في الراهن العربي.. والتحولات الناقصة عبد اللطيف مهنا
هل من جدال في أن الأمة العربية، بكامل كتلتها، ومن محيطها إلى خليجها، هي مقدمة على تغيير يفضي إلى تحولات استراتيجية سيكون لها ما بعدها؟ من الآن بات يومها ليس كأمسها، ولن يكون غدها مشابهاً لهما.. ومن الآن بدا أن راهنها، في هباته وانتفاضاته، أو في هذا الجيشان الثوري المتنقلة تداعياته في مشارقها ومغاربها ومن حولها، ما هو إلا إرهاص بائن للقادم المؤكد ووعد قاطع به.
نحن وسوانا كنا قد قلنا مثل هذا سابقاً وكررناه، ولعله اليوم قد غدا من مسلماتنا نحن على الأقل. ونقول مسلماتنا، غاضين النظر، بعد تفكر، عن مختلف التفاصيل الموضوعية المرافقة للجاري، وما تثيره من المخاوف الجمة الناجمة عن الأخطار الماثلة...العثرات البادية، الانحرافات غير المستبعدة، حجم المكائد والالتفافات، صنوف المؤامرات، التي بات ينسجها بوضوح بائن التدخل الخارجي الواسع النطاق المتعدد الأوجه، والتي تتلقفها امتداداته الفاعلة لتترجمها إلى ثورات مضادة ذات لبوس داخلي، وما يرافق من آلة تضليل وتدجيل وتهويل إعلامي هائلة الحجم خطيرة التأثير، توالي دورانها على مدار الساعة ممهدة لكل ما تقدم...
إن هذا كله، وفق منطق الصراع وطبيعته، ونعني صراع الأمة مع معسكر جبهة أعدائها الكثر داخلاً وخارجاً، ليس سوى ما يأتي في سياق المتوقع وما يقع في حكم المنتظر ولا من ما يفاجئ فيه... علام نقفز عن كل هذا ولماذا نغض الطرف عنه؟!
لأننا نحسب أنه، وهو، كما قلنا المتوقع والمنتظر، ليس، كما يقال، سوى أهون الشرّين، أو ما يشكل، على خطورته، أقل من سواه من الأخطار المحدقة بتحولنا النهضوي المأمول أثراً، هذا إذ ما افترضنا بحق ما يلي:
إن هذا الجاري في وطننا الكبير، أو هذا التحول الدائر فيه، إنما هو تعبير عن حالة شعبية تاريخية واعدة بالتغيير ومبشرة بالنهوض، وأمر تقتضيه ضرورة وجود، بل حدث طال انتظاره أكثر من اللازم. وإن دوافعه وروافعه هي إرادة مستعادة يرفدها وعي عال وإحساس غير مسبوق بخطورة الدرك المسف الذي وصلت إليه، أو أوصلوا إليه حال الأمة، ومدى إدراكها الراهن للأخطار المصيرية التي تحدق بها جراء هذا الواقع المهين، الأمر الذي يعني بالتالي وجوب امتلاك هذه الحالة التغييرية، والتي غابت أو تأخرت فيها النخب وتقدمت الجماهير لتلحق بها الأخيرة لاهثةً، امتلاكها للبوصلة، للرؤية الاستراتيجية التي تتوفر معها القدرة على الدقة في التحديد المسبق للأهداف، والتشخيص الموضوعي للعوائق الذاتية والموضوعية، والتصنيف الدقيق الحاسم لجبهة الأعداء والتنبه لحركة أطرافها في ظاهرها وباطنها. هنا، لدينا الكثير من المبشر والواعد، لكنما ونحن نرصد تفاصيل جاري تململ الأمة في تعابيره القطرية الضيقة، ندلف إلى ما اعتبرناه ضمناً بأصعب الشرين عندما تحدثنا عن أهونها وغضينا الطرف عنه... ما هو؟!
