الأزمات والبعد الإنساني ..علي عقلة عرسان
أعلنت سورية انتهاء العمليات العسكرية والأمنية في سورية، وأبلغت ذلك إلى الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، ورأت أنها وضعت الأزمة على طريق الحل النهائي بالأمن مشفوعاً بالإصلاح المستمر.. وفي الوقت ذاته أعلنت الإدارة الأميركية والاتحاد الأوربي ودول من دوله منها: فرنسا وبريطانيا وألمانيا، عن رؤيتها وقرارها بالقول: "إن على الرئيس بشار الأسد أن يتنحى عن الحكم، ويفسح المجال للشعب السوري ليقرر ما يريد." وصعَّدت العقوبات على سورية، ولمَّحت بإمكانية تحويل ملفات تتلق بحقوق الإنسان إلى المحكمة الدولية.!! فأين نحن الآن، وإلى أين نمضي، وكيف؟ هل انتهت الأزمة في سورية من وجهة نظر النظام الذي أعلن عن وقف العلميات العسكرية والأمنية وسحب الجيش من المدن والتوجه نحو تطبيق الإصلاحات؟ أم نحن على أبواب مرحلة جديدة من الأزمة تشير إليها الدعوة إلى تصعيد التظاهر حتى يسقط النظام، والتصعيد السياسي والإعلامي الغربي على الخصوص الذي يقول بضرورة تنحي الرئيس، ويفرض عقوبات اقتصادية جديدة على سورية.. ويشاركه لحملة السياسية والإعلامية معارضون ومناصرون.؟!
إن المؤشرات التي ترتفع في الفضاء المتحكم بتحريك التظاهر في سورية وتوجيهه هذه الوجهة أو تلك توحي بأن الأزمة مرشحة إلى الاستمرار والتصعيد حتى لو كلف الأمر مزيداً من الدم والتخريب والموت، بينما المؤشرات التي يرفعها النظام ويتفاءل بها القطاع الأكبر من السوريين، أو يقرأ ملامحها كثير منهم قراءة متفائلة بصورة مباشرة، تشير إلى بداية انفراج، أو إلى التوجه الجاد نحو الانفراج.
ولكن تزامن وقائع ومواقف وتصريحات أسست لتلك المؤشرات والتلميحات والقراءات، وصدورها وتصاعدها بصورة سريعة وحادة خلال اليومين الماضيين، يؤكد أن اللاعب الخارجي في الأزمة لا يريد لها أن تنتهي أو تنفرج، بل يريد أن يصل بها ومن خلالها إلى أهداف حددها مسبقاً، وتدرج في إيصال الأطراف السورية المعنية إليها بأي شكل من الأشكال ومهما كان الثمن، عبر تخطيط وتدبير وتنفيذ..إلخ، وبصرف النظر عن الأبعاد والنتائج والمعاناة والعقابيل التي تنشأ عن تحقيق تلك الأهداف بالعنف الدموي والعنف الدموي المضاد، أو بالاستفزاز واستمرار التوتر اللذين يضطران كل معني بالأزمة إلى اللجوء إلى العنف بكل أشكاله من أجل حسمها على وجه ما.
من المنطقي والواضح والمؤكد أيضاً أن من يفعل ذلك، ومن يُقبل عليه وينخرط فيه، لا يريد الخير لسورية وشعبها، لنظامها ومعارضتها، ولا يعنيه من قريب أو بعيد ما يمكن أن ينتج عن ذلك من موت وتدمير وتخريب وقلق اجتماعي داخل سورية، ومن أزمات وصراعات ساخنة أو دامية تتعدى حدودها الجغرافية ونسيجها البشري إلى بلدان في المنطقة يعنيها ما يجري في سورية أو تجد نفسها معنية بما يجري فيها مهما كانت درجة خطورته ونتائج التعامل مع سلباً وإيجاباً.
