خبر عودة إلى مشروع قومي.. علي عقلة عرسان

الساعة 12:40 م|26 أغسطس 2011

عودة إلى مشروع قومي.. علي عقلة عرسان

كنا في ما مضى من الزمن نتحدث عن مشروع نهضوي عربي، والآن يتحدث بعض النافذين الرسميين منا وبعض شرائح محدودة عن صراع مذهبي يُستقطب فيه الكيان الصهيوني حليفاً بعد إنجاز تاريخي " في موضوع الدولة الفلسطينية" يعطي جزرة ذاوية لمن يريد أن يباهي بحلول، ويغير توجهات وثوابت في مسارات مصيرية ليتفرغ لمواجهات هي عبء على الأمة بكل المقاييس؟

بداية أسأل ما هو المشروع القومي العربي الذي كان حديث الزمن العربي الغابر؟! هل هو مشروع تحريري للأرض والإرادة والاقتصاد والقرار السياسي من أشكال الهيمنة الاستعمارية ومن صور احتلال الإرادة والاستلاب بأبعاده المختلفة.؟ هل من جزئياته أو تفاصيله التخلص من التبعية الثقافية للمركزيات الأوربية ورسيسها وممثليها وأدواتها وأبواقها، سواء أكانت غربية رأسمالية أم شرقية شيوعية سابقاً، ومن أية تبعيات أخرى تأتي على جذور الأصالة وظواهر الانتماء العربي بمفهومه العميق وقدرته على التطور، وتحريرٍ للإعلام والمعلومات من حصْرية التدفق عبر قنوات غربية ـ صهيونية وما في حكمها، "وكالات أنباء وفضائيات على الخصوص" باتجاه واحد في أكثر الأحيان، وتحرير للعلاقات والمصالح والتبادلات والاعتماد المتبادل بين الدول والأمم، وتحرير أوسع للعقل والمعلومة ومقومات تكوين الرأي العام الحر ومن ثم تحرير للشخصية العربية وللعقلية بصورة عامة مما يعوقها ويقمعها ويرهبها من جهة أخرى؟ أم أنه مشروع تحرري تحريري بالمعنى الروحي والمعرفي العميق، تحرير للفكر والسلوك العربيين مما يعيق انطلاقتهما وإبداعهما من قيود وحدود وعادات وتقاليد وأنماط تفكير وتدبير وعمل وسلوك وتعامل قديم، ومن معايير وقيم بالية أو دخيلة فاسدة؛ وتجديد للمفاهيم وتحديد للمصطلحات وفتح لأبواب الاجتهاد وأبواب الحوار والمجادلة بالحسنى واحترام الجهد الفكري الخلاق، ونبذ للغوغائية والفوضوية ونهجهما وسدنتهما، وتحرير للشخصية العربية من كل ما يثقلها ويعوق انطلاقها وقدرتها على الأداء بإبداع، أي تحريرها من جهل وخوف وإحباط، ومن الأمية بنوعيها: عدم القدرة على القراءة والكتابة، والأمية الثقافية أو المعرفية العامة الناتجة عن عدم المتابعة والإتباع الأعمى والإحجام عن القراءة والمناقشة والاجتهاد والتعبير عن الرأي، خوفاً وطمعاً أو تحسباً وتردداً، بسبب ما توطن في بعض النفوس من خوف ومعطيات مجتمع يجري فيه استتباع أو استزلام الناس لأولي الأمر إما بالإغراء أو بالإرهاب، وما نتج عن سطحية المعطيات والمعلومات والتلقي، وعن سطحية المقدَّم ليكوّن وعياً معرفياً تحليلياً وتركيبياً عميقاً.؟!

