خبر لا حدود مقدسة..هآرتس

الساعة 08:28 ص|15 يوليو 2011

بقلم: شلومو أفنري

استقلال جنوب السودان هو علامة هامة على الطريق في كفاح الشعوب الصغيرة للتحرر الوطني، والذي بدأ في بداية القرن التاسع عشر، مع حرب الاستقلال اليونانية ضد الامبراطورية العثمانية. استقلال اسرائيل كدولة القومية اليهودية، استقلال كوسوفو والاستقلال المستقبلي للفلسطينيين، كلها جزء من هذه الخطة. الان، بعد عشرات سنوات الكفاح ضد القمع المضرج بالدماء من جانب القيادة السودانية العربية والاسلامية في الشمال، حقق الجنوب الذي معظم سكانه السود مسيحيون او وثنيون، ما كان يجدر أن يتحقق دون سفك دماء في العالم السليم، مع اسرة دولية أكثر ولاءا لمبادئها.

        من هذه الناحية، دولة جنوب السودان هي حلقة اخرى في سلسلة الدول التي حظيت بالاستقلال في ظل ظروف معقدة. اليونان الحديثة نالت الاستقلال ليس فقط بفضل الرأي العام في اوروبا، الذي أيد المسيحيين في كفاحهم للتحرر من ظلم اسلامي، بل وأيضا لان هذه كانت مصلحة قوى عظمى، لبريطانيا وروسيا، في اضعاف الامبراطورية العثمانية. تأييد الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي لمشروع التقسيم واقامة دولة يهودية في بلاد اسرائيل نبع ليس فقط من الصدمة في ضوء رعب الكارثة، بل وأيضا من اعتبارات معقدة للسياسة الخارجية والسياسة الداخلية للقوتين العظميين.

        هكذا ايضا في جنوب السودان: حقيقة أن قسما هاما من سكانها مسيحيون دفعت نحو ضغط جماعات بروتستانتية على حكومة الولايات المتحدة لالقاء ثقلها في حق تقرير المصير للجنوب. وكما يمكن ان نرى في احيان قريبة في العلاقات الدولية، لا تكفي الاعتبارات الانسانية لتحقيق النتيجة المنشودة من ناحية اخلاقية. اعتبارات السياسة والقوة ضرورية لان يتحقق في العالم الواقعي الامر المناسب من ناحية المعايير الاخلاقية.

        في تاريخ الصهيونية كان هذا هرتسل هو الذي فهم بانه بدون دعم القوى العظمى لن تقوم قائمة للصهيونية، وعليه فقد غازل القياصرة، الملوك وذوي النفوذ، السياسة التي اثبتت نفسها مع الايام في تصريح بلفور وفي قرار التقسيم. لا يكفي أن تكون محقا: يجب أن يكون لك دعم من القوى العظمى. هذا صحيح على نحو خاص للشعوب الصغيرة والضعيفة مثل اليونانيين، اليهود، الاكراد – والان جنوب السودانيين ايضا.

        لاستقلال جنوب السودان يوجد جانب آخر: حدود السودان، الذي نال الاستقلال من الحكم الانجليزي – المصري المشترك (الذي كان عمليا حكما انجليزيا) في 1956، تقررت بعد سيطرة بريطانيا على المنطقة في اواخر القرن التاسع عشر. وهي لم تتوافق مع أي اطار جغرافي أو تاريخي، وكانت فقط تعبيرا عن قدرة التوسع للامبراطورية البريطانية.

        وفي ذلك لم يكن السودان مختلفا عن دول اخرى في المنطقة، حدودها ومجرد قيامها تقررا بشكل تعسفي من قبل الامبريالية البريطانية والفرنسية، بعد هزيمة الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الاولى. وهذا صحيح بالنسبة لكل دول المنطقة، باستثناء مصر – الدولة العتيقة وعريقة التاريخ. بريطانيا وفرنسا رسمتا الحدود ووزعتا مناطق النفوذ بينهما، دون أي حساب لاحتياجات، تركيبة او طبيعة السكان.

        كل الدول التي اقيمت في المنطقة بعد أن تحررت من الظلم الاستعماري كانت مخلوقات مصطنعة، هندست حدودها دون مراعاة التاريخ المحلي، المبنى العرقي اوالديني او المؤسسات السلطوية القائمة: سوريا، العراق، لبنان، الاردن، ليبيا والسودان في حدودها القائمة هي مخلوقات حديثة، ثمة قرارات امبريالية اوروبية.

        المفارقة هي أنه عندما نالت هذه الدول الاستقلال، كانت من مصلحة حكامها المحليين – سواء كانوا من سلالة ملكية أم دكتاتوريون لجمهوريات عسكرية – الحفاظ على تلك الحدود، من مغبة أي تغيير كان كفيلا بان يجرها الى حروب ونزاعات لم يكن ممكنا أن يحمد عقباها. هكذا أصبحت سوريا أو العراق – اللذان لم يكونا قائمين كوحدتين سياسيتين في حدودها الحالية، وبالتأكيد ليس في عهد الحكم العربي الاسلامي في المنطقة – دولتين منفصلتين.

