خبر من لي بسيف عادل مبصر؟!..علي عقلة عرسان

الساعة 06:43 ص|30 يوليو 2011

من لي بسيف عادل مبصر؟!..علي عقلة عرسان

 

مبارك عليكم شهر رمضان الفضيل أنتم المسلمين في كل أنحاء الأرض، ومبارك على المؤمنين جميعاً زمن يقربهم من الله، ويعمق لديهم الإيمان، ويصلهم بالحقيقة.. وكان الله بعون من يريد منكم أن ينجو بنفسه ودينه من نفسه ومن كل ما يعكر صفوها ويزيده يقيناً على يقين.. ويتخلص من كل شبهة تُلحق به إثماً أو تمس إحساساً يريد له أن يكون نقياً ونظيفاً ومرهفاً، ويتخلص أيضاً من كل ما يضيِّق عليه عيشه، ويلاحقه في مقومات حياته ووجوده ويستهدفه معنوياً ومادياً، ويدعي بعد ذلك وقبل ذلك أنه يحميه ويعينه ويعمل على أن يخلصه من شرور الآخرين وظلمهم وحتى من نفسه؟!..

يتوق معظم الجمهور في أقطار عدة من وطننا العربي إلى أن يشعروا بالسكينة والأمن في رمضان الذي يدق علينا الأبواب، وإلى أن تطمئن قلوبهم بذكر الله، فيعمل كل منهم ما يرى أنه يقربه بالإيمان الحق زلفى من خالق الخلق، وباذل الرزق، وغافر الذنب، وقابل التوب.. بينما يتوعد أهل الثورات والمظاهرات والمنادون بالاعتصام في كل الأماكن المتاحة والساحات، وبأن يكون الشهر شهر جهد تغيير، وفرض إرادات، وإجهاد سلطات لإجبارها على الرحيل، وبأن يكون رمضان بالدرجة الأولى شهر جهاد، بالمعنى الذي يحددونه للجهاد، حتى لو أراق فيه المسلم دم أخيه المسلم.. أما السلطات فبائرة قاهرة أو خائرة، وهي حائرة بين مطالب هؤلاء وأفعال أولئك.. ولا تكاد ترضي أحداً لأمر فيها ولآخر في نفس يعقوب يخفيه وما هو بخاف عن أحد ولا حتى عن أحفاده بعد بنيه.. وهي تلهث وتمكر لتبقى وتحكم، والله هو الباقي الأوحد وهو خير الماكرين.

وفي هذا الخضم المتلاطم بموج الفعل ورد الفعل، يكثر الصيادون المحترفون، أولئك الذين لا يحترمون عقيدة ولا قيمة ولا إنساناً ولا شهر عبادة، ولا يقدرون مشاعر أي فريق أو فرد من الناس، ولا يرفعون أية قيمة بمصداقية فعلية فوق الانتهازية والدموية التاريخية والعدوانية المتأصلة في الأنفس، ولا يعيرون مطالب الكثرة البشرية اهتماماً يُذكر إلا من حيث الاتجار بها وبشعارات تُرفع باسمها.. فكل شيء لديهم، من الدماء إلى القيم الروحية، " سِلَعٌ سياسية وغير سياسية يتاجرون بها في الأسواق"، وهم يمضون في التحريض والتشويه والدسيسة والوقيعة والإساءة لكل صاحب قلب وصاحب عقل وصاحب قضية وسلطة وساعد أو سيف.. وهؤلاء يكوِّنون مدرسة ذات رصيد كبير وخبرة فائقة في مجالات التلفيق والتمويه والانقضاض على الآخرين ومصالحهم عندما تسمح الظروف وتحين الفرص.. مدرسة ذات تاريخ في القنص بكل المفاهيم السلبية للقنص وأساليبه وأدواته الردية. وهم يكسبون في كل معركة، ويعرضون في السوق دماء كل الأبرياء وغير الأبرياء ليتاجروا بالدم ويقبضوا ثمنه، ومن ثم يعودون إلى جحورهم يتربصون ويتحينون الفرص.. وتراهم دوماً يعومون على سطح الأفكار والتنظيمات والحوادث والمشاهد والمآسي في كل مكان وزمان، ويخرجون من ذلك كله منتفخي الأوداج والبطون والجيوب، ويكتبون التاريخ وفق رؤيتهم هم.. رؤية المنتصر بقتال أو من دون قتال، و من دون خسائر تذكر. وأطرف ما في وضع هؤلاء، أو أخص ما يحظون به أن كل طرف من الأطراف المتصارعة يطلب ودهم، وقد يلجأ إليهم وترتمي عند أقدامهم ليناصروه.. ففي حالات الضعف والإنهاك والاقتتال وعمى القلوب وعَمَهِ العقول وتفشي الأحقاد، يشكل أولئك بيضة القبان في مواضع ومواقع وأوطان وأزمان، ويفوزون بالمغانم فوزاً عظيماً، ويفرضون على الآخرين سيطرة من نوع ما: سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية..إلخ.