هل المشروع القومي هو مشروع الوحدة أو الاتحاد: اقتصادياً وعسكرياً وأمنياً.. إلخ؟! أم أنه مشروع ينصب على تحقيق تقدم علمي نظري وتطبيقي بإمكانيات الأمة كلها، في مجالات مدنية وعسكرية، واكتساب الرؤية والقدرة على التكامل، والتعامل مع معطيات عصر الفضاء والهندسة الوراثية والأسلحة البيولوجية والنووية والتكتلات الاقتصادية والمعلوماتية ووسائل الاتصال الجماهيري، لتحقيق حد أدنى من القدرة على دفع الشر، ولا نقول التوازن الاستراتيجي بمعناه الواسع، مع القوى المحتلة والمعادية المتحالفين عضوياً معها. والاستجابة الحيوية الضرورية لتحديات التنمية والعصر والعلم والمستقبل ولاحتياجات المجتمع العربي ذاته بشبابه وشيبه، وتكوين كتلة قوية تتعامل مع القوى المحيطة بالأمة العربية أو تلك التي تتوجه نحو التعامل معها، سلباً و إيجاباً، بوعي واقتدار وحنكة.. أي أنه مشروع حضاري شامل في النهاية، يحتاج إلى تكامل طاقات الأمة ورؤاها وينكس عليها إيجاباً في كل مناحي حياتها وتطلعاتها؟ هل المشروع القومي يهتم بأفق العمل العربي المشترك في مواجهة التكتلات والتحالفات التي تهدد المصالح العربية والهوية والثقافات الوطنية والقومية والاستقلال والسياسات الملتزمة بمبادئ وثوابت وقضايا مصيرية للأمة، وتعمل على إعادة عصر الاستعمار والنهب المنظم والقِنانة إلى البلاد العربية بشكل جماعي، وإعادة سيطرة رأسمالٍ معين وسياسات وحشية على بلدان وليس على شرائح اجتماعية فيها فقط.. أم أنه مشروع منخفض السقوف وأقل همة وأهمية من كل ذلك، يرمي إلى تحقيق وجود من نوعٍ ما يتطلع إلى أدنى مستوى من البقاء المستكين في عالم يحكمه الأقوياء ويبتلع فيه السريع البطيء في قاعدة مغايرة لما كان في السابق حيث كان يبتلع القوي الضعيف، فاجتمعت الآن، في عصر السرعة، القوة مع السرعة لتصبح قاصمة للظهر.؟!!

المشروع القومي من منظورنا نحن الذين تعلقنا به مذ كان عاطفة مشبوبة وحلماً متوهجاً في الوجدان وتطلعاً تبنى عليه الآمال والتطلعات وكان: وحدةً تؤسس للقوة، وحرية تؤسس للتحرير والديمقراطية والإبداع والعيش بكرامة، وسياسة تنبع من الشعب وتمثل تطلعاته وإرادته ومصالحه ويشكل مرجعيتها العليا، وسلطة يتم تداولها بسهولة واحترام وفق الدستور والقانون ولا يكون فيها الحاكم طاغية أو وارثاً أو مورثاً أو فاسداً مفسداً يكلف الشعب ما لا يطيق ليقتنع بالكف عن لظلم والانصياع لمنطق العقل والأخذ بما يقرره الشعب بحرية، وعدالة اجتماعية تؤسّس على نظام اقتصادي عادل أو تؤسِّس له، نظام يؤدي أغراض النمو والتنمية والبناء ومواجهة الالتزامات التي يفرضها الواقع ويحقق صلابة البنية الاجتماعية والوطنية واقتدارها على أن تشكل حوامل التحرير والنهضة.. وقد آل المد القومي الآن إلى انحسار، والحلم القومي إلى انكسار، في ظل قوقعة قطرية تشكل صيغة اعتراضية على النزعة القومية الإنسانية والدعوة القومية معاً وعلى الفكر القومي وحتى الحلم العربي ذاته.. قوقعة تحرسها أنظمةٌ مدججة بقوةِ السلاح، وبالمؤسسات العربية والدولية، وبالتحالفات والاتفاقات حتى مع الأعداء ـ وبالاستعداد للتعاون مع الشيطان، وهو اليوم الأميركي ـ الصهيوني ـ لتبقى. وهي منكفئة على نفسها، ومتقوقعة ضد أي تطلع وعمل عربيين سليمين، ومدججة بمبدأ السيادة " القطرية بوجه المشروع لقومي" ذلك المبدأ الذي يتلون حسب مصالح الحكم والحاكم، ويُفعَّل في وجه كل أداء قومي أو قرار قومي فيصبح جباراً ذا أنياب وأظافر حتى لو كان بالغ لهشاشة، ويستكين أمام التدخل الأجنبي وأشكال الاحتلال المموه بشكليات سيادية كرتونية مزخرفة فيصبح أرنباً يخرج من قبعة الساحر في الاحتفالات الوطنية والقومية، ومجهزاً بحمايات من قوى دولية تتجاوز الكيان الهش لجامعة الدول العربية ومواثيق تلك الجامعة التي أنشئت أصلاً لتكريس التجزئة والدفاع عنها، في وقت كان فيه الأمل بالوحدة العربية كبيراً، والتطلع إليها إنقاذاً واستنقاذاً، وكان يرجى من العمل القومي بعض الثمار.!!.

