خبر الأزمة الفلسطينية والمعالجات التكتيكية ..علي جرادات

الساعة 05:41 ص|18 يوليو 2011

الأزمة الفلسطينية والمعالجات التكتيكية ..علي جرادات

بات ثمة حاجة ملحة لمعالجة الأزمة الفلسطينية معالجة استراتيجية جادة، تبدأ بتشخيص جوهرها السياسي، بعد ثبوت فشل معالجتها بالخطوات التكتيكية “التسكينية” القاصرة، التي لم تفضِ إلا إلى تفاقمها المتسارع في السنوات الأخيرة، وذلك بفعل عاملين متداخلين، الأول خارجي، ويتمثل في التنامي غير المسبوق للتطرف الأيديولوجي والسياسي الصهيوني، الذي تقوده وتغذيه حكومة نتنياهو ليبرمان “فوق المتطرفة”، والحائزة في جوهر إدارتها للصراع مع العرب، وجوهره القضية الفلسطينية، على دعم كلٍ من واشنطن والمعارضة “الإسرائيلية” بقيادة حزب “كاديما”، الذي لا يقل عنها تطرفاً . أما العامل الثاني، فيتمثل في الانقسام الفلسطيني العمودي الداخلي، الذي لم تتوافر، (حتى الآن)، لدى قطبيه، “فتح” و”حماس”، إرادة سياسية جادة لإنهائه، وتوفير عامل القوة الأساسي، الوحدة الوطنية، في مواجهة الصلف “الإسرائيلي” الفالت من كل عقال .          

هنا، وحتى لا يقتصر تشخيص الأزمة على الوصف، ولأجل ارتقائه إلى التفسير، (نصف العلاج)، فإن هنالك حاجة للقبض على جذر هذه الأزمة، التي لم يخلقها العاملان آنفي الذكر، بل لعبا دوراً في تفاقمها وتظهيرها أكثر، فيما يعود جذر نشوئها إلى محطة تضييع الفلسطينيين لأوراق قوتهم الأساسية منذ “مؤتمر مدريد للسلام” في نهاية أكتوبر/تشرين الأول عام ،1991 الذي رفع شعار “الأرض مقابل السلام”، كأساس لإحراز تسوية للصراع، تلبي الحد الأدنى من الحقوق العربية والفلسطينية المغتصبة، عبر إطلاق “مسارات” التفاوض الثنائي المباشر، تحت الرعاية العملية الأمريكية، بين “إسرائيل” و”الأطراف العربية”، (وفقاً لتسميات المؤتمر)، مع استبعاد منظمة التحرير الفلسطينية، التي قبلت المشاركة بوفد من الأرض المحتلة تحت مظلة الوفد الأردني، ليتضح له بعد شهور من مفاوضة “الإسرائيليين”، أن التفاوض معهم على الأرض تحديداً بلا أفق، حيث رفضوا، بدعم من “الراعي” الأمريكي، مطلب رئيس الوفد الفلسطيني، المرحوم حيدر عبدالشافي، وقْفَ عمليات الاستيطان والتهويد كشرط لمواصلة المفاوضات . لكن، ورغم ذلك، فقد تسرعت قيادة منظمة التحرير، وقامرت، بفتح قناة تفاوض سرية وموازية، أفضت إلى إبرام اتفاقية (أوسلو)، التي جرى توقيعها في واشنطن في سبتمبر/أيلول 1993 . ولم تكن “إسرائيل” لتوقع على تلك الاتفاقية، لولا حصولها سلفاً على تخلي قيادة منظمة التحرير المجاني المتسرع عن أوراق قوتها الأساسية: ورقة وقْفِ انتفاضة عام 1987 الشعبية، وورقة شطب البنود الجوهرية للميثاق الوطني، وورقة الاعتراف بالوجود الآمن لدولة “إسرائيل” غير محددة الحدود، من دون اعترافها بالشعب الفلسطيني وحقه في تقرير المصير، وورقة اختزال قرارات الشرعية الدولية التي تعترف بحق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة، في قراري مجلس الأمن 242 و،338 وورقة استبدال رعاية هيئة الأمم برعاية أمريكا المعادية للشعب الفلسطيني وحقوقه ونضاله الوطني المشروع ومقاومته الدفاعية المكفولة، وورقة استبدال مرجعية قرارات الشرعية الدولية بمرجعية طاولة المفاوضات الخاضعة لميزان القوى المائل ضد الفلسطينيين .

