خبر هجرة اليهود العكسيَّة ودلالاتها ..صالح النعامي

الساعة 12:54 م|19 يوليو 2011

هجرة اليهود العكسيَّة ودلالاتها ..صالح النعامي

 

هناك عدة معطيات لافتة ومفارقة واحدة: يبلغ متوسط دخل الفرد في إسرائيل خلال العام حوالي تسعة عشر ألف دولار، وهو ما يعادل سبعة عشر ضعفًا لمعدل دخل الفرد في الضفة الغربيَّة وقطاع غزة، إسرائيل هي إحدى الكيانات السياسية القليلة في العالم التي نجت من تأثيرات الأزمة الماليَّة التي ألَمَّت بالعالم، تحسنت الأوضاع الأمنيَّة في إسرائيل خلال نصف العقد الأخير بشكلٍ واضح، ومع ذلك فإن قطاعاتٍ متزايدةً من الإسرائيليين تتجاهل هذه التطورات "الإيجابيَّة" وتصِرُّ تحديدًا على مغادرة إسرائيل ومحاولة البحث عن مستقبل وحياة جديدة في إحدى دول الغرب، فقد دلَّلت دراسة إسرائيليَّة حديثة على أن مليون إسرائيلي قد غادروا إسرائيل بالفعل خلال العقدين الماضيين، وهي نسبةٌ كبيرة حسب كل المقاييس، ومن المفارقات أن الإسرائيليين الذين يغادرون إسرائيل لم يعودوا يخجلون من ذلك، بل إنهم أخذوا في الآونة الأخيرة ينظِّمون مؤتمرات سنويَّة لهم، وحسب استطلاع للرأي العام أُجري في أوساط هؤلاء اليهود، فإن أغلبيتهم الساحقة تقول أن السؤال الذي يجب أن يُطرح "ليس لماذا غادرنا، وإنما لماذا بقينا كل هذه المدة قبل أن نغادر؟! وقد أظهر استطلاع للرأي أُجري في أوساط الشباب الإسرائيليين أن نصف المستوطنين الشباب يفضِّلون العيش في مكان ما في الخارج لو أُتيحت لهم الفرصة، وأكثر الأسباب التي يذكرونها كمبرِّر للرغبة في الهجرة أن الوضع في إسرائيل ليس جيدًا، على الرغم من المعطيات الإيجابيَّة التي تمت الإشارة إليها أعلاه، ومن المفارقة ذات الدلالة أن الأغلبيَّة الساحقة من الصهاينة يتجهون تحديدًا لألمانيا التي استندت الصهيونيَّة إلى ما قامت به حكومتها النازيَّة خلال الحرب العالميَّة الثانية لتسويغ اغتصاب فلسطين وإقامة إسرائيل فوق ترابها.

 

حمى الجواز الأجنبي

 

لا تتوقف مظاهر الهجرة العكسيَّة عند المليون صهيوني الذين غادروا بالفعل إسرائيل، بل إن الأمر بات يتصل بحقيقة أن الأغلبيَّة الساحقة من الإسرائيليين يعدون العدَّة للحصول على جواز سفر أجنبي، وحسب إحدى الدراسات المسحيَّة، فقد تبيَّن أن 60% من الإسرائيليين قد اتصلوا -أو عازمون على الاتصال- بسفارة أجنبيَّة ليطلبوا الجنسية أو جواز سفر، وقد كانت ألمانيا هي أكثر الدول التي تتجه معظم أنظار الصهاينة إليها للحصول على جواز سفرها، حيث أن حوالي 100 ألف إسرائيلي لديهم جوازات سفر ألمانيَّة، بينما يقدم المزيد طلبات لجوازات على أساس أنهم ولدوا لعائلات هاجرت من ألمانيا، وإن لم تكن هذه المعطيات كافية، فإن عددًا كبيرًا من الإسرائيليين يملكون جنسيَّة مزدوجة، حيث أن نصف مليون إسرائيلي يحملون الجنسيَّة الأمريكيَّة، بينما تنظر دائرة الهجرة في الولايات المتحدة ربع مليون طلب تقدَّم به الإسرائيليون للحصول على البطاقة الخضراء التي تؤهلهم للحصول على الجنسيَّة الأمريكيَّة.

