خبر وقفة بين الإصلاح والتغيير.. علي عقلة عرسان

الساعة 05:03 م|08 يوليو 2011

وقفة بين الإصلاح والتغيير.. علي عقلة عرسان

الإصلاح في حدوده الدنيا والقصوى هو مطالب محددة سياسية واقتصادية واجتماعية وإدارية وثقافية، تتدرج منطقياً وواقعياً، ويتم الالتزام بتنفيذها ضمن برنامج زمني معقول ومقبول، مع مراعاة الإمكانيات والأدوات والاحتياجات والأولويات والظروف الموضوعية لوطن ودولة ومجتمع، ويمكن رفع سقف الإصلاح المطلوب في كل مجال من الحياة والحكم والعيش والعمل والإنتاج ليكون أشمل وأوسع وأعمق، لكنه يبقى محدداً ومحكوماً بواقع ووقائع وحسن نوايا ومعطيات موضوعية، وبمصالح الناس والوطن أولاً وأخيراً، ومقيداً بقدرات وبرامج وزمن يمكن ضبطه والوقوف على حسن الأداء فيه.

أما التغيير فمختلف الأهداف والأبعاد والأساليب، على الرغم من أنه ينطوي على إصلاح من وجهة نظر من لا يرى إمكانية إصلاح القائم أو الوصول إلى الإصلاح عبره وأنه لا بد من تغييره. والتغيير ينطوي على جذرية تامة وشاملة تطال الحكم والنهج والسياسات والخيارات والتوجهات والشخصيات، بالأساليب والأدوات الممكنة التي قد يضع المتوجهون نحوه سقوفاً أخلاقية ووطنية واجتماعية له.. وينطلق المطالبون به من رؤيتهم إلى أن القائم من الأوضاع والأحكام والسياسات والتوجهات والمناهج غير مقبولة من وجهة نظرهم، ولا يمكن إصلاحه بالشكل الذي يتطلعون إليه، ويرون أنهم هم من يستطيع أن يقوم بما هو أفضل وعلى وجه أكمل.. وأن المستهدَف بالتغيير محكوم عليه وليس له، ولهم أسبابهم ومآخذهم التي قد تكون موضوعية مشروعة وقد لا تكون، ولهم أيضاً طموحهم المشروع الذي يعبرون عنه ويتطلعون إلى بلوغه بمشروعية أو من دونها.. ولهم وللمستهدَفين بالتغيير في كل ذلك ذرائع وأساليب قد تكون حقيقية مقبولة وقد لا تكون، وهم جميعاً يلتمسون ذرائع تُسند بوقائع، وتتنوع وفق المصلحة الموقف والهوى والغرض والأساليب التي تؤدي إلى الغايات المنشودة، بصرف النظر عن المشروعية الأخلاقية والوطنية.   

وبين الإصلاح والتغيير فروق جوهرية قد لا تنحصر في مدى الشمول والجذرية ـ ولا نتكلم هنا عن الأساليب التي تتبع والأدوات التي تستخدم للوصول إلى كل من الإصلاح والتغيير ـ وهي فروق يراها ويدرك سبلها ونتائجها والأهداف منها كل ذي فكر ورؤية ووعي وتجربة وانتماء، من المعنيين بالأمور العامة: سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، على المستوى الوطني والقومي، سواء أكانوا أفراداً أو جماعات، أحزاباً أوتنظيمات أو نقابات ومؤسسات وتكتلات، ممن هم في السلطة أو في المعارضة أو يتربصون بالطرفين لأغراض وغايات. وقد يبشر بذلك ويدعو إليه ويعمل من أجله منتمون واعون حريصون على المصلحة العليا للمواطن والوطن والأمة، يحكٍّمون العقل والمنطق، وينظرون بموضوعية إلى الوقائع والمعطيات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو مخلصون تدفعهم الحماسة والحاجة والوقائع والمشاعر المختلفة الأنواع والألوان إلى الاندفاع في هذا الاتجاه أو ذاك وإلى هذه الدرجة أو تلك من سقوف المطالب، ولا يهمهم سوى أن يصلوا بسرعة وقوة بصرف النظر عن الأساليب والنتائج والتكاليف، فمشاعرهم وشكاواهم وحماستهم مفتاح الحل والعقد عندهم.. وغالباً ما يقعون في فخ من يستثمر حماستهم ويوظفها لمصالحه، أو من يركبون موجة اندفاعهم ويستغلون تضحياتهم ليصلوا إلى أهداف ضيقة وغايات ومصالح خاصة.. وقد يقول بالإصلاح ويتدرج إلى التغيير بأية وسيلة أصحابُ طموح ونزوع سياسي وفكري يتطلعون إلى السلطة، ويرون في وصولهم إليها وسيلة لتحقيق ما يرون أنه المصلحة العامة، وطنياً واجتماعياً، وأنهم الأقدر على تحقيق ذلك من سواهم.

