة عشر تريليون، مع استمرار العجز السنوي في الميزانية الذي بلغ عدة مئات من البليونات، والأهم استمرار التراجع في النمو، واشتداد المنافسة العالمية باطراد.
هذا المقوّم الاقتصادي والمالي الذي سبق أن وضع أميركا في موقع الدولة الإمبريالية "رقم واحد" أصبح الآن في خبر كان، ودخل مرحلة التفاقم الذي لا علاج له.
المقوّم الثاني الذي يسبق المقوم آنف الذكر أهمية في إيصال أميركا إلى موقع "رقم واحد" بين الدول الكبرى وهو المقوّم العسكري. وقد كان تراجعه أسرع وأخطر مما حدث في الميدان الاقتصادي والمالي. فأين حال هذا المقوّم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، والحرب الكورية، والحرب الباردة، إذا ما قورن مع حاله في حروب أميركا خلال السنوات العشر الأخيرة؟!
صحيح أن أميركا عسكرياً ما زالت تحتل الموقع الأول، أو الأبرز، من حيث قدراتها النووية والصاروخية والجويّة والتكنولوجية. لكن نقطة ضعفها العسكرية المستجدة، التي هي في المحصلة أهم من تلك القدرات، تتمثل في عجزها عن التعبئة العسكرية، البشرية والمعنوية، داخلياً للمجتمع الأميركي، ولا سيما داخل صفوف أبنائها البيض البروتستانت، الأنكلو-سكسون (الواسبس).
هذا ظاهر في التعبئة لحربيها في أفغانستان والعراق 2001 و2003، وظاهر أكثر حين حاول أوباما أن يعزز قواته في أفغانستان بأربعين ألفاً إضافيين، فما كان منه إلا أن جاء بثلاثين ألفاً من المجندين في العراق، بعد أن عجز عن ذلك داخلياً.
القوّة النارية من بعيد أو من علٍ لا تكسب حربا ولا تصنع دولة إمبريالية كبرى، إذ لا مفرّ من الجيش البري، الذي ينزل إلى الأرض ويحتل، ويفرض على عدوه الاستسلام أو الهزيمة الميدانية.
هكذا تشكلت الإمبراطوريات عبر التاريخ القديم والحديث، بما فيها الإمبراطورية الأميركية نفسها، ومن العبث تجاوز هذا القانون الأساسي.
إشكال عدم القدرة على التعبئة العسكرية، البشرية والمعنوية، للحرب ظاهرة غربية عامة اليوم، وليست أميركية فقط. وهي ظاهرة تأتي بعد الوصول إلى القمة، ثم غرق المجتمع المعني بالرفاهية والترف، والعقلية الاستهلاكية والدعة، وتفسّخ القيم التي جعلت منه قوّة ناهضة صاعدة مقاتلة. هنا تحول عملية التعبئة من المجتمع "الأصلي" الصاعد إلى البحث عن مرتزقة أو قوى هامشية لتشكيل الجيوش.
المقوّم الثالث الذي يؤشرّ إلى الصعود نحو الزعامة والقيادة أو إلى الهبوط والسقوط يمكن أن يُرى في المقارنة بين القيادات السياسية والعسكرية والإستراتيجية، وحتى الاقتصادية.
ويكفي أن يقارَن هنا بين القيادات الأميركية منذ الآباء المؤسسين حتى أيزنهاور من جهة، والقيادات الحالية على كل المستويات من جهة ثانية. فالرأسمالي المتقشف الصاعد الذي مثله روكفلر مثلا، أين منه الرأسمالي الفاسد الكسل الذي يتلاعب بالبورصة؟! ورجل الكونغرس في الحربين العالميتين الأولى والثانية، أين منه رجل الكونغرس التافه المستلَب للوبي اليهودي الأميركي، الذي وقف مصفقاً لنتنياهو تسعاً وثلاثين مرّة؟! وأين منه الكونغرس الحالي الذي راح يتخبط في معالجة الدين الأميركي المؤذن بالانهيار المروع؟!