 المشروع القومي شأنه في ذلك شأن الفكر القومي، يحتاج إلى تجديد لا إلى لطم وتعديد، تجديد يشمل الرؤية والتنظيم والوسائل والأدوات، ويعيد بناء الذاكرة والعزم والإرادة، ويحسِن الاستفادة من التجربة الماضية التي استمرت عقوداً من الزمن، ومن المعطيات والتحديات والتحولات العصرية، ومن المتغيرات العربية والدولية في اتجاهيها السلبي والإيجابي. ولا أظن أن التغيير المنشود الذي سيطرأ في أثناء حركة التجديد الفكري على الخصوص أو التوجه نحوها عربياً، سوف يمس الأهداف النهائية والثوابت المبدئية في الجوهر والعمق، ولكنه سيكون جذرياً في كل ما يتعلق بالخطاب ومعطياته وأسلوبه ومفرداته وأحكامه، فيما أقدِّر، وجذرياً أيضاً بمواقفه من سياسة الوقوف في مرتكز أو خندق ودعوة الآخرين إلى الالتحاق بأصحابه "الرواد القادة العتاة..إلخ"، أي الالتحاق "بنا"، لأننا " أعلى" أو أنضج أو أقدم أو.. إلخ؟ وكذلك جذرياً في تغيير النظرة إلى كل ما يتعلق بالشريك الملتحم معنا في السراء والضراء، في التدبير والمصير، ذاك الذي نصمم معه المشروع القومي لمصلحتنا جميعاً، ونتوجه وإياه إلى الوصول إليه عبر خطوات وأساليب وخطط وبرامج عمل لا غنى لأي طرف فيها عن الآخر، إذا ما صدق عزمهما على السعي لتحقيق مشروع نهضوي واعد أو منقذ، بعيداً عن نبش مستودع الغسيل القديم، والأحكام المسبقة والمواقف والاتهامات والصفات وردات الفعل الانفعالية التي ثبت أنها تعطل المسيرة وتدمر الثقة وتجعل كثيرين يجانبون الصواب في القول والتصرف.. وبعيداً أيضاً عن الوصاية وأشكالها، تلك التي تفسد الكثير وتؤسس لانعدام الثقة أيضاً وتحول الشريك في المصير والبناء والهدف والوسيلة إلى كتلة سالبة، أو إلى حليف للعدو أو إلى عدوٍ يؤدي الصراع معه في النتيجة إلى هدم البناء وتشويه الأهداف والانحراف بالوسائل عن أغراضها، حيث تساعده على التملص من المشروع والانتماء والالتزام ذرائع أو وقائع فيموه استعداده الخفي للالتحاق بأعداء الأمة ومشاريعهم، حماية منه لذاته في وضع المختلف والمستضعَف من بعض أطراف الأمة وقواها، كما يظن ويدعي، وصولاً إلى ما يزين له من مشاريع على حساب الوطن وقيم المواطَنة وواجباتها والتاريخ والثقافة.