إن المواقف الأميركية والغربية، ومن يسير في ركابها طرفاً أو شريكاً أو مؤيداً، تلك التي تمضي باتجاه: تأجيج الصراع الداخلي، وفرض العقوبات على المؤسسات السورية العامة، وإملاء رؤيتها وإرادتها على سورية بصرف النظر عن معاني الدولة وأبعاد التدخل، ومحاولتها فرض قرارها بتغيير النظام بطرق غير ديمقراطية ولا سلمية وحتى خارجة عن إرادة كثير من السوريين، تحت "مظلة دولية" أو باسم مؤسسات ولية ومجتمع دولي، لا تراعي حقائق الواقع وحقيقة الأوضاع وأحجام القوى الفاعلة في سورية وانعكاسات ذلك كله مستقبلاً على الناس والبلد ـ ولا نتكلم هنا عن السيادة وما يتعلق بها وينتج عنها بوص الدولة عضو كامل العضوية في الأمم المتحدة ـ وتلك القوى لا تريد أن تعرف، أو بالأحرى لا يهمها أن تعرف، كيف ترجح مصلحة على أخرى من المصالح العليا للشعب والوطن في سورية.. وهي بخياراتها لك، لا سيما الاقتصادية منها، سوف تضع الشعب السوري وليس رموز النظام، في أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية مزمنة ومرهقة ومكلفة، في الوقت الذي يعاني فيه الشعب ويعاني الوطن من أزمة خانقة يريد أن يخرج منها بأسرع وقت وبأقل التكاليف..!؟! إن تلك الدول والقوى التي ينبغي أن تصلح وتبني وتقرِّب وجهات النظر، وتنصر العدل والحرية وتردع الظلم بما لا يفضي إلى الفوضى ولا يساعد على تحقيق الأمن والاستقرار، ولا يفضي إلى حقن الدماء وسد الاحتياجات والضرورات والتوجه نحو التنمية والازدهار.. إن تلك الدول والقوى تتحمل بدورها إضافة إلى الأطراف المعنية مباشرة بالأزمة، مسؤولية أخلاقية سياسية وقانونية عما واجهه وما يمكن أن يواجهه الشعب في سورية من أزمات وصراعات لاحقة، ذات أبعاد سياسية واقتصادية اجتماعية "طائفية على الخصوص" وإنسانية عامة.. ويتحمل معها تلك المسؤولية كل من يشاركها عملها ذاك وصولاً منها إلى تحقيق أهدافها ومشاريعها ورباتها واستراتيجياتها، من الأنظمة العربية والأشخاص والقوى السورية التي تحركها وتعتمد عليها أو تأتمر بأمرها، سواء أكانت داخل منظومة النظام في سورية أو خارجها.
* إن النظام في سورية مسؤول عن شق كبير، بل عن الشق الأكبر، مما جرى ويجري بسبب ما سماه "الإهمال والتقصير" في إنجاز إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية مقررة منذ سنوات وبقيت طي الأدراج تنتظر النور، أو بسبب ممارسات غير مسؤولة في أثناء الأزمة، ومسؤول أيضاً عن تغاضيه عن مطالب وتجاوزات وفساد وممارسات مرفوضة لا يقرها القانون ولا العرف ولا يطيقها المجتمع عبر سنوات، وهي أوضاع وتجاوزات كان يشكو منها الشعب باستمرار ولا تلقى الاهتمام الكافي باستمرار أيضاً، ومسؤول عن.. وعن..
** والمعارضة السورية بأطيافها، وتلك العناصر والقوى التي دخلت أو أُدخلت عشوائياً على خط العنف ضمن تظاهرات الاحتجاج ولقيت تشجيعاً تغطية وتبنياً، كل أولئك مسؤول عن شق آخر مما جرى ويجري وما سيجري في سورية، لا سيما من حيث تشويه الصورة، واستخدام فئات حسبت عليها للعنف الدموي في الشارع أو لردها على العنف بعنف دموي، وهي تدرك أنها أعجز من أن تنتصر على الجيش والأمن في مثل هذه المواجهات التي خسرت فيها سورية كلها دماً ومالاً ومكانة وسمعة واستقراراً هو الأغلى، وأصيب مجتمعها المتماسك بشروخ وجراح قد يطول الزمن حتى يبرأ منها .
*** وما يسمى بـ "المجتمع الدولي"، أو على الأصح "يحتكر تمثيل المجتمع الدولي" ويزعم أنه هو العالم وقراره وإرادته..!! ذاك الذي يحرك ويحرض ويمول ويلعب بأوراق كثيرة لعبة كريهة ومشؤومة، تخدم مصلحة إسرائيل ومصالح بعض دوله وقواه، يحيي ذرائع ويميت ذرائع حسب الهوى والمصلحة في ازدواجية معايير مكشوفة ومعروفة، يتحمل هو أيضاً مسؤولية، وربما مسؤولية كبرى، عن كل ما جرى ويجري وما قد يجري في سورية.. لأنه المؤهل لنصرة الإنسان والعدل والحرية بالحق والمنطق وقوة الأخلاق والقيم، ومسؤول بالدرجة ذاتها وربما بدرجة أكبر، عن الأمن والاستقرار والسلم الأهلي والسلام العادل.