        اداة قمع

        حقيقة أنه في كل هذه الدول كانت أقليات قومية ودينية عديدة (مسلمون سنة وشيعة، مسيحيون من طوائف مختلفة، اكراد، دروز وعلويون)، أدت ضمن امور اخرى الى نشوء أنظمة دكتاتورية. فأنظمة الطغيان وحدها مثل تلك التي في سوريا وفي العراق كان يمكنها ان تبقي معا فسيفساء متنوعة هذه من الطوائف، الاديان والقبائل.

        أي من هذه الدول – باستثناء مصر – لم تكن دولة قومية بالمعنى الحديث للكلمة. ايديولوجيا القومية العربية، التي عرضت هذه الدول الجديدة كجزء لا يتجزأ من العالم العربي وشكلت نسغا مكتلا منحها الشرعية كانت صحيحة في جزء منها فقط. لكن على مدى عشرات السنين شكلت اداة مثالية شديدة القوة لقمع الاقليات – الاكراد في العراق وفي سوريا، غير العرب في السودان. كما أن الضغط المتواصل على لبنان، للسير في الخط العربي العام على حساب تميزه كمجتمع متعدد الاعراق ومتعدد الاديان، هو جزء من محاولة فرض هوية قومية عربية على مجتمع تعددي هو أكثر تعقيدا بكثير.

        استقلال جنوب السودان هو اشارة الى انحلال الاطر ما بعد الاستعمار هذه التي باسم الايديولوجيا القومية العربية، سعت الى فرض التكتل والوحدة في اماكن سادت فيها عمليا كثرة الالوان. سبق ذلك تبلور حكم ذاتي بحكم الامر الواقع للاكراد في شمالي العراق، بعد سقوط صدام حسين، فيما أن استمرار وجود العراق، الممزق بين اغلبية شيعية واقلية سنية، لا يزال غير مضمون.

        المظاهرات ضد النظام العلوي لعائلة الاسد في سوريا تقودها اجزاء واسعة من الاغلبية السنية، مع آثار على مستقبل لبنان. في ليبيا ايضا يتبين أن سيطرة الثوار في بنغازي وفي شرق الدولة، بينما ينجح القذافي حاليا في السيطرة في طرابلس وغربي الدولة، تعبر عن شرخ تاريخي بين كرينيكا الشرقية وطرابلس الغربية، اللتين وحدتا في كيان ليبي واحد تحكم الحكم الاستعماري الايطالي فقط. الصراع الداخلي المتلوي في اليمن يمثل هو ايضا اساسات سبارتية تاريخية في جنوب الدولة، على مدى عشرات السنين كانت دولة مستقلة.

        15 دولة

        فهل معنى الامر أن بعضا من الدول الغربية قريبة من الانحلال؟ من الصعب أن نعرف، ولكن واضح ان للتحولات التي تجتازها المنطقة يوجد ايضا جانب من تحرر الاقليات وضعضعة الحدود القائمة.

        في الاشهر الاخيرة وان كانت تركزت المظاهرات على معارضة الانظمة الدكتاتورية، ولكن ما أن اهتز الوضع الراهن للقوة، حتى علت الى السطح الجوانب المرتبطة بالتعددية العرقية والدينية التي تميز دولا حتى الان اعتبرت ذات طابع قومي عربي موحد. هذا الجانب مهم بقدر لا يقل عن الرغبة في استقاط انظمة الطغيان.

        يبدو أن بالذات في قناة "الجزيرة" التي تمثل اليوم ما تبقى من الايديولوجيا العربية الموحدة، فهموا ذلك أكثر من غيرهم. فخلافا للتقارير العاطفة في وسائل الاعلام العالمية على استقلال جنوب السودان، تميزت تقارير "الجزيرة" بامتعاض ظاهر.

        وكما يمكن ان نرى من تجربة شرق اوروبا، فان انحلال الانظمة الشيوعية لم يؤدِ فقط الى صعود انظمة ديمقراطية الى الحكم بل ايضا ادى الى اعادة التشكيك بالحركات القومية التي قمعت تحت الايديولوجيا الشيوعية سواء في صيغتها السوفييتية المتصلبة أم في صيغتها اليوغسلافية الاكثر رقة.

        ليست كل الانظمة ما بعد الشيوعية هي ديمقراطية (بالتأكيد ليس في روسيا وجمهوريات وسط آسيا)، ولكن المبدأ الذي يوجهها جممعها منغرس في الوعي القومي: على خرائب الاتحاد السوفييتي قامت 15 دولة قومية، يوغسلافيا انحلت بالدم وبالنار الى عناصرها القومية، وحتى تشيكوسلوفاكيا انحلت بطريقة الطلاق السلس.

        وعليه، فان لما حصل في جنوب السودان ثمة معنى يتجاوز مصير الدولة الجديدة، التي لا بد ان مستقبلها لن يكون سهلا، في ضوء هزالها، وحقيقة أن ترسيم حدودها مع السودان لا يزال مفتوحا وكفيل بان يتدهور الى عنف جديد. ما هو واضح هو أن أي حدود ليست مقدسة أو خالدة: وبالتأكيد ليست الحدود التي قررها تعسفيا حكام امبرياليون لم يراعوا الواقع التاريخي والقومي على الارض.