 

أسباب الهجرة العكسيَّة وتداعياتها

 

على الرغم من الأوضاع الاقتصاديَّة الجيدة في إسرائيل، إلا أن معظم الراغبين في الهجرة يبرِّرون ذلك بالبحث عن شروط حياة أفضل، حقيقة أن 40% من الإسرائيليين مولودون في الخارج، فإنهم يعتبرون أن الهجرة ليست بالشيء الجديد والطارئ في حياتهم، في نفس الوقت فإن نسبةً كبيرة من الإسرائيليين الذين يغادرون إسرائيل يرون أن البيئة الأمنيَّة لا تسمح لهم بالبقاء في إسرائيل، وهناك من يقرُّ بأن الأوضاع الأمنيَّة قد تحسَّنت بالفعل، لكنه يؤمن بأن الاستقرار الأمني لن يدوم، وبالتالي فهو يبحث عن مكان أكثر استقرارًا وأمنًا.

 

واضح أن الحكومة الإسرائيليَّة تحرص على عدم الخوض في هذه القضية بشكلٍ علنيّ حتى لا تسلط الضوء على هذه القضية فتشجع بذلك قطاعاتٍ أخرى على الهجرة العكسيَّة والمغادرة، لكنها في الواقع تعِي خطورة هذه القضية وتسعى عبثًا لوضع حدٍّ لها.

 

تدرك القيادة الصهيونيَّة أن المشروع الصهيوني أُقيم على ركيزتين أساسيتين، وهما: الاستيلاء على الأرض الفلسطينيَّة وجلب أكبر عددٍ ممكن من اليهود لاستيطانها، ومن الواضح أن تعاظم الهجرة العسكيَّة في ظلّ الكثير من المعطيات التي تدلِّل على تراجع معدلات الهجرة الإيجابيَّة ينذِر بخسارة إسرائيل الصراع الديمغرافي مع الفلسطينيين.

 

ومن المؤكَّد أن الهجرة العكسيَّة ستجرُّ على إسرائيل خسائر اقتصاديَّة كبيرة، على اعتبار أن نسبةً كبيرة من الذين يغادرون إسرائيل هم تحديدًا من الكفاءات العلميَّة الكبيرة، لا سيَّما في مجال التقنيات المتقدمة، والذين كان يُفترض أن يلعبوا دورًا في تعزيز التفوق التقني الإسرائيلي الذي يعزِّز منَعَة إسرائيل الاقتصادية، مع العلم أن صناعة التقنيات المتقدمة تعتبر أحد مصادر الدخل "القومي" في إسرائيل وتدر سنويًّا حوالي سبعة مليارات دولار على الخزانة الإسرائيلية.

 

ومن نافلة القول أن النتائج السلبية المترتبة على هجرة العقول لا تتوقف على الجانب الاقتصادي، بل تتعداه إلى الجانب العسكري والأمني، فالتفوق الإسرائيلي في المجال الأمني والاستخباري يتوقف إلى حد كبير على التفوق في المجال التقني، وتعتبر إسرائيل ثاني أكبر منتج للطائرات بدون طيار، حيث تمكَّنَت من تطوير عدة أجيال من هذه الطائرات بفضل التقنيات المتقدمة، إلى جانب حقيقة أن التفوق التقني قاد إسرائيل إلى تطوير ردود على تحديات استراتيجيَّة ووجوديَّة، فبفضل التقدم التقني تمكَّنَت إسرائيل من تطوير فيروس ستاكس نت" الذي تؤكّد الكثير من التسريبات الإعلاميَّة أنه تمكَّن من تعطيل أجهزة الحاسوب التي تشغل أجهزة الطرد المركزي المسئولة عن تخصيب اليورانيوم في المشروع النووي الإيراني، ومن الواضح أن نزف العقول الصهيونيَّة سيجد تداعياته المؤكَّدة على الصعيد الأمني والاستخباري، وهو ما يمثل مصدر قلق للصهاينة.

 

فقد تبيَّن أن جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيليَّة "أمان" يعاني من ظاهرة تسرُّب الكفاءات التي تعمل في مجال التجسس الإلكتروني، حيث أن هذه الكفاءات تتجه للعمل في القطاع الخاص، لا سيما في خارج إسرائيل.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه: لقد زعمت الأساطير الصهيونيَّة أن هناك مسوغاتٍ دينيَّةً وتاريخيَّة وأخلاقيَّة تبرِّر قيام إسرائيل، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا إذن يغادر الصهاينة على هذا النحو فلسطين؟