إن الكل مسؤول، ويجب أن يسأل ويتحمل درجة ما من المسؤولية والعبء عن كل ما حدث في الأزمة السورية وفواجعها، وعما يحدث هنا وهناك في بلدن أخرى تعاني من كوارث وأزمات بالكيفية ذاتها أو للأسباب ذاتها. والدول والمجتمع الدولي والمؤسسات والهيئات الدولية.. كل أولئك مسؤول عما يمكن أن يحدث في عالم لم تعد تعنيه القيم ولا الأمن المتبادل والاعتماد المتبادل للدول الشعوب، ولا القوانين والأعراف الدولية المحترمة، ولا حياة الأفراد والحد الأدنى من الحقوق ولكرامة لتي يتطلع إليها الإنسان وتناط بالدول والهيئات والمؤسسات الدولية التي يجب أن تنأى بنفسها عن أن كون ملغَّمة سياسياً أو أداة بيد تلك الدولة/ القوة أو تلك.. كلٌ يتحمل مسؤولية داخلياً وإقليمياً ودولياً وإنسانياً، لأن السياسة غير المسؤولة وتقديم المصالح على الأخلاق وجعلها فوق دماء الشعوب وأمنها ومصالحها، وإباحة الوسائل والأساليب، واستباحة الإنسان وحقوقه وحرياته وكرامته دمه في سبيل الحكم والمنافع وتحقيق الأهداف والسياسات والمصالح بمكيافلية مطلقة، أو بإطلاق "النجاح " بمصطلح أميركي عملي خلاصته " انجح ولا تسأل عن الوسائل والسبل والأدوات والنتائج والقيم..؟!".. ذلك لأن المهم بنظر تلك المدرسة أو المدارس السياسية هو النجاح، فالنجاح بنظرها كفيل بتحقيق كل ما يريده الناجح من: إخفاء للحقائق والجرائم، وتشويه للوقائع والخصوم، وتزيين للصورة الذاتية، وتفلُّت من العقاب، وجني للمكاسب وتأمين للمصالح، وكتابة التاريخ بمنطق القوة، منطق المنتصر، الناجح بالمفهوم الأميركي للنجاح.. ذلك الفعل الذي أنموذجه الحاضر في الذهن دوماً: ما فعله الأميركيون وحلفاؤهم بالعراق الجريح، وما حصل له وما يحدث فيه، وما حدث ويحدث في دول وبلدان وشعوب أخرى عانت مما عانى منه. إن الأنموذج المكيافللي في السياسة، وأنموذج النجاح وفق المفهوم السياسي ـ الأميركي للنجاح، نماذج من الفعل والحكم والتدبير لا تفيد البشرية، ولا تساهم في إرساء أسس الحكم الصالح الرشيد العادل، ولا تقيم السلم ولا يستتب في ظلها الأمن، ولا ينمو الاستقرار والازدهار، لأنها تقوم على منطق القوة والخديعة والخبث والهيمنة وتزري بالأخلاق والقيم والعدالة والمساواة.. وأظن أن العالم اليوم يحتاج إلى سياسات تقوم على الأخلاق والحكمة والاحترام أكثر مما تقوم على القوة والقمع والتهديد والوعيد، سياسات تقوم على إرساء السلم وفق أسس العدل، وعلى احترام حياة الإنسان ومقدرات الشعوب، وعلى ردع الطغاة والمتسلطين والظَلَمة ومن يشيعون الفوضى ولا يحترمون القانون وحياة الناس ومصالحهم وقيمهم وأمنهم.. وعلى رفض منطق القوة التي لا يسير في ركابها إلا الظلم والقمع والقتل ولا تنتج إلا الاستبداد والفقر والخوف.
إن معالجة الأزمات الدولية والداخلية ذات البعد أو الانعكاس الدولي، تحتاج إلى الحكمة والنزاهة والبعد الأخلاقي ـ الإنساني، وهو ما تفتقده الكثير من سياسات هذا العصر الشديد الوطأة على الإنسان.
ونسأل الله الهداية والفرج وهو ولي الأمور.
دمشق في 19/8/2011