 لا أزعم أن الخلاص من أولئك يتنزل فجاءة بين عشية وضحاها، أو يتأتى بلمسة سحرية لها فجرها وضياها.. فأولئك نتاج تاريخ من الفعل والرصد والجهد شرش في مجتمعات وسيطر على مجتمعات، بصرف النظر عن تقييمنا لهم وأفعالهم وأحكامنا عليهم.. ويحتاج من يريد أن يبعدهم عن ساحة التدبير والتأثير الطاغي، المباشر وغير المباشر، في الأحداث والأخلاق والسياسات والأنفس والمجتمعات ومعظم مناحي الحياة التي تخصه أو تعنيه.. يحتاج إلى امتلاك ما يماثل ما لديهم وما يتفوق عليه من الفعل والعلم والجهد والرصد والتربص، وفق قيم ومعايير يرتضيها ويراها بناءة من منظور إيمانه وتاريخه الحضاري.

كما لا أزعم أنه يمكن أن يتهيأ لمن ينشد الأمن والسكينة والراحة النفسية في هذا الشهر الفضيل أو في سواه، مسالماً غير مقاوم وزاهداً غير مجاهد، أن يصل إلى بغيته في ظل هذه الأوضاع التي يختلط فيها الحابل بالنابل، والغث بالثمين، والضعيف بالسمين، والكذب بالصدق، والجنون بالحكمة، والمضحك بالمبكي.. لا يمكنه أن يفعل ذلك بمجرد الرغبة والتمني، ولا يستطيع الانسحاب من الحياة أو في الحياة إلى ظل ظليل في واحة عنب ونخيل.. فلا شيء من ذلك متحقق على وجه الأرض إذا كان المرء يشعر بكرامته وحريته، ويهمه شأن وطنه وشأن أخيه وذويه.. وحتى الراحة النفسية الخاصة جداً، والخلوة الفكرية التأملية التعبدية الدينية، والخلاص الفردي الضيق الأفق.. كل ذلك أضحى يحتاج إلى نضال وقتال وتضحيات جسام، وإلى وعي شامل وجهاد الآخر وجهاد النفس على أرضية امتلاك الإمكانيات والإرادة والأدوات في زمننا الموبوء هذا، زمن العرب الرديء.. الأمر الذي يُخرج تلك الغايات ويَخرج بطالبيها عن الأهداف والصفات والسمات الرئيسة التي ينشدونها.

يصيح بنا في أرضنا وفوق مساحات دمنا ومعاناتنا، يصيح بنا صوت شديد الوقع والتأثير عميق الدلالة والإحالة: أفيقوا وتبصروا وتدبروا أمركم بينكم، وتعالوا إلى ساحة العقل والمنطق.. تعالوا إلى كلمة سواء.. تعالوا إلى نور الله وهداه.. تعالوا إلى أي شيء ترضى به أكثرية الناس صاحبة المصلحة والسلطة الحقيقيتين والمآل والمرجع الأول والأخير في كل ما يعني الناس في الحياة والوطن والمواطَنة والحكم وشروط العيش الكريم.. تعالوا إلى أي شيء وكل شيء منقذ وبناء يحقق العدل والأهداف الوطنية والإنسانية العليا، ويحفظ الأمن والاستقرار للجميع، ويصون الوطن والدماء والمصالح والحقوق والحريات.. ؟! فيقول صوت طاغٍ في أعماق البعض: لا.. ثم لا.. فلتتحقق غاياتنا ووفق إرادتنا وحدنا أولاً، وبأسلوبنا نحن وليس بأي أسلوب.. غاياتنا هي الغايات النهائية للوطن والناس؟!!.

ويصيح صوت فيه عنجهية العنف وشدة القوة وقسوة القلب: بما ينفي أقوال الصوت الأول ومطالبه وحقوقه، قائلاً: ترفعون مطالبكم إلى مرتبة ما لا يؤخذ إلا بالقوة.. فتعالوا إذن نحتكم إلى القوة حتى لو لم ترض أحداً ولم تبق ولم تذر.. فيقولون: لا.. ذاك هو البطش والعدوان.. وهكذا يرى فريق أن القوة تصبح في هذه الحالة مسألة إجرائية وضرورة لا بد منها.. بينما يراها الفريق الآخر حالة عدوانية وغير أخلاقية..

