خبر لا وطنية على حساب الوطن..علي عقلة عرسان

الساعة 04:57 م|10 يونيو 2011

لا وطنية على حساب الوطن..علي عقلة عرسان

دم ينزف، ونزوح يتجدد، وعذاب وخوف، وانغلاق أفق أمام كثيرين من الناس، وتآمر مكشوف تتجاوز أهدافه ونتائجه النظام والأحزاب والطوائف والأشخاص ليصيب الأرواح والأنفس والبلاد والمواقف والمبادئ والثوابت الوطنية والقومية في مقاتل، وكذب مفضوح أصبح من أسلحة الوقت المشهَرة، وتزوير كبير للصورة، وتشويه خطير للحقيقة، وحماقات وأخطاء كثيرة ومثيرة، وتصرفات " تُعمي وتُُصم"، وتعبر عن جهل أو تجاهل، وتنمي حقداً ينمو في القلوب ويتفتح في الدروب.. وعناد بلا ضفاف من هنا وهناك يأتي على فرص الحوار والتفاهم والتعاون في ظلال الوطن ومن أجله.. وانعدام للمسؤولية الوطنية والقومية والاجتماعية يتجلى في تنكر لقيم وعلاقات وحقوق ومعايير سلوك، ويوجه التحرك والتعبير من سيء إلى أسوأ.. وتنكر لحقائق ومعطيات ووقائع على الأرض يزري بكل رؤية ومنطق وعقل ويمس مقومات الضمير، ولا يؤدي إلا إلى كوارث تلحق بالبلاد والعباد.. فما الذي يجري لنا في أرضنا وتربتنا الثقافية وبيئتنا الاجتماعية والوطنية؟! ونحن نعرف جيداً ما يحيط ببلدنا وبأمتنا، وما يدبر لنا وينتظرنا من مصير، على أيدي أعداء عنصريين محتلين لا يردعون ولا يرتدعون، وآخرين ذوي أطماع وتاريخ استعماري مديد لا يرون في الشعوب والبلدان والأشخاص إلا مصالح ومخالب وبيادق.؟!

طريق خلاصنا مما نحن فيه أوضح من أن يوضَّح، وبلوغ الأهداف التي يرفعها المتظاهرون ويقر بشرعيتها المسؤولون يمكن أن يكون أقرب منالاً وأقل تكلفة وأكثر فائدة.. لو كانت مصلحة الشعب والوطن هي الأعلى فعلاً: قولاً وعملاً.. ظاهراً وباطناً، وهي شاغل المشغولين بالسلطة والمعارضة وهمومهما، والمبتغى الأسمى لدى كل من ينشد الإصلاح والتغيير بحرص على سلامة الوطن والمواطن ومناخ الحرية والكرامة والديمقراطية والمواطَنة، والسعي المجدي نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والحقوق الفردية..إلخ ويهمه أن يتحقق ذلك للمواطنين والوطن على أرضية مشتركة متينة يتم البناء عليها بثقة وتعاون واقتدار وشراكة تامة ووعي وانتماء والتزام وطني وقومي واجتماعي وخلقي يرتب المسؤولية بكل أبعادها. وليست موضوع تشدق كلامي ومناورة ومداورة وسعي لشيء مغاير يستبيح الأساليب والوسائل، ويغرق الوطن والمواطنين في العنف والظلام، ويفصح عن تحديات وصراعات دامية لا تبقي من العلاقات الوطنية والاجتماعية إلا هشاشتها المغلفة بأغلفة براقة، وتؤسس لمستقبل ملغَّم بالأحقاد والعداوات والثارات والنوايا السيئة. إن ذلك واضح ومقبول لمن يجعل الوطن فوق كل الاعتبارات، ولكن التنكر له وتنكب المسالك المؤدية إليه يجعله أشد غموضاً من الغموض وأبعد منالاً من المستحيل.. إن ما يُقال ويتم التوجه نحوه لا يعكس حقائق الحال ولا يصل بالمطالب والأهداف إلى مآلها.. فهنا كل ينصب فخاً للآخر ويستدرجه إلى كمين من نوع ما، وفي هذه الحالة يفقد الكل الثقة بالكل.