وكل ما يتطلع إليه مواطن شريف قادر مخلص ومنتم إلى تربة وطنية وقومية وثقافية إنسانية، رافض للأمراض السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولكل شكل من أشكال الظلم والاستبداد والاضطهاد والفساد والإفساد والاستلاب والتخلف والجهل والتجاهل والتمييز المرَضي على أية أرضية كان.. هو تطلع مشروع وهدف سام ورسالة إنسانية حضارية، والوصول إلى ذلك التطلع أو نشدان الوصول إليه حقٌ من حقوق الإنسان وحقوق المواطَنة المرعية الاحترام.

وقد يكون بلوغ الغايات والأهداف التي ينشدها الأفراد والجماعات والأحزاب والتنظيمات، المعبَّر عنها في "الإصلاح أو التغيير"، فعل عقلاني إرادي واع جوَّاني مستقل ومسؤول، يتم وفق أصول المواطنة وشروطها ووفق الشرع والحكم والعقل والمنطق، بأساليب تعبير وإبلاغ سلمية وقانونية وأخلاقية، فردية وجماعية، وعبر صيغ وتدابير إنسانية وحضارية، منها الاحتجاج والتظاهر والحوار وأية وسيلة أخرى كفيلة بالتعبير عن الموقف بقوة وإيصال الصوت والرأي بمسؤولية والتزام اجتماعي ووطني وحضاري.. أو يكون ذلك عبر أساليب التمرد والعنف والتطرف والثورة.. ويتوقف على الجهة المستهدَفَة بالإبلاغ عن المطالب، أي الجهة المطالبَة بالإصلاح أو بالتغيير وهي السلطة، يتوقف عليها إلى حد كبير أمر التحكم بتطور الأمور وترجيح أحد النهجين "السلمي أو العنفي" على الآخر، حسب تفهمها وتعاملها واحتكامها إلى القانون والعقل والمنطق والمسؤولة السياسية والقانونية والحكمة والأخلاقية وتحكيم القيم الوطنية والاجتماعية والإنسانية التي يمليها الموقع وتمليها المكانة والجهة "الشعب"  التي تضعها في الموقع وتمنحها المكانة وتحاسبها على أدائها.. وهي "أي السلطة" معنية من جهة ومطالبة بحكم سلطتها من جهة أخرى بالموقف الأكثر توازناً وعدلاً وحكمة وموضوعية وحنكة، لكي توفر بيئة صحية للعيش الكريم الآمن، وللتعبير عن الشكوى والمظالم والمطالب، وعن الرأي والموقف والتطلع، وتحفظ الوطن قوياً معافى والمواطن حراً كريماً، وتكفل  الوصول إلى الإصلاح أو إلى التغيير عبر الأساليب الديمقراطية والإنسانية العادلة.. فهدف أي حكم وحاكم حفظ الوطن والمواطن وتحقيق العدالة وشروط العيش الكريم في ظل أمن من جوع وخوف.

ولكل من النهجين " السلمي والعنفي" اللذين قد يتبعهما طالب الإصلاح أو طالب التغيير أو المستهدَف بهما، تكاليفه ونتائجه، وله أيضاً سبله وأساليبه وأدواته ومسوغاته.. ويبقى تفاعل الأمور والمواقف وتدحرجها في أحد الاتجاهين "السلمي أو العنفي" منوطاً بموقف كل من الطرفين المعنيين بالدرجة الأولى: الطرف المنادي بالإصلاح أو المطالب بالتغيير أو المتذرع بهما لبلوغ أهداف وغايات سياسية، والطرف المستهدَف بهما على ما له وما عليه.. إلا إذا كان وراء أي منهما قوة خارجية تحميه وتغريه وتدفعه باتجاه ما، وتحثه على الأداء بطريقة معينة وصولاً من تلك القوة إلى أهدافها وغاياتها ومصالحها عبره، تلك التي قد تخفى عليه/ عليهم في دوامة الاندفاع نحو تحقيق غاياته بأية وسيلة وعلى حساب أية قيمة مهما كانت.

وحين يتحول كل من الطرفين المطالِب بالتغيير والمستهدَف به مقاتل من أجل بلوغ السلطة أو البقاء في سدتها بعيداً عن القيم والمصالح العليا للناس والوطن، وعن المرجعيات القانونية والوطنية والاجتماعية والأخلاقية، تزول المشروعية الأخلاقية والقانونية والوطنية في الصراع عن كل منهما، ويصبح الوطن والمواطن ضحيتهما، وينزلق الأمر إلى صراع دموي مُدان غاية أطرافه التحكم والتسلط والثأر والقهر وليس الحكم والحكمة والعدل والخدمة العامة ذلك أن الحكم بالعدل والإنصاف مسؤولية وتكليف وموقع تضحية وترفع وتسامي بالدرجة الأولى.. ويخرج كل طرف في هذه الحالة عن الأصول وعلى الشرع والتشريع، على الدستور والقوانين والأنظمة والشعب ومصلحة الوطن والمواطن، ويستهدف التقاتل الدموي أرواحاً وحيوات، ويذهب ضحيته الأبرياء ومصالح الوطن ومكانته وقوته وهيبته، ويتم كل ذلك من أجل غايات وأهداف لا ترقى إلى درجة مقبولة في سلم المعايير والقيم الوطنية والإنسانية.