إنه المتمثل في بعض من المواربة، أو عدم الوضوح الكافي في أطروحات ساحات التحرير فيما خلا القطري منها، ونعني فقدانها لما يغيب، حتى الآن، من القومي عن شعاراتها، أوهذا الذي يشي باحتمالات الوقوع في شرك القنوع بما يتيسر من التحولات الناقصة الذي تزينه الانشغالات المحقة والمفهومة، وهي كثيرة، بالهموم القطرية التي من شأنها حجب الرؤية الاستراتيجية السليمة لحقائق الصراع في بلادنا، وانعدام صحة فهم طبيعته، ومن ثم إضاعة صحة تحديد سبل امتلاك وسائل حسمه الناجعة لصالح الأمة مجتمعة لا بالتجزئة.
هنا لا بد من إعلاء البعد القومي للحراك الثوري العربي في مختلف أقطار الوطن الكبير وتوحيد مساراته، إذ أن قضايا الأمة ومصائرها لا تتجزأ، ويثبت واقعها القطري المسربل بالفشل أن نهوضها المرتجى يظل عملية وحدوية الأبعاد وليس العكس. بل إن في شمولية سمات مظاهر التحولات الجارية وتشابهها وتأثيراتها المتبادلة خير ما يبرهن على ما ذهبنا إليه... الأمر الذي يعني أن على ساحات هذه التحولات حسم الموقف من مسألتين:
الموقف الواضح من الغرب المعادي، أو إتخاذ الموقف السليم والحاسم وإعلانه للقصي والداني من مسألة الصراع العربي الغربي، ونكرر لنؤكد على العربي الغربي هذه، أو على هذا الدائر منذ قرون وتفصيله الصهيوني، باعتبار أن هذا الغرب كان ولا يزال وسوف يظل يعتمد في إستراتيجياته المتبعه للهيمنة على مقدراتنا وقراراتنا ومصائرنا ذات سياسات التفتيت ومخططات الشرذمة إياها، أو كل هذا الذي لاينجح إلا بدعم قوى وأنظمة التسلط والتخلف وإعاقة سبل النهوض والتقدم، ذلك كسبيل وحيد لحماية مصالحه وإسرائيله، حيث من نافل القول، إنه لا يهمه في بلادنا إلا أمرين، النفط والأسواق المشرعة المستباحه وتثبيت إسرائيل كثكنة متقدمة له في القلب من بلادنا، الأمر الذي يعني حقيقة لا تحجبها أكداس المزاعم والشعارات الكاذبة التي لم تعد تنطلي على أحد، وهي الإستماتة المكشوفة في انتهاج ذات السياسات التآمرية المعهودة الساعية للحؤول الفعلي دون أي دمقراطية أو تنمية أو تطور حقيقي، أوأقل ما قد يؤدي إلى العدالة الاجتماعية المنشودة في بلادنا ما استطاع إلى ذلك سبيلاً...
لذا، وحيث يشهد الوطن العربي كل هذا الزخم من التحولات التي لا راد لها، فهو يسارع إلى محاولاته الدؤوبة لمحاصرة الهبات، وإجهاض الانتفاضات، وتطويق الثورات، وبذل مستطاعه لركوب موجاتها لحرفها أو تدجينها أوالالتفاف عليها، وصولاً، على الأقل، إلى نوع من التحولات الناقصة الأقل إضراراً بمصالحه...
إنه من هنا يقع الواجب على قوى التغيير فى بلادنا في التأكيد على امتلاكها وإشهارها الحازم لبوصلتها العربية النهضوية، والتي لا بد من أن تؤشر إلى أمرين:
أنه لا من ديمقراطية ولا تقدم ولا تطور ولا تنمية ولا عدالة اجتماعية، وقبل هذا وبعده لا من كرامة وطنية وبالتالي قومية، تنسجم مع مصالح هذا الغرب وبقاء إسرائيله في قلب الأمة، بل إن أمامنا هنا أمرين نقيضين بحكم طبيعة مثل هذا الصراع العربي الغربي والتى كنا قد اشرنا اليها... وعليه، هل من تغيير ممكن مع ديمقراطية مدجنة أو حيث القناعة بتحولات ناقصة؟ وهل من حالة نهضوية عربية متصالحة مع الهيمنة الأجنبية، أو دون المواجهة مع هذا الغرب الاستعماري المعادي تاريخياً وبحكم مصالحه لأمتنا، وتحديداً مع الولايات المتحدة، باعتبارها عدو العرب الأول و ما تبقى من أعدائهم ليسو سوى بعض من ملحقاتها؟