 إن مطلب الإصلاح ضروري وعادل ومشروع ولا رجعة عنه، وهناك خطوات فعلية جادة تتم على طريقه لا يجوز تجاهلها ولا الاكتفاء بها، وتقر الدولة بسلطاتها لثلاث وتكوينها العام بضرورته وأهميته وتتوجه نحوه وتعمل على تحقيقه على الرغم من تشكيك المعارضة بذلك، ولكن مطلب التغيير وأبعاده ومداه هو محور الصراع، فالتغيير الذي يطالب بإسقاط النظام كلياً أبعد من أن تهضمه أطراف سورية شعبية ورسمية مؤثرة في حين تتمسك به أطراف.. وهذا الوضع بحد ذاته، إذا استمر على هذا النحو، فنه سيؤدي إلى كسر عظم وطني لا يُجبَر وإلى صراع داخلي قد لا يحسم بغير القوة، ولكن تأثيره الذي قد يتوقف عند حد لن ينتهي بصورة بنهائية.

إن استدراج سورية إلى فخ الصراع الدامي ومحاولات إغراقها في دوامته ستكون له انعكاسات وتبعات قومية وإقليمية ودولية لا يمكن الاستهانة بها.. ولا يمكن استبعاد الأهداف السياسية الإقليمية والدولية من المشهد إذا أردنا قراءته بشيء من الإحاطة.. ذلك لأن تطوير الأحداث الداخلية في سورية وتأزيمها ووضعها في مدارات دولية، منها مجلس الأمن الدولي، والضغط عليها من خلال فتح ملفات شبه ميتة ـ مثل الملف النووي الذي لها أكثر مما عليها فيه لو أن..؟! ـ  أمر لا يمكن عزله، ولا حتى فهمه، إلا في ضوء ما يدفع باتجاهه ويركز عليه أولئك الذين يريدون إضعاف سورية وتغيير خياراتها السياسية واستراتيجيتها وتحالفاتها، واحتواء دورها القومي والإقليمي، أياً كان من يتولى السلطة فيها.. لا سيما والوطن العربي يشهد تغييراً ملحوظاً في أثناء إعادة رسم خريطته الجيو ـ سياسية والتوجهات القطرية فيه من جهة، والمنطقة على أبواب استحقاقات لا يمكن تجاهلها من جهة أخرى، وهي استحقاقات تهم قوى دولية غربية على الخصوص وتستنفر قوى دولية أخرى ذات علاقات وتحالفات ومصالح في المنطقة، كما تستثير وتستنفر قوى وأقطاراً وسياسات عربية وإسلامية لها دورها وفعاليتها وتوجهاتها أيضاً.. وفي مقاربة سريعة لبعض ذلك الذي يطرحونه أو يطرح نفسه من وجهات نظر عدة، نذكر الآتي:

1 ـ إن انسحاب المحتل الأميركي من العراق، إذا تم في موعده نهاية هذا العام ولم يمدد وجود قواته باتفاق مع حكومة المالكي، كما يطلب هو وكما يلوح في الأفق العراقي، يتطلب بنظر الأميركيين والصهاينة وبعض العرب ترتيبات خاصة منها: ألا يتم تقديم أي دعم للمقاومة العراقية، وأن يتم الانسحاب من دون مشكلات أمنية ولا خسائر بشرية" وسورية مقصودة بهذا المطلب لأنها دولة جوار للعراق، ومتهمة أميركياً بدعم المقاومة العراقية "أي ما يسمونه الإرهاب؟!"، وأن يبقى العراق بأيدٍ موالية تماماً للأميركيين، وأن تستبعد سيطرة إيران عليه ويتم الحد من نفوذها فيه.. هذا إذا لم يتم توافق إيراني ـ أميركي، صهيوني ضمناً ـ وغربي على أمور ومستجدات تشمل الملف النووي الإيراني، وحزب الله، والموقف من إسرائيل.