ويناشد الجمع من يناشده: تعالوا إلى الشرع والتشريع، إلى تحكيم المنطق والقانون، إلى الدولة والمؤسسات، إلى التأمل والتبصر والتدبر في كل ما ينفع الخلق ويحييهم، ولا ينفعهم ويحييهم أن نختلف ونقتتل، بل إن ذلك يفجعهم ويضعفهم ويقهرهم وهم لا يقبلون به ولا يُنقذون بواسطته.. ولا يستفيد من ذلك إلا عدوهم فقط.. فيقول قائل من هنا وآخر من هناك: الخلق كل الخلق معنا، وخيارنا خيارهم، ومطلبنا مطلبهم.. والنار ثم النار، والثار ثم الثار..  إلى أن تنتصر إرادتنا ونفرض نحن القرار.. وتسمع القول ذاته، والوعد ذاته، والوعيد ذاته.. من هنا وهناك، من هذا وذاك.. وتستمر الدوامة.؟!!

فإلى أين نمضي إذن ونحن جماعة في مركب واحد تتهدده هوج الرياح وعاتيات الأمواج، وبيننا الطفل والمرأة والعاجز والمريض والبريء والرافض لكل هذا الهوج والهوس، ولإراقة الدم ونهج العنف ومنطق التسلط والظلم والقوة..؟! إلى أين نمضي وكيف نتصرف ولا يوجد دليل واحد على أن منفعة الوطن والناس هي التي ترتفع عالياً فوق الرؤوس والمصالح الإرادات لدى هذا وذاك.. بل الصراع على السلطة بكل الأساليب.. التي تبدو أنها المطلب الأول والأخير لهذا وذاك، مهما تغيرت الذرائع للبقاء فيها أو للوصول إليها.؟!.

وحين تُرفع الحكمةُ والمصلحة العليا للشعب والوطن فوق كل اعتبار، يصبح الحكم عبئاً وتكليفاً وأمانة يحاسِب عليه الله والشعب والقانون.. حينذاك يخشى السلطة وشهوتَها وإغراءها وممارستها من يقبلها واجباً وأمانة ومن يحكمه إيمان القلب ونور الإيمان، وُيقبِل عليها من يُقبل على الحكم بشهوة النفس وقسوة القلب وحب بهرج الدنيا.. وفي تلك الأحوال يذود أصحاب الضمير والعقل والإيمان ممن يدعون إلى تسلم السلطة عن أنفسهم من ضلال وظلم وظلام قد يقعون فيها بفعل السلطة، وينفر من ذلك البلاء أو الابتلاء من ينفر مخافة الوقوع في المحذور من الأمور.. ويقاتل في سبيل الوصول إليها من لا يعنيه ذلك كله. وحين يصبح القيام بالسلطة تكليفاً شعبياً ملزماً لمؤتمَن ذي هيبة ومهابة يقيم الحق والعدل ويعلي شأن الوطن والناس.. ويصبح أداؤها واجباً وطنياً وإنسانياً يستحق من يقوم به على خير وجه كل الاحترام والتقدير.. وتستحق عندئذ أن يهب المخلصون إلى الدفاع عنها وعن مستحقيها بجدارة وكفاءة، وأن يخوضوا في سبيل ذلك ما يمكن أن يكون جهاداً واجباً مكلفاً..

وحتى عند ذلك الحد من التجرد والنقاء والإقبال على واجب نصرة الحق بخشية قلب، يبقى لدى كثير من الأشخاص المعنيين بخوض جهاد دفاعاً عن سلطة شرعية عادلة، أو لإيصال حاكم عادل إلى السلطة بشرعية، ما يشترطون على أنفسهم ويتساءلون به أمام غيرهم، ويرتفع به صوت ضمائرهم قائلاً: من لي بسيف عادل مبصر، وأنا أمضي في الجهاد حتى الرمق الأخير.. دفاعاً عن الحق والعدل وإحقاقاً لهما.؟!..

إننا نتطلع إلى أن يتحقق حد أدنى من الوعي والمسؤولية والإيمان والانتماء، وإلى أن يحتكم الناس المعنيون بالأمور العامة والخاصة إلى العقل والضمير والمنطق والشعب والقانون.. وأن يضعوا مصلحة الشعب والوطن فوق كل الحسابات الضيقة والاعتبارات الأخرى.. وإلا ضاع الصوت، أيَّ صوت، وأُغلق المدى، وضاق الأفق، وسُحق العقل والإنسان، وأصحر الوقت.. ويا ويح ابن آدم حين يصحر قلبه ووقته.!!..