خبر مفارقات غزّية!! .. توفيق السيد سليم*

الساعة 06:15 ص|19 يوليو 2011

مفارقات غزّية!! .. توفيق السيد سليم*

 

كثيرا ما يقف المرء في غزة المحاصرة مذهولاً وهو يتابع العديد من الظواهر والمشاهد التي تحمل في طياتها الكثير من المفارقات التي تعكس واقعاً مجتمعياً مكتظاً بالتباينات التي لم تكن حاضرة المشهد الغزي إلا منذ نحو ثلاث سنين مرّت عجافا على معظم الفئات المجتمعية في القطاع بفعل الحصار الذي حوّل عشرات آلاف الأسر المستورة إلى معوزة تبحث عن كابونة "منقوصة" هنا أو بطالة "موعودة" هناك، فيما فسح المجال أمام آلاف أخرى من الأسر لترتع في ميادين "البزنس" ولتصبح وبدون مقدمات من ذوي الملايين المتكدسة في البنوك أو الموزّعة على شكل أسهم هنا أو هناك في ما شئت من شركات وبنوك ومسمّيات!!

 

ففي غزة التي ما فتأت تداوي جراحها، شرائح مجتمعية تتلاشى وأخرى تطفو على السطح، وكأن حراكاً مجتمعياً يسير بخطى متسارعة، يحمل في طياته "بُشريات" عهد جديد لا مكان فيه للطبقات المجتمعية الوسطى، بل طبقات مخملية مترفة، وأخرى معدومة ومسحوقة وما بينهما يصارع من أجل عدم اللحاق بالأخيرة أو محاولة التقرب زلفى إلى الأولى!.

 

فالحديث عن ما كان يعرف بفئة العمال والكادحين (كما الحديث عن الأسرى المقهورين واللاجئين المشتتين وما تبقى من فلسطين) بات حديثا موسميًا، تماماً كما موسمية ذهاب العامل (المتعطّل) إلى السوق أو المتنزه أو شاطئ البحر أو حتى الوقوف في طابور (بات ثقافة مجتمعية لصيقة بالغزيين بفعل الحصار) للحصول على مئة دولار يتيمة من الحول إلى الحول!

 

الوقوف على الحقيقة المرة التي تعاني منها فئة العمال في غزة، لا بد أن تدق ناقوس الخطر أمام الجميع، فخطر بقاء أوضاع تلك الفئة المهمة من المجتمع والتي كانت في السابق تشكل أحد أهم روافد الاقتصاد الوطني ورافعة قوية للنهوض به واستقراره، لا يقتصر على أسرة العامل بحد ذاته، وإنما يمتد ليطال كافة شرائح المجتمع، خاصة إذا ما علمنا أن نسبة كبيرة من الذين يتورطون -طواعية أو كرها- في مستنقع العمالة للاحتلال أو الانجراف في وحل الشهوات والرذائل والمخدرات هم ممن يعانون أوضاعا اقتصادية بالغة السوء بسبب الحرمان من العمل ومصادر الدخل...

 

وحتى يكون حديثنا أكثر دقة فيما يتعلق بأوضاع العمال في القطاع، يجدر بنا الإشارة إلى أن معدلات البطالة هنا خلال النصف الثاني من العام المنصرم كانت الأعلى على مستوى العالم. وفق تقرير نشرته المنظمة الأممية "الأمم المتحدة" مؤخرا.

 

ونحن نتحدث عن فئة العمال المهمشين، ولتبيان المفارقة التي تشهدها غزة، لابد أن نتحدث عن فئة أخرى نمت وترعرعت على حساب الأولى ألا وهي فئة "تجار الحصار" و"الانقسام" الذين وخلال سنوات قلائل بلغت حساباتهم البنكية أرقاما فلكية، ومشاريعهم الاقتصادية أكثر من أن تحصى، دون أن يجرؤ أحد على سؤالهم من أين لك هذا؟! فيما غابت ثقافة المقاومة عن معظم مناحي الحياة لتحل محلها ثقافة التنعم والأريحية، فكثير ممن كانوا بالأمس يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في ميادين الرباط والجهاد باتوا اليوم رهائن سياراتهم الفارهة وجلساتهم الهادئة على أنغام أمواج البحر تارة وشلالات المياه الاصطناعية تارة أخرى!

 

ما سبق ليس جلدا للذات كما يحلو للبعض أن يسميه، وإنما محاولة للوقوف مع الذات قبل فوات الأوان في زحمة المتغيرات المتلاحقة التي تعصف بمجتمعنا والتي تستدعي من الجميع إعلاميين وسياسيين وعلماء اجتماع ومفكرين وكتّاب وغيرهم أن يشعل مصباحا ويدق ناقوس الخطر حتى لا تضيع البوصلة من بين أيدينا في الوقت الذي نحن أحوج ما نكون فيه إليها الآن...

 

فغزة التي كانت مضربا للأمثال في التكاتف والتعاطف والتعاضد، ومجاهدوها يلتحمون بالبندقية ويعانقون القنبلة مدافعين عن شرف ما تبقى من القضية، حريٌ بها الحفاظ على شرف المقاومة والذود عن حياضه ومحاربة كل من يحاول العبث به والانقلاب عليه. وذلك لن يتأتى إلا من خلال إعادة غرس روح المقاومة في نفوس أبنائنا لتشمل كافة مناحي الحياة.. فنحن مع المقاومة المجتمعية التي تؤسس المجتمع على قيم الثقافة والتسامح والتكاتف والبناء، ومع المقاومة الاقتصادية التي تحارب الترف والبذخ والاستعلاء، ومع المقاومة الفكرية التي تحارب الأفكار الهدامة والمضللة، وفوق كل ذلك مع المقاومة الممهورة بالدم والتضحيات في ميادين الجهاد والشهادة باعتبارها المقاومة الأنجع في تصويب مسارات كل أشكال المقاومة سالفة الذكر...

 

* صحفي مقيم في غزة