إن هذا الانسحاب مع استحقاقات أخرى قادمة في باكستان وأفغانستان، قد يؤدي إلى تأثير إيراني متزايد في العراق، وإلى تشكل محور " طائفي بنظر عرب ومسلمين وحلفاء لهم"، يمتد من طهران إلى بيروت عبر بغداد ودمشق. وهذا سيثير ثائرة المنطقة كلها، لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي ومصر وبلدان عربية وإسلامية أخرى منها تركيا.. وسيكون خطراً على أمن المنطقة واستقرارها وعلى أمن إسرائيل واستقرارها من وجهة نظر.. لا سيما في ظل صحوة شعبية لها وجه إسلامي. ولذلك ترى الأطراف في المنطقة وتلك المعنية بأمرها مواجهة ذلك والتفاهم حوله أو احتواءه أو التصدي له، كل من موقعه وحسب مصالحه وتحالفاته واستراتيجياته. وكثير من القوى والأطراف ترى أن سورية هي بيضة القبان في ذلك المحور.. فإذا تم تغيير نظامها ذي المسحة القريبة من إيران والمتحالف معها، تحقَّق قطع هذا المحور من جهة وعزل إيران أو الحد من نفوذها العام، وعزل حزب الله في لبنان، وإضعاف المقاومة الفلسطينية، وإخراج لبنان مما يسمونه دائرة التأثير السوري ـ الإيراني، ليصبح تحت سيطرة قوى قريبة جداً من فرنسا خاصة والغرب عامة، ولا يملك قوة مقاومة تمنع التصالح مع إسرائيل وتتصدى لتهديدها.    

2 ـ إن عرض موضوع الاعتراف بدولة فلسطينية على هيئة الأمم المتحدة في أيلول القادم، وإقبال عدد كبير من الدول على هذا لاعتراف.. يتطلب عزلاً للمقاومة لفلسطينية والتخلي عنها، بل والقضاء عليها بوصفها إرهاباً.. ومن الطبيعي أن هذا الاعتراف، إذا ما تم، سيؤدي إلى معالجة كل ما يتصل بالصراع العربي الصهيوني ومنه موضوع القدس وحق العودة والجولان والأراضي المحتلة من لبنان.. إلخ. وسورية طرف مباشر في ذلك، فهي تستضيف منظمات مقاومة فلسطينية وتدعمها، وترفض أن تتخلى عن المقاومة اللبنانية، وتشكل جسر الاتصال بينها وبين إيران، وهي حليف لإيران التي تعلن موقفاً متشدداً من إسرائيل". 

3 ـ إن استمرار نظام ذي نزوع قومي لا يتلاءم مع الترتيب الجديد للمنطقة التي يُراد لها أن تعطي ظهرها للقومية العربية وكل ما يتصل بها من شعارات وتوجهات وأفكار، لأن استقرار إسرائيل وهيمنتها لا يكون تاماً وناجزاً في ظل وجود تيار قومي يقول بعروبة فلسطين وتحريرها، ويمكن أن تستند إليه مقاومة عربية أو يحمل هذا النوع من الفكر ويحرض على الأخذ به. ولديهم أن القضاء على النزوع القومي مقدم على مواجهة التوجه الإسلامي، ويمكن الاستفادة من تنافرهما التاريخي لإضعافهما معاً بالاقتال. على أن التيارات الإسلامية التي تستعيد حضورها ستبقى من وجهة نظرم محكومة بصراعات جاهزة، قديمة ومتجددة ومستجدة، صراعات دينية مع أقليات، وصراعات مذهبية بين المذاهب، وستبقى على مشارف فتنة بين "سنة ـ شيعة"، حيث يقوم الغرب والصهيونية كل منهما بدوره في ذلك.

