ماذا يعني اعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية؟ ..د. ناجي صادق شراب
لا شك في أهمية اعتراف الأمم المتحدة بفلسطين دولة، والأهم قبولها كعضو كامل فيها، وأن هذا في حال تحققه يؤكد لنا أهمية تفعيل خيار الشرعية الدولية. ومع أهمية هذا الاعتراف يجب ألا نذهب بعيداً في هذا الخيار. فأولاً هذا الاعتراف لا يعني نهاية لاحتلال "إسرائيل" للأراضي الفلسطينية، ولكنه قد يكون بداية لطريق سياسي طويل، وفي الوقت ذاته يضع جانباً من مسؤولية إنهاء الاحتلال على الأمم المتحدة، لأنه لا يعقل أن تكون هناك دولة عضو في الأمم المتحدة تحت الاحتلال، فهذا مناقض لأهداف ميثاق المنظمة الدولية، ومن ناحية يتعارض مع شروط قبول العضوية الذي ينص على استقلال الدولة المتقدمة لعضوية الأمم المتحدة.
وحتى تتضح أبعاد الصورة وتكتمل لدينا جميعاً علينا أن نقف على وضع فلسطين الآن في الأمم المتحدة، وكيف تعامل. لقد تم التعامل مع فلسطين في البداية كعضو مراقب ليس له حقوق أو واجبات مثل بقية الأعضاء، مجرد حضور في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعدد كبير من المنظمات الدولية الوظيفية، وبعد ذلك اعترفت الأمم المتحدة بفلسطين بوضع أفضل من ذلك بكثير اقترب من التعامل معها كدولة، فالآن تعامل فلسطين أعلى من سلطة حكم ذاتي، وأعلى درجة من عضو مراقب، وأقل من دولة بدرجة، لذلك قد يكون الاعتراف اكتمالاً في هذا السياق، ولهذا أهميته في أن تصبح فلسطين دولة عضواً لها حقوق كاملة تتقدم بها مباشرة للأمم المتحدة، وهذا الاعتراف الدولي تثبيت للحقوق الفلسطينية.
لكن السؤال المهم: هل يعني هذا الاعتراف نهاية للاحتلال "الإسرائيلي"، وحلاً للصراع العربي "الإسرائيلي"؟ وماذا عن بقية القضايا المعقدة المكونة للقضية الفلسطينية؟ هل يعني حلاً تلقائياً لمشكلة اللاجئين ومشكلة القدس والحدود وغير ذلك من القضايا؟ لا أعتقد ذلك، بل إن هذا الاعتراف سيضع الفلسطينيين أمام تحديات جديدة. فماذا مثلاً لو تم التقدم بمشروع قرار مضاد فيه اعتراف بالدولة الفلسطينية ويتضمن اعترافاً بيهودية "إسرائيل"؟
وباستقراء طبيعة هذا الصراع وتعقد تنفيذ وترجمة موضوع الدولة الفلسطينية على الأرض، فالأمر قد يحتاج إلى مفاوضات جديدة، وبصيغة جديدة، وبمرجعية جديدة أيضاً. بمعنى قد تتحول المفاوضات بين دولة ودولة أخرى، وهنا قد تبرز محددات جديدة تحكم السلوك السياسي للمفاوضين، وبعبارة أخرى قد يكون هناك التزام بالمصلحة القومية لكل دولة، وهذا قد يقود لطرح حلول للقضايا الرئيسة، خصوصاً اللاجئين في إطار الدولة ذاتها. والمعايير نفسها قد تنطبق على موضوع تحديد الحدود النهائية للدولة الفلسطينية، وهذا قد لا يتنافى من حيث المبدأ مع الاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود الرابع من يونيو 1967، والذي لا يعني انسحاباً كاملاً للقوات "الإسرائيلية"، ولا يعني أيضاً إزالة كاملة للمستوطنات "الإسرائيلية"، وهنا الأمر يحتاج إلى مفاوضات حول هذه الحدود، وهو ما