       إن تدمير العلاقات الاجتماعية السليمة والعريقة، وتخريب النسيج السكاني، وزرع الضغائن والأحقاد في قلوب الناس، وإثارة النعرات البغيضة وبقاء تلك المريضة، وخلق بيئة صالحة لنمو الفتنة، وتقريب انهيار الاقتصاد، وإضعاف البلاد.. هو بالمطلق تمكينٌ لعدو الأمة التاريخي من تحقيق مكاسب ومطالب على حسابها، وإمعان في تقويته والتمكين له على حسابها، وهو تدمير لقيم ومقومات وبنى وقوى وطنية وقومية دفعت أجيالنا ثمناً باهظاً من أجل تحقيقها والمحافظة عليها على الرغم من ضآلتها قياساً على ما تطلع إليه منها.. وفي ظل صراع وضعف وضياع واقتتال، وأوضاع متردية تنذر بالمزيد من التردي، لا يمكن أن يتحقق هدف وطني سام لأي كان، ولن يرتفع مقام أي شخص حين يكون ذلك على حساب الوطن والمواطن وقوة الجبهة الداخلية لشعب محتلة أرضه ويتعرض للاستهداف، لن يرتفع ولن يُقبل منه عذر أياً كانت غاياته وأسبابه وقواه، ولن تشفع له الجهات التي تسنده أو يستمد منها سنداً ليحقق هدفاً من أي نوع.

نعم للحرية والكرامة والديمقراطية والعيش الآمن في وطن حر مستقر مزدهر، نعم للشعب السيد ذي الإرادة والسيادة مصدر السلطات الذي يمنح ويمنع ويحاسب ويكافئ، للشعب صانع المعجزات بوحدته ووعيه وتضحياته وثباته على الحق والمبدأ.. نعم لكل شعار نبيل، ولكل استحقاق سليم، وتصرف مسؤول.. على أن يستنبت كل ذلك في تربة الوطن وتربة الأمة العربية، ثقافة وعقيدة وهوية وصلابة.. فهذا بيت كريم من بيوت العرب لن يبنيه ويحافظ عليه وينميه إلا العدل والحب والحكمة والحرص على شعبه بكل فئاته، بكامل الحقوق والحريات والاحترام الواجب لكل مواطن.. ولن يبني هذا البلد أو يصنع حاضره ومستقبله ونهضته من لا يملكون إلا قول "لا"ً والوقوف في العراء من دون قدرة على البناء والتصرف والتكيف.. ولن تقيمه قوة تفقد أبناءه القدرة على التحرك والتدبير والتعبير بحرية وكرامة ومسؤولية وإبداع، ولن يفيده في شيء من ينشر فيه الرعب والفوضى والديماغوجية والكذب، ولن يسوده أو يقوده المستظلون بالأجنبي ومن يستعْدُون عليه الأعداء، ومن يقودهم سياسياً اليوم وثقافياً بالأمس القريب اليهودي الصهيوني السفارديمي العنصري، الأستاذ في جامعة تل أبيب، والصحفي العسكري المتفلسف صديق نتنياهو ومصدر الحقد على العرب المسلمين برنارد هنري ليفي.. مع تقديري واحترامي الكبيرين لمعارضين سوريين تبرؤوا من ذلك الفعل، ورفضوا الاستعانة بالأجنبي على وطنهم.

هذا الوطن راسخ في العروبة والحضارة والتضحية والانتماء للأمة والعقيدة ومقاومة الاستعمار.. إنه سورية دار الأمويين قديماً وبيت من بيوت العرب حديثاً، بكل أبنائها وشرائحها الاجتماعية.. هذا تاريخها وستبقى مهما كبا الركب وطمى الخطب.      

لا يوجد في هذه الأرض المباركة أكرم ولا أكثر نبلاً من شهداء الوطن الذين ضحوا من أجله، بعيداً عن الغايات الخاصة والأغراض الوقتية والمنافع والمكاسب والمراتب والمناصب..إلخ ولهؤلاء أهداف سامية، وأهدافهم أمانة في عنق كل مواطن في كل جيل.. والإخلاص لهم إخلاص للوطن، وحفظ أمانتهم يتمثل في تحقيق أهدافهم التي على رأسها تحرير الوطن الذي ترتبط بتحريره حرية المواطن وكرامته ارتباطاً عضوياً تاماً، ويتوقف تحرير الوطن على المواطن الحر الكريم المحترم الآمن العارف المتقدم في مجالات مادية وروحية، وطنية وقومية، اجتماعية واقتصادية.. وثقافية فوق كل شيء وقبل كل شيء، ثقافة أهملناها طويلاً ورضينا بالادعاء والأدعياء في كثير من مجاليها.. فذاك المواطن الأصيل الحر والكريم هو الذي يحرر ويرفع رأسه عالياً بانتمائه الكبير إلى وطن عزيز وأمة عظيمة.

 

دمشق في 8/7/2011