ولماذا نذهب بعيداً؟! قارنوا فقط بين وزراء خارجية من طراز جون فوستر دالاس، أو حتى بيكر من جهة، ووزيرة الخارجية الحالية هيلاري كلينتون، من جهة أخرى، وهي تنتظر الأخبار الآتية من الثورات العربية لتعلق عليها، كمن يلهث وراء دور أو وراء إثبات الوجود، وليس صنع الأخبار.
أما الإعلان عن ملايين لشراء منظمات غير حكومية أو أفراد لاختراق الثورات، فدليل آخر على العجز بالرغم من دناءة من يستجيبون له.
ولكن ما العمل مع بلادة الوعي الذي يبقى أسير ما كان عليه الحال في الماضي المتوسط والقريب، يرى أميركا باقية على سيطرتها السابقة، ولا يقدّر أنها أصبحت أضعف كثيرا، وأقل تأثيرا مما كانت عليه قبل ردح من السنين.
هذه البلادة في تأخر الوعي عن قراءة الجديد هي التي أخذت تفيد منها أميركا، لتبدو كأنها ما زالت اللاعب الأساسي في صنع الأحداث والأخبار. فبعض القوى الصاعدة في ميزان القوى الداخلي في البلاد العربية راحت تبحث عن أميركا لتستقوي بها وصولاً إلى السلطة، وهي لا تحتاج إلى الاستقواء بالعاجز الذي فقد القدرة على التأثير، والذي يجب أن تغلق في وجهه الأبواب. وذلك إذا ما أريد للتغيير المنشود ألا ينحرف ويعود بالبلاد القهقرى. فمن يقترب من أميركا يقترب من الكيان الصهيوني، ومن يفعل ذلك يصبح كالتي نقضت غزلها، أو كالذين يخربون بيوتهم بأيديهم.
إن أميركا كانت خطرة وتجب مواجهتها عندما كانت قوية ومبادرة وصانعة للأحداث، وكان ذلك أسهل من الوضع الراهن، بسبب وضوحه، لأن دورها انتقل إلى اللعب من خلال قوى محلية بعيدا عن الواجهة.
في حرب أميركا على العراق أو أفغانستان كانت هي في الواجهة، وكانت عدوانيتها ظاهرة للعيان. وفي حربها مع الكيان الصهيوني ضدّ لبنان عام 2006 وضدّ قطاع غزة كانت في الواجهة، وما كان لأحد أن يقف إلى جانبها من دون أن يحترق ويقع في الفضيحة.
ولكنها، منذ الثورة في تونس ومصر، لم تعد في الواجهة، وهربت من الواجهة بعد ثلاثة أيام من تدخلها العدواني في ليبيا. وهنا أصبح خطرها ووجوب مواجهتها نمطا جديدا.
بالطبع أهدافها في الحالين واحدة لم تتغيّر، وسياستها المتماهية مع سياسة الكيان الصهيوني هي نفسها لم تتغيّر، وهذا ما يوجب مواجهتها في المرحلة الجديدة. ولا ينبغي لمن يستقوي بها من القوى المحلية، لا سيما من القوى الصاعدة الجديدة، أن تتجاهل تلك الأهداف أو التماهي مع سياسات الكيان الصهيوني. وعليها أن تعترف أن هذه الحقيقة لا تتغيّر حين تقول "نحن الذين استدعيناها" كما حدث مع عدوانها على ليبيا، وليست هي التي جاءت لتغزو ليبيا.
وقد يسوّغ البعض فتح الحوار معها باعتبارها أصبحت ضعيفة وغير قادرة على فرض ما تريد، لكن هذا البعض لا يلحظ أنه أصبح الضعيف حين استدعاها، وسمح لها بالاستقواء به وعليه. ولعل تجربة المجلس الانتقالي في ليبيا تشهد على ما يتضمنه الاستقواء بأميركا، إذ راح يتكسّر وهو في البداية، أو قل "كسر عصاته في أول غزواته".
الذين يستقوون بأميركا يخطئون مرتين: الأولى فيما يجلبونه من كارثة على البلاد وعلى أنفسهم، والثانية الاستنجاد بقوّة آفلة لا محالة.