  إن هذه الاستحقاقات والمعطيات والتوجهات تطرح على دول وقوى كبرى في العالم أسئلة وتضع أمامها قضايا ومصالح، وتضعها أمام التزامات داخلية وإقليمية ودولية.. وعلى رأس تلك الدول والقوى المؤثرة في الوضع والمتأثرة به: الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ودول كبيرة أخرى مثل الهند والبرازيل وألمانيا، ودول عربية وإسلامية على تماس مباشر بالأمر.. ولكنها تطرح علينا أيضاً، كل من موقعه، مسؤولة أن نتبيَّن مصالحنا ودورنا ومكانتنا وما ينفعنا وما يضرنا، وأن نتوخى في كل تصرف وقول وتحرك وسلوك كل ما يحفظ أمننا واستقلالنا ومصالحنا وهوية شعبنا ووجوده.

إن نظرتنا إلى المشهد السياسي وإلى الأحداث من هذه الزوايا الحادة بالذات، لا يعني مطلقاً عدم مسؤولية الأطراف السورية خاصة " الرسمية والشعبية"، والأطراف العربية والإسلامية عامة.. عن الوضع الذي قد يصبح كارثياً في هذه المنطقة وفي بلدان منها ع وجه الخصوص، ولا يعني عدم مسارعتها إلى التبصر في شؤونها، ورد الطمع والغزو والعدوان ولتآمر عليها، بوعي وتكاتف وإرادة خيرة. ولا يعني أن على أقطار منها خاصة ـ  وأعني بالدرجة الأولى هنا سورية ـ إجراء إصلاحات وتغييرات جوهرية، ومعالجة مسؤولة لكل القضايا المطروحة على بساط التداول العام وتلك التي تعتلج في النفوس ولا يحملها الكلام إلى فضاء أوسع، والقيام بكل ما من شأنه سد الذرائع، وإغلاق الباب أمام التدخل الخارجي، وحقن الدماء، ونبذ العنف، ولجم الفساد والإفساد، ورفع الشكوى، ولمِّ شعث المجتمع بكل أطيافه على الحق والعدل والحرية والخير والاحترام.. كما أنه لا يعني عدم وجود واقع مؤلم يحتاج إلى معالجة، وأمراض مزمنة تحتاج إلى جراحة كبيرة، وقضايا وطنية مصيرية تحتاج إلى مواجهة استحقاقاتها وإلى إعداد واستعداد لذلك بمسؤولية ووعي للنهوض بما تلقيه على كاهل الوطن والمسؤولين والموطنين من مهام وتبعات وأعباء.. إن هذا الوطن كبير وقادر، وفيه مجال لكل مخلص وبناء ومبدع ومستظل بظله الظليل، وتاريخ هذا البلد العريق، سورية، العريق يؤهله لكل عظيم وكبير من الشؤون والإنجازات، وهو وطن الجميع بلا استثناء.. فلا ينزلن به أحد إلى حضيض لا يليق به، وليعلمن كل من يفعل ذلك، أو يتغاضى عمن يفعله، أو يذهل في لحظة ما ولسبب ما عما يؤدي إلى ذلك من قول وفعل.. ليعلمن أنه خاسر من الخاسرين، وربما أكبر الخاسرين ومن يتحملون مسؤولية الخسران المبين، لأنه لا توجد وطنية على حساب الوطن، ولا حرية ولا كرامة لمواطن خارج حدود وطن حر كريم، ولا مربح على حساب خسارة الوطن وخسارة الناس فيه لحياتهم واستقرارهم وأمنهم وحريتهم وكرامتهم والعدالة الاجتماعية التي تقيم قوام مجتمعهم وحياة أجيالهم..

دمشق في 10/6/2011