يعني العودة إلى المفاوضات، وطرح رؤى جديدة لمفهوم الحدود، بعيداً عن المفهوم التقليدي للحدود في سياق نظرية الحدود السيادية، وقد تبرز نظريات جديدة للسيادة الوظيفية، والسيادة المشتركة. وكل هذا يحتاج إلى حتمية العودة إلى المفاوضات. بل إن الاعتراف بالدولة الفلسطينية سيفرض خيار المفاوضات أقوى من ذي قبل، فليس بمقدور الدولة الفلسطينية الجديدة وهي دولة منزوعة السلاح أن تذهب مثلاً لخيار الحرب لحسم خلافاتها مع "إسرائيل" كدولة، وإلا قد تعتبر دولة معتدية مثلاً، ومن ثم لا تملك هذه الدولة إلا التفاوض وفي ظل معطيات جديدة قد تكون أصعب من ذي قبل.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد، فماذا عن المقاومة الفلسطينية في حال قيام الدولة الفلسطينية؟ هل سيبقى هذا الخيار قائماً؟ وبأي شكل؟ وبأي آلية؟ خصوصاً المقاومة المسلحة. فماذا لو قامت حركات المقاومة الفلسطينية بإطلاق صواريخ؟ كيف سيتم التعامل معها؟ وما هو موقف الدولة الفلسطينية الجديدة بسلطتها الجديدة؟ فقيام الدولة يعني وجود سلطة شرعية واحدة، ووحدانية لكل الأجهزة الأمنية، ولذلك قيام الدولة الفلسطينية يعني تلقائياً إنهاء الانقسام، وحتى مع بقائه فسيتم التعامل معه بخيارات أخرى، ولذلك من المصلحة الفلسطينية المبادرة الفورية لإنهاء الانقسام الآن، والاتفاق حول ماذا يعني قيام الدولة الفلسطينية؟ والاتفاق حول مفاهيم جديدة لإدارة الصراع بآليات وأدوات تتوافق مع قيام الدولة الفلسطينية.
بعبارة أخرى إدارة الصراع بوسائل سلمية، علمية تكنولوجية وسكانية جديدة، وبوسائل وأدوات المشروعات التنموية المشتركة، وصولاً في النهاية إلى رؤية جديدة لمفهوم الدولة الواحدة المشتركة، من منطلق أن الدولتين الفلسطينية و"الإسرائيلية" لا خيار أمامهما إلا خيار البحث عن صيغ جديدة للتكامل والاندماج في مجالات معينة مع المحافظة على الخصوصية والتركيبة السكانية لكل منهما.
ما أريد إن أصل إليه أن موضوع قيام الدولة الفلسطينية وقبولها عضواً في الأمم المتحدة ليس مجرد هدف في حد ذاته، وإنما هو بداية جديدة من إدارة الصراع برؤية سلمية حضارية تنموية مشتركة جديدة، وأعتقد أنه في إطار هذه الرؤية يمكن أن نجد حلاً للعديد من القضايا الرئيسة المعقدة للصراع والتي لن يحلها قيام الدولة الفلسطينية، وفي الوقت ذاته على طرفي الصراع المباشرين الفلسطيني و"الإسرائيلي" أن يدركا أن قيام الدولة الفلسطينية يضعهما أمام خيارين لا ثالث لهما، إما خيار الحرب والصراع وبمعطيات وبيئة جديدة لا تعمل في مصلحة أي منهما، وأما خيار البحث عن صيغ للتكامل والاندماج التي تفرضها وحدانية الأرض.
هذه هي المدركات والمحددات الجديدة التي قد تقف وراء قيام الدولة الفلسطينية، والتي على الفلسطينيين إدراكها قبل غيرهم. فقيام الدولة الفلسطينية ليس مجرد اعتراف قانوني، بقدر ما هو بداية لإدارة صراع مركب ومتمدد وصولاً لإنهائه، وهو ما يحتاج إلى وقت طويل، لكن المهم هو التسليم بهذه المدركات والرؤية الجديدة.
أكاديمي عربي