وإذا كانت التحديات التي يطرحها الوضع العربي الراهن، لا سيما في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والأمنية على الخصوص، مما يثقل على المرء ويعسُر تقبله واحتماله عند التأمل والتدبر، لما فيه من مهالك أنتجها فساد رأي ورؤية وعلاقات، ولما فيه من انحياز إلى الفتنة والانقسام، ومن قصور وضعف وتنافر بلغ حدود الاقتتال المدمر الكريه والاستعداء المدان، ومن تبعية واختراقاتٍ تعمل لمصلحة العدو الصهيوني والغرب الاستعماري وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية وتقاتل إلى جانبه وتفتك بالثوابت والقضايا والقيم ـ هذا إذا بقيت ثوابت وقضايا قومية وقيم وأصلاًـ مستبيحة كل محرم بموجب العرف والخلق والدين والقانون، فإن التحديات التي يطرحها على أمتنا ما وصلنا إليه من أوضاع، وما وصل إليه العصر من تقدم علمي وتقني ومعلوماتي، وما يملكه أعداؤنا من قوةٍ في كل المجالات ومن قدرات على تطوير أدواتهم وعدتهم وأدائهم لامتلاك المزيد من القدرات والقوة، وما نعيشه من أوضاع مأساوية تنذر بمزيد من الكوارث والمواجهات الدامية، وتضع البعض منا أمام اليأس والاستسلام أحياناً، وتثقل كاهل الكثيرين بالهم والإحباط والدم والمقت، وتترك شريحة لا يستهان بعددها من أبناء الأمة، تعطي ظهرها للواقع وللحلم والأمل والهدف وحتى للمبادئ والوطن والقيم لقومية، وتغير جلدها وسياستها وتقول: "نقبل بما يُعطى لنا من فتات."..

فإن التصدي لذلك كله بمشروع طموح خلاق ذي أركان ثابتة في العمق الروحي والثقافي والتاريخي والنضالي للأمة، وبواقعية تفاؤلية وتصميم مقتدر، ورؤية تتكامل بجهد الجميع وجهادهم وإبداعهم.. إن ذلك لم يعد منه محيص وليس له بديل ولا يمللك ترف الانتظار. لأن الآتي سيكون أكثر من كارثي بكل المقاييس.

إن من المؤلم أكثر في هذا المجال أننا لا نشعر بالقلق حيال ما يجري، ونخوض في دمنا وكأننا نخوض في الماء، ونتفرج على الحرائق في بيوت إخوتنا وجيراننا ونقول: إنها لم تبلغ بيتنا بعد، على الرغم من رؤية شررها يقدح ويتطاير في كل ركن من أركان دورنا ووجودنا. إننا ننساق مع التيار المدمر من دون أن نشعر بالمخاطر التي ينطوي عليها الانسياق فيه، ولا بقيمة الزمن الذي يمضي ويؤسس للكثير مما يمكن أن يكون نافعاً أو ضاراً حسب استفادتنا من الحوادث والعقل والزمن، ولا نكترث لضرورات التحرك بأقصى السرعة للجم الفتنة ومنع الكارثة، واللحاق، إذا لحقنا، بآخر عربات قطار السلامة والتقدم البطيء الذي يغادر محطاته متوجهاً بالبشر إلى مرحلة جديدة من عصر التقدم المذهل الذي نمر فيه ويتركنا وراءه.

نحن خارج حدود القلق الخلاق، أي خارج حدود المعرفة الواعية بالخطر والخير والشر وقيمة الوقت والقيم الإنسانية الراسخة، وبما قد يسبب الدمار والاندثار، وخارج دوائر التبصر والتبصير بالخطر الناتج عن تجييش العباد في صفوف الفتنة، وتحالف بلاد مع بؤر العدوان والشر والفتنة.. وتلك من أكبر الوقائع والحقائق والسلبيات التي علينا أن نواجهها، فيما إذا أردنا أن نبقى لكي نتطلع بفاعلية وأملٍ وإيجابية إلى حلمنا بما كان من مشروعنا أو حلمنا أو وهمنا القومي، والتحديات التي تواجهه.