واليوم، تجني قيادة منظمة التحرير، ومعها بقية أطراف الحركة الوطنية الفلسطينية، والشعب الفلسطيني عموماً، أزمة ذلك التخلي عن أوراق القوة الفلسطينية الأساسية، مقابل الاعتراف بمنظمة التحرير، كإطار سياسي، أدارت معه “إسرائيل” عقدين من المفاوضات العبثية، حتى من دون الإفراج الشامل عن الأسرى ووقفِ عمليات الاستيطان والتهويد والقتل والاعتقال والحصار وتقطيع الأوصال، ما أفضى إلى زيادة غطرسة قادة “إسرائيل” وعنجهيتهم، إلى درجة أن ينتهج نتنياهو وائتلافه الحكومي الفاشي استراتيجية لا تكتفي بالاعتراف ب”إسرائيل” ووجودها الآمن، بل، تضع الاعتراف بها ك”دولة للشعب اليهودي”، شرطاً مسبقاً للعودة للمفاوضات، فيما يتبنى “الراعي” الأمريكي هذا الشرط، بل، وطلب تبنيه من باقي أطراف “اللجنة الرباعية”، في اجتماعها الأخير في 12 يوليو/تموز ،2011 الذي انفض من دون بيان مشترك بسبب المعارضة الروسية، فيما يعرف الجميع أن الموافقة على هذا الشرط تساوي الموافقة على تصفية القضية الفلسطينية، ووضع حدٍ للرواية وللمطالب وللحقوق الوطنية والتاريخية للشعب العربي الفلسطيني .

على هذا وبفعله، تتفاقم الأزمة الفلسطينية، ما يجعل الشعب الفلسطيني ونضاله الوطني أمام ضرورة إجراء مراجعة سياسية وطنية جادة وشاملة، تفضي إلى استعادة الفلسطينيين لأوراق قوتهم، التي لا يمكن استعادتها بالخطوتين التكتيكيتين الضاغطتين من أجل العودة لذات المفاوضات، وهما خطوتا التلويح بالتوجه الجزئي وغير النهائي للأمم المتحدة، وخطوة الاتفاق المبدئي للمصالحة الوطنية بين حركتي “فتح” و”حماس”، الذي لم يجد طريقه إلى التطبيق بسبب قفزه عن المدخل الحقيقي لإنهاء الانقسام، والأساس المتين لترسيخ الوحدة، أي الاتفاق على برنامج سياسي لازم لبناء مؤسسة وطنية انتقالية يقودها ائتلاف وطني سياسي كفاحي تنظيمي، يقود بدوره الشعب في صراعه مع المحتلين، ويعِد لإجراء انتخابات للمؤسسات الوطنية العامة لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية .

والغريب اللافت، أن تتوافق حركتا “فتح” و”حماس” في الخطوط العامة لاتفاق المصالحة الأخير بينهما، على القفز عن المراجعة السياسية، وعن الاتفاق على البرنامج السياسي، الذي لا يمكن من دون توفره معالجة عاملي تفاقم الأزمة، غياب الوحدة الداخلية وشراسة هجوم الاحتلال واستباحاته . والأغرب، أن يكون بندا التوافق على “التهدئة” مع الاحتلال، وعلى إعطاء خيار المفاوضات فرصة إضافية، هما البندان السياسيان الوحيدان للتوافق بين حركتي “فتح” و”حماس”، فيما تم تجاهل “وثيقة الوفاق الوطني”، (وثيقة الأسرى)، التي تم توقيعها من الجميع عام ،2006 وكان يمكن لها، مع تعديلات تستجيب للمستجدات، أن تشكل أساساً سياسياً صالحاً لتشكيل حكومة وطنية انتقالية، إلى حين إجراء الانتخابات المتوافق على إجرائها لمؤسسات منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية .

قصارى القول: الأزمة الفلسطينية تتفاقم، ولا يمكن انتشال الشعب الفلسطيني ومشروعه الوطني التحرري من براثنها، إلا من خلال توفر إرادة قيادية جادة لإجراء مراجعة سياسية وطنية شاملة تستعيد أوراق القوة الفلسطينية الأساسية، التي بفقدانها تعمقت غطرسة قادة “إسرائيل” بدعم أمريكي وازدادت صلفاً، وزادت الأزمة الفلسطينية وانقساماتها عمقاً وتفاقماً .